بالأسماء، وزير الداخلية يأذن ل 21 مواطنا بالحصول على الجنسيات الأجنبية    «بحر البقر».. أكبر محطة بالعالم لمعالجة الصرف الزراعى بسيناء    رئيس الوزراء يُهنئ البابا تواضروس الثاني بعيد القيامة المجيد    إزالة 36 حالة تعدي على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالشرقية    «مدبولي» لممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية: نهتم بتوسيع نطاق الاستثمارات بالمجالات المختلفة    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    «الإسكان»: بدأنا تنفيذ 64 برجا سكنيا و310 فيلات في «صواري» الإسكندرية    وزير التعليم العالي: توسيع التعاون الأكاديمي وتبادل الزيارات مع المؤسسات البريطانية    ارتفاع عدد المعتقلين خلال الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية إلى 1700 شخصا    جيش الاحتلال يقصف مسجد القسام في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة    سفير روسي: اتهامات أمريكا لنا باستخدام أسلحة كيميائية «بغيضة»    غضب الله.. البحر الميت يبتلع عشرات المستوطنين أثناء احتفالهم على الشاطئ (فيديو)    الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني وتدمير 12 طائرة مسيرة كانت تستهدف مناطق في العمق الروسي    ميدو يصدم قائد الأهلي ويطالب بتسويقه    التشكيل المتوقع لمباراة روما وليفركوزن بالدوري الأوروبي    موعد مباراة الزمالك والبنك الأهلي في الدوري المصري الممتاز والقناة الناقلة    صباحك أوروبي.. حقيقة عودة كلوب لدورتموند.. بقاء تين هاج.. ودور إبراهيموفيتش    حالة الطقس اليوم الخميس.. أجواء معتدلة على أغلب الأنحاء    تفاصيل الحالة المرورية بالقاهرة والجيزة.. «سيولة في شارع الموسكي»    تحرير 11 محضرًا تموينيًا لأصحاب المحال التجارية والمخابز المخالفة ببلطيم    العثور على جثتي أب ونجله في ظروف غامضة بقنا    مصرع طالب صدمته سيارة مسرعه أثناء عودته من الامتحان ببورسعيد    بعد 119 ليلة عرض: رفع فيلم الحريفة من السينمات.. تعرف على إجمالي إيراداته    هل توجد لعنة الفراعنة داخل مقابر المصريين القدماء؟.. عالم أثري يفجر مفاجأة    تامر حسني يدعم بسمة بوسيل قبل طرح أغنيتها الأولى: كل النجاح ليكِ يا رب    بعد أزمة أسترازينيكا.. مجدي بدران ل«أهل مصر»: اللقاحات أنقذت العالم.. وكل دواء له مضاعفات    «الوزراء»: إصدار 202 قرار بالعلاج على نفقة الدولة في أبريل الماضي    بحضور السيسي، تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    نسخة واقعية من منزل فيلم الأنيميشن UP متاحًا للإيجار (صور)    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    حملة علاج الادمان: 20 الف تقدموا للعلاج بعد الاعلان    ماذا يستفيد جيبك ومستوى معيشتك من مبادرة «ابدأ»؟ توطين الصناعات وتخفيض فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة 50% وفرص عمل لملايين    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    أوستن وجالانت يناقشان صفقة تبادل الأسرى والرهائن وجهود المساعدات الإنسانية ورفح    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    الصحة: مصر أول دولة في العالم تقضي على فيروس سي.. ونفذنا 1024 مشروعا منذ 2014    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«أحمد زكي».. عفريت التمثيل والغناء
نشر في القاهرة يوم 03 - 04 - 2012

في تاريخ التمثيل المصري قصة حب بليغة الدلالة وقعت في عشرينات القرن العشرين، بين المؤلف المسرحي عباس علام والممثلة الموهوبة فيكتوريا موسي. وأمر ذو دلالة هنا أن نتطرق إلي هذه القصة. كتب عباس علام: كان موضوع مسرحية "الزوبعة" يدور حول تحليل نفسية امرأة، هي طاهرة بطبيعتها، ولكنها مختالة بنفسها وبجمالها، وقد ساقتها الظروف إلي أن تحوم حول الحب فضعفت وأغمضت عينيها وتدهورت، فلم تفق إلا وهي تتخبط بين ذراعي رجل ليس حليلها، فثار ضميرها عليها وقضت حياة كلها آلاما. وكان طبيعيا- وهذا هو موضوع الرواية- أن أختمها بالعفو عن مثل هذه الخاطئة التائبة، علي أني لقيت اعتراضا علي هذه الفكرة من كل من قرأت عليهم روايتي. قدمتها- يقول علام- في سنة 1917 إلي الأستاذ عبدالرحمن رشدي فرفض أن يمثلها ما لم أختمها بقتل هذه السيدة. طلبت تحكيم أستاذىّ د.منصور فهمي وحسين بك رمزي فانضما إلي رأي عبدالرحمن. حفظت الرواية لدي. وفي عام 1920 قدمتها لشركة ترقية التمثيل العربي، وكان للشركة لجنة جمعت بين فحول العلماء والفلاسفة والمفكرين، فأجمع الكل علي ضرورة قتل المرأة، بل قال أحدهم وهو من خيرة شبيبتنا المفكرة: "لو مُثلت روايتك علي حالها وعلمت أن قرينتي شاهدتها فإني أقتلك". طلبت التحكيم مرة أخري، وكان الحكم الأستاذ كامل بك البنداري فانضم إلي رأي اللجنة. أخيرا قال لي المرحوم محمد تيمور: "مادامت النفوس لم تتهيأ بعد إلي قبول فكرتك فليس أمامك إلا أن تقتل هذه المسكينة خير من تعطيل روايتك. فقتلتها... . ثم قدمت "الزوبعة" ومثلت فيها فيكتوريا موسي دور الخاطئة، فرأيت ورأي الناس- ومنهم كل من قرءوا الرواية قبلا- تمثيلها. رأيت شيئا غير الذي كتبته. الألفاظ والعبارات هي هي، ولكن الروح التي ظهرت بها فيكتوريا كانت شيئا آخر لم يطرأ حتي علي بالي. بلغت فيكتوريا رسالتي إلي الناس بروح أقوي مما كتبت. ولست أنسي تلك الشهقات والزفرات التي كانت تخرج من مقصورة السيدات أثناء تمثيل فيكتوريا، ولا تلك الصرخات التي صاحبت ختام الرواية حيث قتلت فيكتوريا نفسها، ولا ذلك السكون الذي خيم علي الناس عقب نزول الستار الأخير. ظلوا طويلا جالسين لا يتحركون، وقد أزعجهم هذا العقاب. وأثناء انصراف الجمهور كنت واقفا مع الأستاذ أمين بك الرافعي أمام باب التياترو فنبهني إلي الشتائم التي كان الناس يوجهونها إلي "الكاتب" علي القسوة التي بدت منه. والذي أدهشني أكثر هو أن كل من كانوا قد قرءوا روايتي وحكموا علي الخاطئة بالإعدام.. كلهم لاموني، والبعض منهم عنفني علي قتلها، واعتبروا هذا القتل نتيجة غير منطقية. وأخيرا همس محمد تيمور في أذني قائلا: "اعلم يا عباس أن تمثيل فيكتوريا أقوي من كتابتك، وأنها استطاعت بروحها وفنها أن تؤثر علي الناس وتنشر بينهم فكرتك أكثر مما استطعت أنت أن تشرحها بقلمك." عفريت التمثيل والغناء هكذا وقع المؤلف المسرحي عباس علام في حب الممثلة الموهوبة فيكتوريا موسي. لكننا نترك هنا مباشرة قصة الحب الدرامية فلم نقصد منها إلا إيضاح مدي فعالية فن الممثل المتمكن: "الألفاظ والعبارات هي هي، ولكن الروح التي ظهرت بها فيكتوريا كانت شيئا آخر لم يطرأ حتي علي بالي. بلغت فيكتوريا رسالتي إلي الناس بروح أقوي مما كتبت". ولعل ذلك يصلح مدخلا لحديثنا هنا عن الممثل الألمعي أحمد زكي، صاحب الإنجاز الفذ فعلا في تاريخ الممثل المصري. قال المخرج الكبير عاطف الطيب: لقد تعودنا أن نقول لقد أدي النجم دوره باقتدار كما تخيلته تماما، أما أحمد زكي فغاية في اقتداره لأنه يفاجئني بما لم أكن أتوقعه". كما قال الموسيقار الكبير عمار الشريعي: حينما غني زكي في فيلم "البيه البواب" أذهلني وأذهل الجميع، وأكد ملحن الأغنية إبراهيم رجب علانية أن زكي قدم الأغنية أفضل منه (يقصد مما تصور)، وحينما استمعت إليه وهو يغني في فيلم "هيستيريا" (لو مقدرتش تضحك متدمعش ولا تبكيش وإن مفضلش معاك غير قلبك أوعي تخاف مش هتموت هتعيش) وجدته يؤدي بإحساس عال شخصية طالب معهد الموسيقي الذي يبحث عن الهوية الشخصية، فشعرت أن عفريت الغناء تمكن منه. وفي أغاني مسلسل "هو وهي" مع السندريللا سعاد حسني أذهل زكي بأدائه صلاح چاهين الذي علق وقتها قائلا: من الصعب بل من المستحيل أن يستطيع أعظم مطرب في مصر، بل والعالم كله، التعبير عما كتبت بنفس الصورة التي عبر بها أحمد زكي! وكل ذلك لا بد وأن يقودنا إلي الجذور التي مكنت أحمد زكي من هذا الإنجاز الفذ. ولعل الطبيعي هنا أن تكون بدايتنا نظرة عامة علي المسرح الذي ظهر عليه. مسرح معارك الثورة الجديد لقد شهدت مصر منذ النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين إرهاصات ثورية ترتبط بحياة الناس. وكان لا بد لتوجهات الثورة من إخراج السينما المصرية من تأثيرات محض غربية وسطحية أتت من الخارج، غلبت علي الفن السابع مع ظهوره وتطوره، وإخراجها أيضا من مستنقع الميلودراما، ومن الإثارة المجانية في سينما البكيني والصالونات. وذلك لتقديم بديل يطرح أسئلة من شأنها الإعلاء من قراءة الواقع الاجتماعي والسياسي قراءة جديدة، عبر تقديم نماذج حقيقية من المجتمع المصري بكل همومه، وتفاصيل حياته العادية، وصعوده وخيباته. وكان لا بد لإرهاصات كمال سليم وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين وكمال الشيخ و...، من أن تتحول إلي تيار أعمق ارتباطا بالشوارع الخلفية للمجتمع بالذات مع الأجيال التي عانت الهزيمة ورفضتها، بعد أن تفتح وعيها علي مجتمع يلتف حول برنامج حياة: تنمية اقتصادية، تخطيط، تنمية ثقافية، سعي إلي مكان مرموق بين شعوب الدنيا،... برنامج يستهدف إعادة تشكيل الوجدان المصري والوصول إلي كيان يقوم علي تفتيح ملكات الفرد والمجتمع، وتضييق الهوة بين الثري والفقير، بين ثقافة العامة وثقافة الخاصة، وإعادة تكوين نسيج الحياة اليومية علي أسس جدلية، تجسد كيفية نهوض الحياة ونموها الارتقائي (لا تراكمها الكمي).. وتجلي ذلك في السينما يعني أن تكشف لنا أعمالها عن الكيفية التي تنمو وتتفاعل بها الأحداث والمتناقضات، وابتعادها عن البناء الخطي المبسط. عن وبعدين، وبعدين، ... علي اعتبار أن وجودنا ليس مجرد حكاية مسلية. هكذا كان لا بد للعمل الفني من بطل حي جديد، لا يعرف النمطية (شرير علي طول الخط، مصاب بالانفصام علي طول الخط...). ومع تغير بطل الفن وموضوعه ومنظور معالجته ظهرت كوكبة مختلفة من المخرجين أصحاب الرؤية الجديدة: رأفت الميهي وعلي بدرخان وعاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وداوود عبدالسيد وشريف عرفة... . وكان لا بد من الممثل الجديد الذي يجسد بصدق هذا البطل، فلم يعد هناك مبرر لمن يختزلون خلفيات الممثل في الوسامة بالمفهوم الغربي المعهود. بياض البشرة والشعر الناعم و...، مع الحاجة لمن يجسد دور فلاح السخرة والبواب والسائق والطبال والجندي والمحامي والصحفي والمشعوذ والمصور... . هكذا كان المسرح (الثورة والموضوع الجديد والبطل الجديد والرؤية الجديدة والمخرج الجديد) معدا لظهور الممثل الجديد. وكان زكي بمثابة الملهم بالنسبة لهذا الجيل من المخرجين.. كلما داعبتهم شخصية درامية يجدون مفتاحها وفك الشفرة عنده، ومما شاع أن محمد خان كان يرتبط به بحبل سري، بينما كان بالإمكان ضبط موجة زكي السينمائية علي عاطف الطيب و... وهكذا تصبح المسألة كيف جاء زكي في طليعة الممثل الجديد الذي ينتظره التطور السينمائي؟! محن الطفولة زادته حساسية قال زكي قرب نهاية مشواره: "عشت طفولة مؤلمة بعد وفاة أبي وزواج أمي من رجل آخر، فعشت لا أعرفها غريبا في منزل جدتي، وبعد وفاتها راحت الحياة تلقي بي فترة في منزل إحدي خالاتي، وأخري في منزل إحدي عماتي. كنت أتعمد ألا أقيم في أي منزل فترة طويلة، حتي لا أثقل علي أحد. لقد حرمت من الحنان والعطف. ذات يوم وأنا في السابعة جاءت إلي البيت امرأة حزينة جدا، ورأيتها تنظر إلي بعينين غريبتين ثم قبلتني دون أن تتكلم، ثم رحلت دون أن أعرف حتي أنها أمي. نظرتها التي احتوتني بصورة استثناية تصحبني حتي اليوم، وعندما تمر في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما أشعر بحرج شديد، ويستعصي علي نطق الكلمة". كان اليتم الحقيقة الأولي في حياة زكي. وغياب الوالدين لا يؤثر فقط في درجة إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية، بل يمثل تهديدا لجميع جوانب نمو الطفل، فينشأ نهب للعديد من المشكلات الانفعالية التي تتباين أنواعها وأعراضها. أدوات الممثل لم يكن أمام اليتيم أحمد زكي إلا التقوقع في شرنقة أحزانه، يعاني آلامه وأوجاعه، ولا يملك إلا أن يكتمها في نهاية المطاف. وكأن القدر قد حابي زكي حين جعله يحس بألم أو يعاني شقاءً عظيماً. لأن هذه المعاناة وسعت عتبات الإحساس عنده، أي جعلته يملك ميزانا دقيقا، يمكن أن يحس ويدرك ويقدر معاناة من حوله علي نحو أكبر من كثيرين غيره. وتنامت هذه القدرة مع إدمان معايشة أزماته هو نفسه، وقاده الخوف وتوقع الشر من البيئة المحيطة إلي التمعن في فهم الآخرين وسبر غور أحاسيسهم أيضا، الأمر الذي سرعان ما أدمنه، ورويدا بات يتابع مجمل أحوال الناس، وليس مجرد ما يمكن أن يؤذيه منها. وهكذا تحول إلي "جهاز تسجيل مدمن" يلتقط أحوال الناس المختلفة ومشاعرهم الظاهرة والدفينة ويحتفظ بها. بل وكثيرا ما استخدمها وهو يركب جواد خياله ليعدو بعيدا عن الواقع كله، هاربا من شراسة معاناة يومه. واستطاع الفتي أن يتجاوز أصعب اللحظات بالتقمص، حيث يدخل في شخصية أخري ويستعير انفعالاتها ويهيم بين الناس. "هو أحمد زكي وليس أحمد زكي"، كما قال في حوار يوما. إن التمثيل في جوهره فطرة واستعداد. ملكة تضعها الخلقة فينا، ربما بدرجات مختلفة. وأساس التمثيل هو القدرة علي المحاكاة والتقليد، وهي قدرة إنسانية أساسية. فنمو الوليد فالطفل مبني أساسا عليها، مما يجعل كل طفل "ممثلا" بالفطرة. ويتطلب التمثيل التمثيل مع ذلك القدرة علي استحضار صور وإحياء شخصيات من الماضي بطريق التخيل، ثم التعبير عنها بالكلمة والإشارة والإحساس و... . وذلك بمساندة قوة أخري من قوي النفس، هي اقتدار الممثل علي "تلبس" معالم الشخصية التي يعمل علي تشكيلها، أي ابتداعها أو خلقها، والذوبان فيها، مع محاولة مستمرة للتجرد من شخصيته الذاتية. مهرج الملك لما طالت المعاناة دون أن تقتله برزت وتدعمت المشاعر الفطرية الخاصة بحب الحياة، التي حولتها قدراته رويدا إلي رايات تمرد وعصيان. كان لا يطيق الحياة مع الظروف التي عاناها منذ نعومة أظفاره، لذلك راح يبحث عن أدوار أخري يدخل في ثناياها ويعيشها، برز من بينها دور مركزي هو دور المعايش (من هنا كراهيته لكلمة الممثل). ودخل التليفزيون حياة المصريين وبات لعبة جديدة ساحرة في بيوتهم، وكانت لعبة مبهرة، إذ وجد زكي الناس يرحبون بممثلي التليفزيون وخاصة نجوم الكوميديا والغناء. كان فيما سبق يضطر للتمثيل/المعايشة أمام الغرباء حتي يتجنب أذاهم وربما ليكسب تعاطفهم، ومع الرغبة الهاصرة في أن يتحول هو الطريد إلي خفيف الظل المقرب المحبوب، وقع علي الصورة التخطيطية لدور "مهرج الملك التقليدي". لكن مع جمهور واسع جدا، ولم يعبأ بشراسة حجم متطلبات هذا الجمهور الواسع، بالذات وقد وجد- مع شطحات الخيال- أن تقليد ممثلي التليفزيون يدين له، بما اكتسبه من خبرات في معمل الأحاسيس الذي نماه في داخله، في يسر بالغ ومن دون عناء، من ذلك المخزون المتنوع الذي تشكل لديه مع معاناته الطويلة. ومع الدربة باتت براعته جلية في تجسيد الشخصيات التي يحبها الجميع، أو يرغب الجميع في السخرية منها، أو... هكذا بات أحمد ولوعا بالغناء والتمثيل والقفشات الكوميدية، ولم يكن يكف عن ذلك في أي مكان يتواجد فيه، ولم يكن يقلد الممثلين فقط بل كان يقلد حتي الناس العاديين، وبالذات من تكون لهم ملامح خاصة تميزهم عن غيرهم. حضانة فنية مدرسية وفي المدرسة الثانوية الصناعية حاباه القدر، إذ كان مدير المدرسة من مهندسي الديكور، ودفعه ولعه إلي تنظيم مسابقة مسرحية خاصة بين أقسام المدرسة علي كأس باسمه، وإلي أن يشيد مسرحا متكاملا في المدرسة المنزوية، ساعده علي أعبائه وعلي أن يكون في مستوي معقول أن بالمدرسة ورشا مختلفة وقدرات إنتاجية متاحة دون تكاليف. وفي هذا المسرح وجد المهرج زكي خشبة ينقل إليها أدواره أمام جمهور حقيقي. زامل زكي تلميذا يدعي محمد الحسيني. كان أخوه يوسف الحسيني مدرسا
للكهرباء بالمدرسة ومشرفا علي فريق التمثيل. ويوما قال محمد الحسيني لأخيه: "معي في الفصل ولد بربري طول الوقت يقلد الفنانين بطريقة تميتنا جميعا من الضحك". كان الحسيني الكبير مشغولا آنئذ باختيار تلاميذ لتمثيل المدرسة في مسابقات الوزارة، من خلال المسابقة المسرحية التي تنظم بين أقسام المدرسة علي كأس الناظر، فاهتم بأن يتملي أداء زكي، فأعجب به وقدمه للفنان وفيق فهمي الذي كان يشرف علي الفرق المسرحية المدرسية في الزقازيق، وبالطبع اختاره ضمن فريق المدرسة، الذي حصل علي الجائزة الأولي علي مستوي الجمهورية في أعوام 1962، 1963، 1964 ولأول مرة أحس زكي بالفرح ينطلق مباشرة من القلب، وهو يبكي ويصرخ ويتعذب ويضحك ويتنفس، وعرفه بعض الفنانين الكبار الذين يشاركون في تحكيم مسابقات المدارس. وقد اعتاد هؤلاء أن يسألوا من يتوسمون فيه الاستعداد التقديم للالتحاق بمعهد التمثيل. وكان طبيعيا أن يتشبث زكي بذلك، والأمر يعني اعتراف الآخرين وانتباههم، إضافة إلي الشهرة. مدمن تمثيل ورسوب لم تكن "الصنايع" تروق زكي، فبدا وكأنه مدمن رسوب، لكنه كان أول مخرج يحقق مفهوم المسرح للشعب، فقد شغل بإخراج مسرحيات في مراكز شباب مختلفة بمحافظة الشرقية. وكان يذهب إلي الفرق التي يدربها أحيانا وليس في جيبه ثمن تذكرة المواصلات، وقد لا يجد أعضاء الفرقة المعنية لانشغال كل منهم في عمله، فمنهم المدرس والبقال والسباك والمكوجي، فيدور لتجميعهم... . كما أن كثيرا من أقرانه، في المدن والقري المجاورة، طالبوه حين أخرج مسرحية يوسف إدريس "اللحظة الحرجة" بعرضها لديهم، الأمر الذي تيسر بمسرح متنقل قدم العرض عليه في عدد من المدن والقري المحيطة بالزقازيق. وفي القاهرة مع الالتحاق بمعهد التمثيل واصل أحمد معاناة الفقر والجوع والتشرد حتي أنه عمل بلاسير في "المسرح الحر"، بينما كان يعيش في كنف بلدياته وفيق فهمي... . مأزق جدلي يقود إلي القمة لكن الدراسة في المعهد راحت تؤتي أكلها، فإلي جوار صقل وتوظيف الخبرات التي حصلها زكي، جعله المعهد موجودا في الوسط الفني، يعاني المأزق الجدلي تلو الآخر، مما أتاح له معرفة المسالك التي يمكن أن تقود إلي طريق التمثيل الكبير، بالذات مع الأبوة الفنية الراقية التي حباه بها صلاح جاهين. كانت مصر تحتفل في ذلك الحين بألفية مدينة القاهرة، وكان أحد معالم الاحتفال تقديم أوبريت خاص بالمناسبة. ولأن العمل كبير رشح زكي ضمن عشرين من طلبة المعهد للمشاركة ككومبارس في "القاهرة في ألف عام"، العمل الذي كتبه صلاح جاهين واستدعي للمساعدة في إخراجه المخرج الألماني أرفيل لاستر. ولأنه كان رجلا أوروبيا يتصرف علي سجيته دون عقد، لفت نظره زكي الأسمر مجعد الشعر الجميل الموهوب، وتصور أن البطل المصري يجب أن يكون علي هذه الشاكلة بالذات، فلم يكن- هو الألماني- يعاني مثل المصريين من عقدة الخواجة (البطل الأبيض البشرة المسبسب الشعر... الجان الغربي)، وحين دقق في تمثيل أحمد اختاره ليكون بطلا للأوبريت (صحفي يتجول ويستكشف عصور القاهرة المختلفة). لكن المسئول عن العمل رفض أن يكون "تلميذاً مازالت عظامه طرية" مثل زكي، بطلا للعمل الكبير الحساس. وبالطبع كانت لطمة قاسية لزكي الذي حلق عاليا مع اختيار المخرج الألماني. ولحسن حظه وجد نفسه يسقط من حالق بين ذراعي الفنان الرائد العبقري صلاح جاهين، الذي تبني الممثل الفذ كما تبني كثيرا من الموهوبين. وكان صلاح أبا حازما إلي جوار كونه فاهما، فعندما فكر أرفيل لاستر في أن يهيئ لزكي فرصة إكمال دراسته في ألمانيا اعترض جاهين، فموهبة مصرية مثل موهبة زكي يجب أن تجد ريها من تربة الوطن الذي ستترعرع فيه. وهكذا ضمه إلي المجموعة التي رعاها وتعهدها من الممثلين الشبان. في المعهد، لفت زكي أنظار عدد من المخرجين الذين اعتادوا البحث بين الطلبة عن وجوه جديدة. اختاره سعد أردش، ليشارك في مسرحية "هاللو شلبي" مع سعيد صالح وعبدالمنعم مدبولي. لم يكن له دور في المسرحية تقريبا، لكن عبدالمنعم مدبولي المعجب بقدرة زكي الفريدة علي التقليد جعل جرسون الفندق (دور زكي) يهوي التمثيل ليتيح له فرصة تقليد الفنان حسن البارودي والفنان محمود المليجي و...، الأمر الذي لفت الأنظار إليه، فاستطاع من خلال عدد قليل من الأدوار تأكيد قدراته و... . لكن طريق أحمد زكي إلي السينما لم يكن محاطا بالورود. نقطة انقلاب رشح أحمد زكي لبطولة فيلم "الكرنك" مع سعاد حسني سندريللا الشاشة في ذلك الوقت، وانهمك في حفظ الدور، وشعر أن الدنيا صارت طوع بنانه، وراح يفاخر أمام كل من يقابله: "دور كبير قوي هاعدي بيه". لم يكن قد وقع عقدا، ولم يوافق الموزعون في مصر والعالم العربي أن يغامروا مع اسم غير معروف، وأصروا علي أن الجمهور لن يصدق أن سندريللا الشاشة العربية يمكن أن تحب هذا الشاب، بل وبرر بعضهم الأمر "بقبح وجهه ولونه الأسود الكئيب"، وحاول البعض أن يصطاد في الماء العكر فادعي أن سعاد حسني هي التي رفضت مستنكرة... . ولم يتحمل زكي الصدمة فحاول الانتحار. ولما فشلت المحاولة مضي يضرب رأسه في الجدران ويصيح في الناس مذهولا: "شفتوا. طيروا مني الدور. خلاص ما فيش فن"... . لكن جاهين رمانة الميزان في حياة زكي تدخل، حتي قام زكي بتمثيل دور متولي أمام السندريللا نفسها في فيلم "شفيقة ومتولي". ورغم المشاكل التي أحاطت بالفيلم، ورغم أن دور متولي ابتسر كثيرا قياسا علي أصله في الحكاية الشعبية المعروفة، فإنه كان كفيلا بلفت الأنظار إلي قدرات الممثل الفريدة من نوعها، بالذات وقد أخذ الدور قواما معنويا أكبر، مع ربط جاهين له بخلفيات سخرة حفر قناة السويس، وظروفها الصعبة بل وكوليراها و...، وكان دور زكي كأحد المخطوفين في إطار هذه السخرة هائلا علي قصره. ولم يكن زكي يهتم بحجم الدور. المهم أن يتيح له أن يقول شيئا بمفرداته الإبداعية الخاصة، وأن يصل بالشخصية التي يلعبها إلي أقصي درجات الصدق التي تتاح له. ورغم وضوح قدرات زكي المتفردة في أفلام عديدة لم يدخل دائرة الضوء الحقيقية، ليصبح حديث الجميع إلا مع دور مهم في فيلم حسام الدين مصطفي "الباطنية" (1980)، إذ حصل علي بطولة متساوية مع فريد شوقي! ومحمود ياسين، والنجمة الصاعدة في ذلك الوقت نادية الجندي، أي مع كتيبة من نجوم الشباك. لكن ما حدث خلال حفل الافتتاح شكل انقلابا ذا دلالة كبيرة، لقد كان الجمهور يصفق كلما ظهر السفروت الذي لم يحفظوا اسمه الحقيقي (أحمد زكي)، وعندما أسفر السفروت في النهاية عن ضابط البوليس ضجت دار العرض بالتصفيق المدوي. وبعد انتهاء العرض حمل الجمهور زكي علي الأعناق. وظل التصفيق يدوي كلما ظهر زكي في دور السينما طوال عرض الفيلم، مما شكل ظاهرة اعتراف فورية بالبصمة الفنية المتوهجة، لذلك الممثل الذي جاء اسمه في آخر الترتيب مكتوبا ببنط لا يري إلا بالميكروسكوب. وهكذا لم يكن الأمر مجرد رد اعتبار "للجربوع" زكي الذي ابتلع- عن إدراك للخواتيم- كل إهانات منتج الفيلم ونجمة الجماهير خلال التصوير، بل إعلاء من قدره بين كل المهتمين بالسينما. عبور تليفزيوني في موازاة ذلك كان زكي يستطلع الآفاق التي يمكن أن تستوعب خطاه، وشدته الشاشة الصغيرة بجماهيريتها الطاغية. في مسلسل "الأيام" قدمه مساعد المخرج، مقترحا قيامه بدور أحد مشايخ الأزهر، ووافق المخرج يحيي العلمي. وفي أثناء الإعداد للمسلسل اعتذر عزت العلايلي عن أداء دور طه حسين، ثم اعتذر محمود يس... . وكان زكي مطلعا علي هذه التطورات بحكم وجوده في البروفات. ولم يكن زكي أيام إدمان دور "المهرج" في الزقازيق قد ولع فقط بتقليد الأزهريين في المعهد الديني، مثلهم مثل غيرهم، بل إنه كثيرا ما لعب دور الكفيف شقاوة، حتي يعابث الفتيات، وهو يتنقل في قطارات الأقاليم قبل أن يأتي إلي القاهرة. طلب من مساعد المخرج الذي كان يعرفه أن يقترح علي يحيي العلمي- مجرد اقتراح- أن يجربه في دور طه حسين. وأبدي الرجل حماسه حين شاهده يؤدي بعض المشاهد، بينما كان صوت أمينة رزق يرتفع مداعبا رافضا في آن واحد: "يا بتاع الصنايع ابعد عن الدكتور طه". لكن من حسن حظ زكي أنه لم يكن قد تعرف في المعهد علي "قسطنطين ستانسلافسكي" فقط، بل وتكفلت الدوائر الجاهينية بإيضاح قيمة هذا الممثل المنظر الفذ، الذي شكل مع "تشيخوف" قمة من قمم الصدق الداخلي ومعايشة الأدوار، إلي الدرجة التي تجعل مستحيلا إن رأيت الممثل في أدوار مختلفة تصور أن شخصا واحدا هو الذي لعب هذه الأدوار! والأهم من ذلك أن أمر الصدق الداخلي لم يكن غريبا علي أحمد زكي وقدراته، إذ كان ستانسلافسكي يقنن ما خبره دون تنظير، ويقدم له الأدوات اللازمة لصقل إمكاناته والوصول بها إلي ذروة لا تباري. وهكذا كان زكي مبهرا في أداء دور كفيف يصعد من قاع المجتمع ليكون الضوء الذي ينير للجميع، ويتبني قضية أن يكون العلم وأن تكون الثقافة كالماء والهواء متاحة للجميع. ولم تكن أمينة رزق وحدها التي أبدت اعتراضها في البداية علي تجسيد زكي لدور عميد الأدب العربي، فقد كان معها كثيرون أشفقوا من تجريد العميد من الهيبة والجلال، وخافوا من تحوله في نهاية المطاف إلي صعلوك. بل إن أسرة العميد نفسها اعترضت، ولم تخف امتعاضها من هذا الاختيار، وأبدت عدم تصديقها لحماس المخرج لهذا الممثل "السنكوح" الأسمر النحيل. لكن تلك الاعتراضات لم تكن لتنال من القدرات المعتقة لأحمد زكي. إذ ساعدته عوامل كثيرة في التعبير الصادق عن معاناة الدكتور طه حسين ولا سيما في مرحلة الشباب المبكر منها، ليس آخرها ذلك الرصيد الضخم من الألم والمعاناة والأحزان المختزنة في "اللاشعور"، وسرعان ما وصل إلي قمة تجليه، وأدي الدور بامتياز. وأمام النجاح الطاغي الذي حققه المسلسل اضطرت أسرة العميد إلي التراجع عن موقفها، ووجهت الدعوة ل "أحمد زكي" علي العشاء، وفوجئ علي الباب ب "أمينة طه حسين" تستقبل "السنكوح" فاتحة ذراعيها: أهلا بابا. وكان المشهد شهادة تقدير لا يعلي عليها، فيما يخص دوره في "الأيام"، لأنه لم يترك لأحد مجالا للمزايدة. لكن زكي قرر يومها التوقف عن الظهور علي الشاشة الصغيرة، ورفض مراراً العودة إليها، مقررا أنها مفسدة للفنان السينمائي، تقتل موهبته وتهدرها علي امتداد حلقات المسلسلات. احتفظ برغبته في أن يتفرغ تماماً للشاشة الكبيرة، ونفذ رغبته بالفعل مع استثناء وحيد، لمصاحبة سعاد حسني بعد موافقتها علي العمل في التليفزيون للمرة الأولي، من خلال حلقات متصلة منفصلة بعنوان "هو وهي" عن قصص للكاتبة سناء البيسي، أعدها للشاشة الصغيرة وكتب كلمات استعراضاتها وأغانيها صلاح جاهين، وأخرجها يحيي العلمي، ما زالت تعد حتي اليوم بين روائع الأعمال التي قدمها التليفزيون. هكذا أخذ المأزق الجدلي تلو الآخر بيد أحمد زكي إلي طريق القمة، ليصل إلي التجلي السينمائي الأرقي مع أكبر مخرجي جيله.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.