عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى الأدب عام 1988 شاركه الفرحة بالفوز كل الناس على اتساع الوطن العربى.. وحتى الذين لا يعرفون محفوظ إلا من خلال الأفلام المأخوذة عن رواياته لم يختلف رد فعلهم إزاء الاعتراف من الهيئة المقدمة للجائزة بعمق وعظمة إبداع الأديب العربى الكبير. شخص واحد فقط شعر بالحزن وملأت الحسرة قلبه. هذا الشخص هو الأديب العظيم يوسف إدريس، صاحب المدرسة الإبداعية فى القصة القصيرة وصاحب الإنتاج الرائع المتميز. أحس إدريس أن اختيار محفوظ للجائزة قد باعد بينه شخصيا وبين الفوز بها، حيث لا يمكن -على حد قوله- أن يمنحوا الجائزة لأديب آخر من مصر قبل ثلاثين سنة على الأقل. لم يكتم يوسف إدريس مشاعره فى قلبه، وإنما أعلنها فى كل مكان، زاعما أن نجيب محفوظ فاز بجائزة نوبل لأن مواقفه إزاء إسرائيل لم تكن حازمة، على العكس منه هو الذى لم يترك فرصة لم يندد فيها بوحشية الإسرائيليين، رافضا بشدة أى علاقة أو تطبيع مع الصهاينة. ليس هذا فقط، إنما أخذ الغضب يوسف إدريس إلى حد قوله إنه جاب العالم ولف بلاد الدنيا وطاف وشاف وتفاعل مع الناس فى كل مكان.. أدبائهم وعوامهم، نُخبهم ودهمائهم، وكوّن تجربة حياتية ثرية وسّعت من أفقه القصصى والروائى، على العكس من محفوظ الذى لم يعرف عنه حبه للسفر، وقضى حياته كلها بمصر، ثم أتته جائزة نوبل طائعة تسعى، بينما هو جالس على القهوة مع شلة الحرافيش. لا أنكر أن موقف يوسف إدريس فى ذلك الوقت أصابنى بصدمة، ورأيت فيه شطحة كبيرة من شطحات إدريس الذى كان كالبركان لا حدود لانفعالاته، ورأيت أن نجيب محفوظ لا يستحق منه هذا الغضب، إذ إنه -على حد قول إدريس- كان جالسا على القهوة عندما جاءته الجائزة، فلم يطلبها أو يسعى إليها أو يقوم بعملية دهلزة وحشد من أجل الظفر بها. هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإن قيمة نجيب محفوظ هى أكبر من نوبل وأكبر من الذين يمنحونها، وحتى لو لم يحصل عليها فإن مكانته كانت ستظل كما هى، مثلما ظلت قيمة يوسف إدريس عالية سامقة، دون أن يحصل على نوبل.. ثم إننا لم نر يوسف إدريس ساخطا على أحد ممن فازوا بالجائزة طوال سنوات سبقت فوز محفوظ بها، رغم أن بعضهم كان أدنى قامة من محفوظ بكثير. هى الغيرة إذن التى تغزو النفوس ولا ينجو منها إلا من عصم ربى. والعجيب أن نجيب محفوظ، المتصالح مع نفسه، عندما بلغه ما قاله يوسف لم يرد بهجمة مضادة، ولم يسمح للغضب أن يحرفه عن الحق، وإنما قام بامتداح إدريس، وأكد أنه أديب كبير يستحق الفوز بنوبل! واليوم بعد أن أصبح الأديبان فى ذمة الله فإن المرء لا يسعه سوى أن ينظر فى تجربة كل منهما بصرف النظر عن نوبل، وبوسع الباحث أن يدرك أن الراصد الأعظم نجيب محفوظ، ذلك الرجل المنضبط قد صنع مجده بهدوء وبدأب، فأقام بناء عاليا طوبة فوق طوبة من خلال الكتابة لمدة ثلاث ساعات فى اليوم مهما كانت الظروف لمدة سبعين سنة، أما يوسف إدريس البوهيمى الثائر الذى امتلأت حياته بالتقلبات المزاجية، فإنه أنهك نفسه، وأضاع كثيرا من الوقت، ورغم هذا فإنه فى الوقت القليل الذى أنتج فيه أخرج لنا كل هذا الإبداع. أحببت يوسف إدريس كما لم أحب كاتبا آخر، لكنى استنكرت موقفه إزاء فوز محفوظ بنوبل، ورأيته وموقف صغير أساء إليه، وانتقص من قدره. وأحببت نجيب محفوظ وأكبرت سماحته وتماسكه النفسى، كما احترمت تجربته الفنية التى أثبتت أن الدأب والإصرار فى الإبداع أهم من المزاج على عكس ما هو شائع.