فى كل مرحلة من مراحل تطور الشعر العربى، حدث صراع بين المدارس الشعرية المختلفة، والشعراء والنقاد ودارسى الشعر، وذلك لانحياز كل طرف إلى تكوينه وزائقته وذوقه وتجربته. ظهر هذا الصراع جليا وحادا، عندما بدأ جيل جديد وتجارب شعرية مختلفة، تنتقل من الشعر العمودى، إلى الشعر الحر، ومن الموسيقى والمجازات واللغة والإيقاعات إلى عوالم شعرية تتجاوز التراث الكلاسيكى للشعر العربى فى عديد مراحله، لا سيما فى العصر الحديث. من هنا واجه الشعر الحر -وفق نازك الملائكة- هجوما شرسا، ونكرانا، ورفضا لخروج الشعرية الجديدة عن الصراط الشعرى المستقيم وتراثه التاريخى، ونمطا من التلقى التقليدى. جاء الشعر الحر ومعه حس وتجربة ولغة مختلفة، تتجاوب مع متغيرات عصره وأذواقه وحساسيته وساهم فى نقلة نوعية فى التجارب الشعرية العربية، على الرغم ضراوة المحافظين فى رفض هذا النمط الجديد للقصيدة واللغة وفضاءاتها الجديدة وغير المألوفة، ووصل الأمر إلى التشكيك فى شرعية انتمائها إلى فن الشعر، لأن سطوة الذائقة المحافظة كانت تعتمد على سيطرتها على السلطة الثقافية الرسمية، وكانت تشكل عقلية حراس البوابات للمرور لما هو شعرى، وما هو خارج الشعر فى النشر والملتقيات الشعرية والمؤتمرات. من ناحية أخرى اعتمد هؤلاء على الذائقة الشعرية والأدبية التقليدية التى تعتمد على الموسيقى، والإيقاع وجماليات القصيدة ضمن الموروث الشعرى التى يتم تعليمها للطلاب فى المناهج الأدبية المقررة. على الرغم من السياجات التى فرضت على الشعر الحر، فإن التجارب الجديدة فرضت شرعيتها ولغتها وعوالمها وتجاربها لأنها ابنة زمنها وتغيراته الكبرى، وشكلت نقلة نوعية فى الشعر المصرى والعربى، على أيدى نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتى، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطى حجازى، وأدونيس وسعدى يوسف ومجايليهم، الذين قدموا تجارب ومشروعات شعرية كبرى رفدت الشعر العربى بدماء جديدة فوارة. يبدو أن كل جيل شعرى ينحاز لتجاربه، ويعتبرها أحد معايير الحكم على بعض تجارب الأجيال الشعرية التالية له، وهو الأمر الذى حدث أيضا مع جيل السبعينيات فى مصر والعالم العربى، حيث اختلفت تجارب بعض شعرائه الموهوبين عن الأجيال السابقة، وتأثر بعضهم ببعض الرؤى والتنظيرات حول الشعر على خلاف الأجيال السابقة إلى أن رسخت تجارب بعضهم وقدمت أعمالهم من خلال عديد الدراسات النقدية التى استوعبت عوالمهم الشعرية. قصيدة النثر ولدت كتجربة شعرية متميزة، وهى محاصرة، وذلك من خلال التشكيك فى شرعيتها، وانتمائها للشعر من بعض شعراء التفعيلة، وذلك لعديد من الاعتبارات وعلى رأسها، أن التنظيرات الغربية حول قصيدة النثر لم تكن مترجمة إلى اللغة العربية، ولم يطلع على أدبياتها إلا قلة من الشعراء والنقاد، ومن ثم لم تكن مستوعبة فى المعرفة والتكوين والوعى النقدى لعديد من نقاد الشعر والأدب العربى. من ناحية أخرى شكل فائض التقليد الشعرى السائد والمهيمن فى مناهج التعليم، أحد أبرز مصادر قوة التيار الرافض لشعرية قصيدة النثر وعوالمها ولغتها ومجازاتها، ومن ناحية أخرى إغلاق السلطة الثقافية الرسمية أبوابها أمام قصيدة النثر. إن نظرة على وضعية الشعر والشعراء والمأزق التاريخى الذى يبدو واضحًا يعود إلى التغير فى أنماط استهلاك وتلقى الأنواع الأدبية، والميل العالمى العام إلى السرديات الروائية على حساب تلقى الشعر والقصة القصيرة، وهو اتجاه عام بات سائدا فى مصر والعالم العربى، واتجاه بعض الشعراء الى كتابة الرواية. ثمة عمليات تغير كونية تمس أوضاع الثقافات التى تتسم بسطوة الثقافة الاستهلاكية وتأثيرها على أنماط الاستهلاك والتلقى للفنون والأنواع الأدبية، لا سيما فى ظل تمددها من خلال الثورة الرقمية وفضاءاتها، على نحو أدى إلى التأثير على تلقى الشعر. لا شك أن أزمة الشعر المصرى والعربى هى جزء من هذه الظواهر العولمية سابقة الذكر، وثمة أسباب أخرى عامة تتصل بالثقافة المصرية، وبعضها يعود إلى تطور قصيدة النثر وحقل الشعراء، يمكن لنا إيرادها على النحو التالى: أ- مشكلة تعليم الأدب فى المناهج المقررة فى مراحل التعليم المختلفة، والتى تعتمد على اختيارات وذائقة تقليدية يختلط فى بعضها الدينى بالأدبى، وعلى نمط من الاختيارات الأدبية لبعض النصوص التقليدية فى تاريخ الأدب العربى، والاعتماد فى عرضها على الشروح اللغوية لمعانى المفردات، والتركيز على الحفظ والتكرار لا التحليل وتكوين الذائقة المرهفة والملكات النقدية، ومن ثم تنحو صوب التأسيس للعقل النقلى التقليدى المرتكز على الدينى، لا العقل النقدى. من ناحية أخرى غياب بعض المختارات من الآداب العالمية فى المناهج كى يطلع الطلاب على رحابة وتنوع وثراء الآداب الإنسانية مع الأدب المصرى والعربى. ب- الطابع التقليدى فى تعليم اللغة العربية، وصعوبة البنى النحوية والصرفية، والتى تحتاج إلى تحريرها من التعقيد وتبسيطها. من ناحية أخرى ثمة مشكلة خاصة بالفجوة المعرفية والاصطلاحية الناتجة عن فجوة الترجمة عن اللغات العالمية. لا شك أن هذه الفجوة تُعسر من عملية تلقى الشعر الحداثى وتحولاته. ج- أزمة الرداءة الممتدة والتى تشكلت حول قصيدة النثر من بعض من يفتقرون للموهبة واعتقدوا أنها حقلا مستباحا للهراء باسم الشعر، من خلال الغموض الممتحل والبنى المتصدعة، وركاكة المجازات وعجز المفردات على نحو جعل بعض قراء الشعر يجفلون من قصيدة النثر وشعريتها المتميزة. هذا التمدد للرداءة، تجاور معه وتداخل ضعف التكوين حول الشعر المصرى والعربى والعالمى لدى بعض محررى الصفحات الثقافية التى لا تأبه كثيرا بالإنتاج الشعرى الإبداعى فى مجال قصيدة النثر. من ناحية أخرى ضعف متابعة بعض النقاد للإنتاج الشعرى للأجيال المتتالية لقصيدة النثر العربية، ويلاحظ أن بعضهم توقف عند بعض كبار وشعراء العربية، من قبيل نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتى، وبلند الحيدرى، وأنسى الحاج، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطى حجازى، ووديع سعادة وسركون بولس إلى حد ما، وبعض من جيل السبعينيات كعبد المنعم رمضان و حلمى سالم، وحسن طلب، وفريد أبو سعدة وجمال القصاص ومحمد سليمان وأحمد طه وآخرين، وقليلاً ما تابع بعضهم إنتاج الأجيال الشعرية اللاحقة بالتحليل النقدى. لا شك أن الفجوة النسبية بين الشعر والنقد، ساهمت فى الفجوة الكبيرة بين الشعر والتلقى، على نحو أدى إلى غربة قصيدة النثر وبعض شعرائها. د- أزمة ثقافة الشاعر التى نجد جذورها وظلالها لدى بعض الشعراء الموهوبين، ونجد بعضهم يدور فى بعض عوالم الشعر العربى، وترجمات من الشعر العالمى، وبعض من استهلاك السرديات الروائية، ولا يكاد بعضهم يتجاوز هذه الحدود، وهو أمر لا يقيم أود القصيدة، والتى تحتاج إلى روافد معرفية متعددة، وحس بصرى حاد، وتركيب ثقافى متميز. 5- سطوة الذائقة الشعرية المحافظة فى المؤسسة الثقافية الرسمية، فى اختياراتها ومواقفها من الأجيال الشعرية الجديدة على خريطة قصيدة النثر. لا شك أن الأسباب السابقة وغيرها أسهمت ولا تزال فى إقصاء وغربة الشعر الجديد وشعرائه، ومن ثم أثرت على تطور شعرية قصيدة النثر، وبروز مشروعات شعرية، والاستثناءات محدودة فى أجيال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى وما بعد. على الرغم مما سبق سيظل الشعر مستمراً ما بقيت الكلمات والشعراء والتجارب الشعرية المفتوحة على زمانها، ومن ثم قصيدة النثر وما بعد بعدها، ستأخذ اسمها من تجاربها الجديدة وسياقاتها وزمانها، لأن التجربة الشعرية هى تجربة وجود وشهود ورؤيا للعالم وللشرط الإنسانى، هى إبحار فى الجوهرى والكينونى والحى، وتمرد وهدم وبناء وتفكيك وتركيب، وشهادة رمزية على المصير الإنسانى دونما صراخ أو عويل، لأنها بلغة الشعر ومنطقه ومجازاته، شهادة وجودية بامتياز.