وكأنهما كانا علي موعد.. فالعندليب رحل عنا في شهر مارس عن عمر يناهز ال 48 عاما.. وبعد 28 عاما شاء القدر أن يرحل عبقري الشاشة أحمد ز كي في أواخر شهر مارس أيضا ورغم فارق السنين.. فكلاهما عاش عيشة قاسية.. وذاق أنواع الفقر والحرمان والصدر الحنون واليتم المبكر.. فقد ماتت أم عبدالحليم يوم ولادته ليلحقوه بالملجأ الذي تربي فيه.. وعاش يعاني من مرض الكبد ونزيف المعدة إثر بلهارسيا كانت سببا في وفاته.. أما أحمد زكي فقد مات والده وهو لايزال صغيرا.. وتزوجت أمه من أحد الرجال العرب الذي صحبها معه إلي إحدي الدول العربية ولم يعرف عنها شيئا بعد ذلك.. فرباه جده الذي لم يعش طويلا.. فكان كل واحد من أقاربه يستضيفه بعض الوقت كنوع من الشفقة.. ولم يكن له مكان ثابت ولا خصوصية.. والغريب أن الاثنين جاءا من محافظة الشرقية . جاء حليم من »الحلوات« شرقية وجاء أحمد زكي من الزقازيق.. كان حليم يهوي الغناء.. وكان أحمد زكي يهوي التمثيل.. جاء كل منهما إلي القاهرة يجرب حظه وبإصرار لكن الظروف كانت ضدهما.. لم يكن معهما المال الكافي ليعيشا أبسط العيش.. فلا مكان يأويان إليه.. فعبدالحليم عاش مع شقيقه إسماعيل شبانة الذي سبقه إلي الغناء وكان يسكن معه في مكان غير صالح للسكن الآدمي في بركة الفيل مقابل أن يطبخ ويكنس ويمسح البلاط.. والتحق كل منهما حليم بمعهد الموسيقي وزكي بمعهد التمثيل.. وكان أحمد زكي يبيت كل يوم عند واحد من أصدقاء المعهد الذي التحق به.. مثّل أثناء دراسته بالمعهد دورا صغيرا في مسرحية »هالو شلبي« ولفت إليه الأنظار.. واختاره سمير خفاجة للمشاركة في مسرحية »مدرسة المشاغبين« التي حققت نجاحا كبيرا علي مستوي الجمهور.. وعندما علم خفاجة بظروفه سمح له أن ينام في كواليس المسرح. كانت رحلة شاقة بالنسبة لكليهما فقد صرخ الجمهور عندما غني حليم في الاسكندرية لأول مرة صائحين إنزل إنزل.. وألقوه بالطماطم والبيض الفاسد.. أما أحمد زكي فمثل دور كومبارس في هالو شلبي. ❊ ❊ ❊ وبالرغم من أن »مدرسة المشاغبين« كانت مسرحية كوميدية إلا أن أحمد زكي كان دوره تراجيديا.. ولم لا فهو يمثل حياته علي المسرح.. وكان أبطال المسرحية وكلهم مشهورون يشاغبونه ويسخرون منه لسذاجته فالأبيض عنده أبيض والأسود أسود.. وكانوا يسلون أنفسهم بتدبير مؤامرات كوسيلة للضحك عليه. وحين ذهب عبدالحليم لحضور مسرحية »مدرسة المشاغبين« أعجب جدا بأحمد زكي.. ربما لأنه أحس أنه يمثل حياته هو شخصيا علي المسرح.. فصعد إلي المسرح وفي الكواليس ليهنئ أحمد زكي عن دوره.. وأخذ يطرق باب غرفته.. لكن أحمد تصور أن زملاءه يسخرون منه فلم يفتح حتي قال له حليم افتح يا أحمد أنا عبدالحليم حافظ.. وكم كانت فرحته حين ربت علي كتفه: »إنت كويس قوي.. وحيكون لك مستقبل كبير«.. هذه الجملة التي قالها العندليب الذي أصبح المطرب الأول في مصر في ذلك الوقت كوسام علي صدر أحمد زكي. ❊ ❊ ❊ كان أحمد زكي قد تخرج من معهد التمثيل وكان الأول علي دفعته.. وتأكد كلام حليم.. وذلك بالنسبة لكل الأفلام التي قدمها أحمد زكي حوالي 60 فيلما وكل المسلسلات مثل »الأيام« لطه حسين.. أما في نهاية رحلته مع التمثيل فقد مثل مع السندريللا مسلسل »هو وهي « وبرع في أدائها هو وسعاد التي يعتبر هذا هو المسلسل الوحيد لها. ❊ ❊ ❊ كانت أول ضربة تلقاها أحمد زكي في حياته حينما اختاره علي بدرخان ليمثل مع سعاد حسني فيلم »الكرنك« وفعلا أمضي عقدا معه.. فقد كان علي مقتنعا به تماما.. فرح أحمد فرحا شديدا لأنه سيمثل مع سندريللا الشاشة.. لكن »يافرحة ماتمت« قيل له كيف يحب سعاد حسني هذا الشاب الأسمر أكرت الشعر الذي لا يتمتع بالوسامة مثل رشدي أباظة أو أنور وجدي أو حسين فهمي أو نور الشريف وغيرهم. لقد كتبت مذكرات عبدالحليم حافظ.. وكتبت أيضا مذكرات أحمد زكي قال لي أحمد زكي في مذكراته إنه بدأ يحلم منذ أن سلم عليه عبدالحليم وقال له سيكون لك مستقبل كبير كان يحلم أن يقدم فيلما عن حياة العندليب: »لقد أحببته جدا وأحسست أن ظروفه كانت تشبه ظروفي تماما. ويشاء القدر أن يرحل أحمد زكي في نفس شهر مارس بعد 28 عاما بعد صراع مرير مع مرض السرطان الذي احتل مواقعه في جسده. ❊ ❊ ❊ كانت الضربة الثانية في حياته هو موت صلاح جاهين الأب الروحي له.. وكان أحمد يعالج في انجلترا من إجراء عملية في المعدة وأذكر حين فتح لي صدره لأري آثار عملية كبيرة جدا ظلت وقتا طويلا لكي تلتئم.. وحين وقع مريضا بالسرطان الذي احتل كل مواقع جسده.. وكان يحتضر.. أراد صديقه الإعلامي الكبير عماد الدين أديب أن يحقق له آخر أمنية في حياته عن »العندليب« وكان أحمد زكي يذهب إلي أماكن التصوير علي كرسي متحرك يصاحبه طبيبه المعالج الذي يتوقع وقوعه بين لحظة وأخري.. وكان أحمد يجلس بالساعات لعمل ماكياج يشبه عبدالحليم حافظ.. وقد مثل ابنه هيثم دوره وهو صغير. ❊ ❊ ❊ وكيف ننسي فيلم »أبناء الصمت« في البداية.. وهو عبارة عن ملحمة من ملاحم النضال سنة 1967.. حينما أغرق المصريون المدمرة الإسرائيلية إيلات.. وكان ذلك أيام حرب الاستنزاف حين حوصرت مدينة السويس وانفصلت عن القاهرة.. والتي يستشهد فيها أحمد زكي أحد أبطال الفيلم في النهاية. من أهم الأفلام التي قدمها أحمد زكي والتي تعكس الممارسات التي يقوم بها رجل المخابرات أحد رجال أمن الدولة الذي يهوي تعذيب الأبرياء وهو يستعذب آلام الناس ويمارس هذا السلوك مع أقرب الناس إليه زوجته الرومانسية علي النقيض منه لتجلب له معلومات عن الطلبةوهي لاتعرف ذلك.. وتبلغ أعماله المستفزة ذروتها في أحداث 17، 18 يناير.. حين يلفق الاتهامات للذين ليس لهم علاقة بالسياسة.. ثم يفاجأ بإحالته للمعاش ليبدأ الصراع بينه وبين نفسه.. فيقتل الأب وينتحر وهذا بالضبط ماكان يمارسه رجال أمن الدولة ليكون الفيلم أحد أسباب ثورة 25 يناير. ومن ينسي فيلم »البريء« الذي أخرجه عاطف الطيب وما كان يفعله رجال الأمن المركزي في المواطنين من تعذيب وبطش في المعتقلات السياسية.. حين يقنع الجنود الحراس بأن هؤلاء هم أعداء الوطن.. ليزيدوا في تعذيبهم.. وماكان من الصديق الوطني إلا أن أطلق الرصاص علي هؤلاء الضباط.. وهذا أيضا أحد أسباب قيام ثورة 25 يناير. ومن الأفلام التي عكست مايحدث في الوطن من صعود وهبوط فيلم »البيه البواب« »حين انقلب الهرم« من فوق إلي تحت ويتحول النصابون والبلطجية إلي رجال أعمال يكسبون الألوف.. كما قدم أحمد زكي الفوارق الكبيرة بين الطبقات.. فالسائق هو الذي يتصرف في قصر واحدة من هوانم الزمن الماضي.. حين يحس بالتفسخ العائلي ويصبح هو سيد القصر يأمر وينهي. أما أفلام السير الذاتية للزعماء فقد قدم »ناصر 56« عن شهور من حكمه خلال عام 1956.. وتعتبر أهم مرحلة في فترة قيادته وإنجازاته لمصر قبل وبعد تأميم القناة حين رفض البنك الدولي تمويل السد العالي فأعلن تأميم قناة السويس في يوليو 56 مما أدي إلي العدوان الثلاثي علي مصر.. كما يتناول الفيلم الحياة العائلية للزعيم.. وقدم »أيام السادات« الذي استطاع أن يتقمص شخصيته تماما.. منذ بداياته علي مدي أربعين عاما نضال ضد الاحتلال البريطاني.. وضرب خط بارليف وعودة سيناء لمصر وانتصاره في حرب أكتوبر ليغتال في نفس يوم الاحتفال في المنصة. عزيزي أحمد زكي: ما كل هذه الثروة التي تركتها لنا.. لقد أحببناك.. واشتقنا إليك كثيرا.. لم تتنازل يوما لكي تقدم أي نوع من الأفلام الرخيصة رغم أنك كنت تحتاج إلي المال.. وكانت أفلامك ضمن الأسباب التي مهدت لثورة 25 يناير.