عندما يذُكر الشعر والشاعر فى اللحظة السائلة، يجتاحنا تاريخ من التعريفات والأدوار وغالبها يحيل إلى أدوار ومكانات رفيعة، ورسوخ للمفاهيم، وتجديد فى الرؤى والأبنية والمجازات، وإلى اللغة فى أعماقها واكتشافاتها المذهلة. مسارات وتجارب من النبوّات الوضعية إلى الوظائف الرسالية، واكتناه الغيوب. الشاعر رجل اللغة الضارى كما قيل عن بريخت المسرحى الفذ، ويجوز استعارة ما قيل عنه، لأن الشاعر هو مبدع اللغة ومكتشف قاراتها، واللاعب الخلاق بها، وهو الذى يبدع عوالمها وتشكيلاتها البديعة، هو صانع العالم وفضاءاته، هو رجل الإيجاز الفذ، ومؤسس الاستثناءات اللغوية. تتعدد الأجناس السردية، ويبقى الشعر والشاعر جوهرتين نادرتين، تضفيان على الأدب واللغة والمعانى والأخيلة والاستعارات والمجازات، شهادة البقاء عبر الزمن، والاستمرارية فيما وراء التغيرات والصيرورات والتحولات. الشعر/ والشاعر شاهدا الحضور على هدم عوالم وتفكيك أبنية، وتهاوى أخيلة، وتصدع أنسجة لغوية. تتغير أدوار، وتنتهى أخرى، ويظل الشعر والشاعر. الحديث دائما عن الشاعر... الشاعر الموهوب الصنّاع، لا أشباهه أو من ينتحلون هذا الاسم العصى على الانتحال أو الاستعارة، من بعض العابرين فى الكلام العابر إذا شئنا استعارة محمود درويش. إن الحضور اللا نهائى للشعر والشاعر لا يعنى جمود الشكل والرؤية والأدوات عند مرحلة من مراحل تطوره، وإنما الشعر فى حالة تحول فى بنائه ولغته ومضمراته وأخيلته ومجازاته، لا يتوقف عند لحظة، لأن ثمة بناة جددا للقصيدة يحملون معهم اللهب المقدس الجديد ووصولهم إلى قصيدة النثر، لا يعنى الوقوف عندها، وإنما الشيق والأجمل هو تجاوزها على الرغم من أنها قصيدة مفتوحة على عالم لم يُعد من السهولة الإمساك بجوانبه السائلة، من هنا يبدو مشروعاً التساؤل عن مصير الشعر والشاعر فى هذا العالم الذى تحكمه السرعة والسيولة والصيرورات المستمرة؟ ثمة عديد من التغيرات العولمية المؤثرة على الأرضية التى تنهض من ثناياها ومراكزها وهوامشها القصائد، وهى الثقافة التى تشهد ساحاتها ومكوناتها وفضاءاتها عمليات تغير، ستؤثر عميقاً فيما ألفناه، وعشنا معه من أبنية ثقافية وفاعلين ومبدعين، بل فى نمط الذائقة والاستهلاك فى المراحل المابعدية التى نحياها -ما بعد بعد الحداثة وما بعد العولمة-، عالم يصفه زيجمونت باومان بالحداثة السائلة، أو عصر السيولة، حيث لا صلابة فى بنيات الثقافة والقيم والغايات. ما اعتقدنا أنه صلب ومستمر يبدو سائلاً بما فيها الحداثة والتحديث المادى، وهو ما يبدو صادماً لنا فى البنُى الثقافية، والأشكال والأجناس السردية، وفيما وقر فى قناعاتنا عن الثقافة الرفيعة ومن يستهلكونها، بل فى دراسة وتحليل الإنتاج الإبداعى فى الرواية والقصة والمسرحية والشعر كنتاج للتغيرات والصيرورات التى تشمل التقنية والرقمنة وانعكاساتها على أنماط الحياة، والتفكير، وفى استهلاك ما بات يسمى بالسلع الثقافية، ومن ثم تبدو لحظتنا التاريخية السائلة مترعة باللا يقين، ووهن الأحكام اليقينة والصارمة، ومن هنا نطرح سؤال مصير الشعر فى العالم فى ظل هذه السياقات المتغيرة؟ عالم سائل تسوده صيرورات الثورة الرقمية وإرهاصات ثورة أخرى هائلة هى الذكاء الصناعى، تأثيرات الأولى وإمكانات الثانية واحتمالاتها تشير إلى أنهما سيؤثران على اللغة والتفكير والذائقة وأنماط التلقى، بل على الكينونة والوجود والوعى الإنسانى، ومن ثم نحن على مشارف تغيرات كبرى وسريعة جدا ومكثفة، ومن ثم ستؤثر على الفنون الإبداعية وأشكالها، ولغتها، وتقنياتها وأدواتها، ومن ثم يبدو الحديث عن الأشكال والأنسجة السردية التى نعرفها، وكأنها أبدية أقرب إلى الوهم. فى ظل هذا العالم المابعدى ما بعد بعد الحداثة وما بعد العولمة- السائل واللا يقينى والغائم فى مألاته هل الشعر فى أزمة فى عالمنا المعولم؟ السؤال حقيقى وواقعى والإجابة عنه بنعم جهيرة، ثمة أزمة، والسؤال ما هى أسبابها؟ ثمة عديد الأسباب، وعلى رأسها ما يلى: 1- الثورة الرقمية أدت إلى إيجاد اهتمامات واسعة للأفراد، فضلاً عن التحول إلى الشبكات ومن ثم فرض لغة رقمية تتمدد بين مستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى، ومن ثم بروز أساليب تفكير وذائقة واختيارات واهتمامات مواكبة لها، وأنماط استهلاك للأجناس الأدبية، والفنون وتقدم بعضها وتراجع نسبى لأخرى لمصلحة أشكال وتقنيات جديدة مستمدة من الثورة التكنولوجية والحضارة الاستهلاكية، وفق توصيف إريك هوبزباوم فى مؤلفه أزمنة متصدعة. 2- نزوع الكثرة الكاثرة من الجماعات القرائية إلى السرد الروائى، وتحول بعض الشعراء إلى كتابة الرواية فى المنطقة العربية، وهو نمط من التحرك بين الأجناس الأدبية، فى شكل من الخيانة النبيلة للشعر، وقلة قليلة هى التى حققت نجاحاً فى هذا المضمار. يبدو لى أن هذه الظاهرة وراءها منطق السوق الأدبية ونمط الاستهلاك الثقافى والذائقة المهيمنة للسرد الروائى. 3- التعقيد والغموض فى بنية القصيدة الحداثية وقصيدة النثر- وقاموسها ومجازاتها، ومن ثم تحتاج إلى نمط مركب وخاص من التلقى الشعرى على معرفة ووعى وثقافة شعرية وذائقة مدربة على تلقى قصيدة الحداثة وتطوراتها. هذا النمط من التلقى يبدو شحيحاً، لأنه يحتاج إلى دربة وتكوين متميز. لم يعد النص الشعرى الحداثى وما بعده، جزءاً من أنماط الاستهلاك الثقافى فى عالم الثقافة الاستهلاكية الواسعة الانتشار والهيمنة فى الأسواق الثقافية ومن الجمهور العام، وإنما بات جزءاً من عوالم واهتمامات وتذوق الخاصة من النخب الثقافية التى لديها من التكوين والمعرفة والذائقة والأدوات ما يسمح لها بفك أسرار القصائد والتمتع بها. لم يعد الشعر أحد الأجناس الأدبية الشعبية كما كان فى الماضى، ولكن سيظل فن نخبة النخبة بامتياز فى عالم سائل ومتغير. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح