"في العاشرة كنت وكأنني في العشرين، وفي العشرين شعرت بأنني في الأربعين، عشت دائمًا أكبر من سني، أدركت أن طفولتي وشبابي نشلا مني".. «أحمد زكي يتحدث عن نفسه» يقول الروائي البرازيلي العالمي باولو كويلو: "أمران فقط يمكن لهما أن يكشفا أسرار الحياة العظمى.. المعاناة والحب"، النمر الأسود أحمد زكي، هو أصدق مثال فني يُجسد صحة هذه العبارة، فقد كان الألم هو دافعه الحقيقي نحو الإبداع، ومصدر الإلهام والخيال في حياته، لم يصبح كملايين البشر الذين شكّلت أزماتهم عقبات في طريق تحقيق أحلامهم، تخطى أزماته وحوّلها إلى طاقة كبرى خلاقة للأفكار وقاهرة للمعاناة. وفي السطور التالية نتطرق للمآسى التي تعرض لها طوال حياته، مصحوبة بحديث له عن نفسه جاء على صفحات كتاب "تعال إلى حيث النكهة.. رؤى نقدية في السينما" لحسن حداد. نشأة صعبة ولد أحمد زكي يوم 18 نوفمبر 1949 في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، كان يتيم الأب منذ عامه الأول، بالإضافة إلى أن والدته تزوجت وعاشت بعيدًا عنه، فتمت تربيته على يد جده وأعمامه، وكان على الفتى أن يتعلم ويعمل، ثم التحق بمدرسة الثانوي الصناعي، وهناك اشترك في مهرجان المدارس الثانوية ونال جائزة نشأة صعبة ولد أحمد زكي يوم 18 نوفمبر 1949 في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، كان يتيم الأب منذ عامه الأول، بالإضافة إلى أن والدته تزوجت وعاشت بعيدًا عنه، فتمت تربيته على يد جده وأعمامه، وكان على الفتى أن يتعلم ويعمل، ثم التحق بمدرسة الثانوي الصناعي، وهناك اشترك في مهرجان المدارس الثانوية ونال جائزة أفضل ممثل على مستوى مدارس الجمهورية. يقول: "توفي والدي في السنة الأولى، ولم يكن في الدنيا سوى هو وأنا، تركني ومات، أمي كانت فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء، فزوجوها وعاشت مع زوجها، وكبرت أنا في بيوت العائلة، بلا إخوة، رأيت أمي للمرة الأولى وأنا في السابعة، ذات يوم جاءت إلى البيت امرأة حزينة جداً، ورأيتها تنظر لي بعينين حزينتين، ثم قبلتني دون أن تتكلم ورحلت، شعرت باحتواء غريب، هذه النظرة إلى الآن تصحبني، في السابعة من عمري أدركت أنني لا أعرف كلمة أب وأم، وإلى اليوم عندما تمر في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما، أشعر بحرج ويستعصي عليّ نطق الكلمة". بداية متعثرة كان أحمد زكي يسمع دائمًا أكثر من شخص يهمس: "الولد ده إذا راح القاهرة سيُصبح ممثلا كبيرا"، وهو ما فعله في سن العشرين، وفي السنوات الأولى في العاصمة قضى فترة صعبة ومثيرة في الوقت ذاته، وبسبب موهبته الفنية التحق بمعهد الفنون المسرحية، وتخرج في الترتيب الأول على دفعته عام 1973. يقول: "في الزقازيق كنت طالبًا منطويًا، كنت أراقب العالم وتراكمت في داخلي الأحاسيس وشعرت بحاجة لكي أصرخ، لكي أخرج ما في داخلي. وكان التمثيل هو المنفذ، ففي داخلي دوامات من القلق لا تزال تلاحقني، فأصبح المسرح بيتي، رأيت الناس تهتم بي وتحيطني بالحب، فقررت أن هذا هو مجالي الطبيعي، وجئت إلى القاهرة وأنا في العشرين، المعهد، الطموح والمعاناة والوسط الفني وصعوبة التجانس، عندما تكون قد قضيت حياتك في الزقازيق مع أناس بسطاء بلا عقد عظمة ولا هستيريا شهرة، وفجأة، يوم عيد ميلادي الثلاثين، نظرت إلى السنين التي مرت وقلت: أنا سرقت ونشلوا مني 10 سنين، عندما يكبر الواحد يتيمًا تختلط الأشياء في نفسه، الابتسامة بالحزن بالضحك بالدموع". الكومبارس في أثناء دراسته جذب إليه الأنظار بدور صغير في مسرحية "هاللو شلبي" (1969)، ثم قدّمه المخرج جلال الشرقاوي في "مدرسة المشاغبين"، وتكشف صفحات مجلة "سينما الفنون"، أنه في أثناء الاستعداد للاحتفال بمرور ألف عام على تأسيس القاهرة، على شكل أوبريت كتبه صديقه صلاح جاهين، كان أحمد زكي ضمن الكومبارس، لكن نجوم الصف الأول اعتذروا لانشغالهم بأعمال أخرى، وهو ما دفع المخرج الألماني إيرفن لابستر، يرشح الشاب الأسمر لدور البطولة، لكن رفض مدير المسرح سعد أبو بكر، مبررًا: "كيف يؤدي طالب بالفنون المسرحية بطولة أوبريت كبير؟". يقول: "ثلاثة أرباع طاقتي كانت تهدر في تفكيري بكيف أتعامل مع الناس، والربع الباقي للفن، الساعات الأصعب التي تقضيها في الكواليس، كم من مرة شعرت بأنني مقهور، صغير، معقد بعدم تمكني من التفاهم مع الناس، وسط غريب، الوسط الفني المصري، مشحون بالكثير من النفاق والخوف والقلق، أشاهد الناس تسلم على بعضها بحرارة، وأول ما يدير أحدهم ظهره تنهال عليه الشتائم ويقذف بالنميمة، مع الوقت والتجارب أدركت أن الناس في النهاية ليست بيضاء وسوداء، إنما هناك المخطط والمنقط والمرقط والأخضر والأحمر والأصفر، أشكال وألوان". الكرنك شارك أحمد زكي بعدها في عدة أفلام، منها "أبناء الصمت، بدور، وليلة وذكريات"، إلى أن تم اختياره ليشارك في فيلم "الكرنك" (1975)، ولكن رفضه المنتج رمسيس نجيب، بعد أن بدأ التحضير للفيلم، لكونه أسمر، معتبرًا أن وقوفه كحبيب أمام سعاد حسني، سيكون غير مقنع على الإطلاق للمشاهدين، وسيعرقل تسويق الفيلم، فاعتذر له السيناريست ممدوح الليثي، قائلًا: "الموزعين اليومين دول يا أحمد بيتحكموا في السينما"، وأجبر صلاح جاهين "الليثي" على تعويضه بمبلغ 150 جنيهًا، وكان ذلك بحضور السندريلا، وعلى أثر ذلك حاول الانتحار وضرب جبهته بكوب زجاجي ما أدى لجرحها، وتم إنقاذه على يد الفنان الراحل حسن مصطفى، الذي أخذه على المستشفى سريعًا لتُقدمه بعد ذلك الفنانة ماجدة في فيلم "العمر لحظة" (1978)، وفي نفس العام حقق نجاحًا كبيرًا من خلال مشاركته أمام سعاد حسني بفيلم "شفيقة ومتولي"، بعد إصرار بطلة العمل على وجوده، ليبدأ رحلة نجاح كبيرة لم يشهد الفن المصري والعربي لها مثيلًا. الوحدة تزوج أحمد زكي مرة واحدة في حياته، كانت من الممثلة هالة فؤاد، بعدما تعرف عليها في أثناء تصوير مسلسل "الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين" (1985)، ولكن غيرة الزوج الشديدة كانت مصدرا لمشاكل كثيرة، وطلب منها أن تعتزل الفن، لكنها رفضت، فطلقها بعد أن أنجبت له ابنهما الوحيد هيثم أحمد زكي، ورغم الانفصال ظل حبه لها في داخله، وحينما تزوجت هالة للمرة الثانية من الخبير السياحي عز الدين بركات، ونُشرت لها صورة على غلاف مجلة "الكواكب"، وهي في "الكوشة" مع عريسها، ويجلس تحت قدمها نجلها هيثم ممسكًا بالشمعة، ثار أحمد زكي ودخل في حالة اكتئاب، ورفض الاستقرار في منزله، وغادر بيته وحيدًا للبقاء في أحد الفنادق المطلة على النيل، وروى الماكير محمد عشوب، أن زكي حاول الانتحار حينما علم بوفاة هالة في 10 مايو 1993، وتأثر إنتاجه الفني بشدة بعد رحيلها، وقدّم أعمالًا أخفق فيها ومنها: "الرجل الثالث، أبو الدهب، ونزوة"، وصرح قبل وفاته أنه ظلم "هالة"، لذا قرر ألا يتزوج بعدها. يقول: "كنت آخذ كتاب ليلة القدر لمصطفى أمين، أقرأ فيه وأبكي، أدخل إلى السينما وأجلس لأشاهد ميلودراما درجة ثالثة فأجد دموعي تسيل وأبكي، عندما أخرج من العرض وآخذ في تحليل الفيلم، قد أجده سخيفاً وأضحك من نفسي، لكني أمام المآسي أبكي بشكل غير طبيعي، أو ربما هذا هو الطبيعي، ومن لا يبكي هو في النهاية إنسان يحبس أحاسيسه ويكبتها، المثقفون يستعملون كلمة اكتئاب، ربما أنا مكتئب، أعتقد أنني شديد التشاؤم شديد التفاؤل، أنزل إلى أعماق اليأس، وتحت أعثر على أشعة ساطعة للأمل، لدي صديق، عالم نفساني، ساعدني كثيرًا في السنوات الأخيرة، ويؤكد أن هذا كله يعود إلى الطفولة اليتيمة، أيام كان هناك ولد يود أن يحنو عليه أحد ويسأله ما بك". السرطان يقول: "في العاشرة كنت وكأنني في العشرين، وفي العشرين شعرت بأنني في الأربعين، عشت دائمًا أكبر من سني، أدركت أن طفولتي وشبابي نشلا مني، حياتي ميلودراما كأنها من أفلام حسن الإمام". عانى أحمد زكي صحيًا للغاية في أيامه الأخيرة، وفي آخر 3 أشهر له كان يقوم بتصوير فيلمه الأخير "حليم"، فتعب كثيرًا ودخل المستشفى بعدما اكتشف الأطباء أنه كان مصابًا بالسرطان لشراهته في التدخين، كما أُصيب بالعمى قبل وفاته، وهو ما أدى لتدهور حالته النفسية، وطلب التكتم على الخبر، ثم استسلم جسده النحيل للمرض بعدما انتشر في الرئة والكبد، قبل أن تنتهي حياته ومسيرته على سرير داخل مستشفى دار الفؤاد في 27 مارس 2005.