بسبب سوء الأحوال الجوية.. تعطيل العمل والامتحانات بجامعة جنوب الوادي    محمد جبران رئيسًا ل«المجلس المركزي» لنقابات العمال العرب    بالصور.. رفع المخلفات والقمامة بعدد من شوارع العمرانية    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    شهداء وجرحى جراء قصف طائرات الاحتلال منزل في مخيم النصيرات وسط غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    قطر تصدر تنبيها عاجلا للقطريين الراغبين في دخول مصر    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    الأهلي يكرر إنجاز ريال مدريد التاريخي بعد تأهله إلى نهائي دوري أبطال إفريقيا    موعد مباراة الأهلي والترجي التونسي في نهائي دوري أبطال أفريقيا    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    علي فرج يهزم مصطفى عسل ويتوج بلقب بطولة الجونة الدولية للإسكواش    نهائي دوري أبطال أفريقيا.. تعرف على موعد مباراة الأهلى والترجي    رد حاسم من وائل جمعة على مقارنة كولر بجوزية    السيطرة على حريق في جرن قمح بقنا    %90 من الإنترنت بالعالم.. مفاجأة عن «الدارك ويب» المتهم في قضية طفل شبرا الخيمة (فيديو)    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    أوكرانيا: تسجيل 79 اشتباكا قتاليا على الخطوط الأمامية للجبهة مع الجيش الروسي    بمشاركة مصطفى محمد، نانت يتعادل أمام مونبلييه بالدوري الفرنسي    جهاز منتخب مصر بقيادة التوأم في مباراة الأهلي ومازيمبي    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    "مخاطر الهجرة غير الشرعية ودور الجامعة في الحد منها" ندوة آداب الوادي الجديد    محافظ القاهرة: حملة لرفع الإشغالات وإعادة الانضباط بشبرا    بلاغ يصل للشرطة الأمريكية بوجود كائن فضائي بأحد المنازل    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    محمد التاجي: فاتن حمامة فضلت محافظة على وزنها 48 كيلو وهذا ما ورثته من عبد الوارث عسر (فيديو)    ناهد السباعي تحتفل بعيد ميلاد والدتها الراحلة    أول تعليق من تامر حسني عن مشاركته في احتفالية ذكرى تحرير سيناء    سميرة أحمد: رشحوني قبل سهير البابلي لمدرسة المشاغبين    أخبار الفن| تامر حسني يعتذر ل بدرية طلبة.. انهيار ميار الببلاوي    البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة "باتريوت" متاحة الآن لتسليمها إلى أوكرانيا    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    ذوي الهمم والعمالة غير المنتظمة وحماية الأطفال، وزارة العمل تفتح الملفات الصعبة    أسعار النفط ترتفع عند التسوية وتنهي سلسلة خسائر استمرت أسبوعين    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    كرم جبر : الرئيس السيسي رفض الرد على نتنياهو أكثر من مرة    برلماني: استرداد سيناء ملحمة وطنية تتناقلها الأجيال    محافظ القاهرة: تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال بكل حزم    الزراعة: إصلاح الفدان الواحد يكلف الدولة 300 ألف جنيه    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    العمل في أسبوع.. حملات لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية.. والإعداد لإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتشغيل    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    أحمد فايق يقدم نصائح لطلاب الثانوية العامة عبر «مصر تستطيع»: «نجتهد دون قلق»    شركة GSK تطرح لقاح «شينجريكس» للوقاية من الإصابة بالحزام الناري    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    مصرع طفل سقط في مصرف زراعي بالفيوم    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"حداد وجاهين وقصيدة العامية".. بين النقد المأزوم ومقولة قتل الآباء

لم تلقَ اٍبداعات فؤاد حداد وصلاح جاهين، ورواد قصيدة العامية الحديثة نفس الحفاوة النقدية التي لاقتها اٍبداعات معاصريهم من شعراء قصيدة التفعيلة الفصحى؟! وذلك رغم أن تجارب فؤاد حداد وصلاح جاهين كانت أكثر ميلا للتجريب والتنوع من قصائد التفعيلة الفصحى التي أبدعها معاصروهم، وذلك نظرا لاختلاف البناء الموسيقي لقصيدة العامية عن قصيدة التفعيلة في شعر الفصحى والتي خرجت على عمود الشعر التقليدي حيث اكتفت بالبحور الشعرية الصافية ذات التفعيلة الواحدة، واستبدلت البيت الشعرى المكون من عدد من التفعيلات المحدة بالسطر الشعرى الذي لا يشترط عددا محددا للتفعيلات ولكنها- قصيدة التفعيلة- في نفس الوقت التزمت بمحددات العروض وضروراته في ببنيتها الموسيقية والالتزام بتفعيلة بحر واحد طوال القصيدة، ولكن قصيدة العامية أكثر تحررا من شرط تكرار التفعيلة الواحدة ويتضح ذلك جليَّا في اٍبداعات رواد قصيدة العامية فكان الشاعر حرا في اختياره بين الالتزام بتفعيلة بحر محدد طوال قصيدته أو المزج بمنتهى الحرية بين التفعيلات العروضية المتقاربة موسيقيا وفقا لما تتطلبه الضرورة الشعرية سواء اتفقت تلك الضرورة الشعرية مع ضرورات العروض المتعارف عليها في شعر الفصحى أم لا؟ وهناك من يفترض أن قصيدة العامية هي شكل شعرى عامي موازي لقصيدة التفعيلة وأن قصيدة العامية قامت بتحطيم الشكل الفنى للزجل وأسست على أنقاضه شكلا خاصا بها كما فعلت قصيدة التفعيلة بالقصيدة العمودية في شعر الفصحى، واٍذا افترضنا ذلك فعلى أي أساس تمت عميلة هدم شكل وبناء شكل جديد؟ والأوزان تتغير في الزجل الواحد من مقطوعة اٍلى أخرى وكذلك قصيدة العامية لها الحرية في أن لا تلتزم بتفعيلة محدّدة، والواقع أن قصيدة العامية لم تخرج من رحم الزجل أو غيره من الفنون الشعرية الغير معربة "العامية" السابقة عليها، ولا يعنى ذلك أنها منقطعة الصلة بهذه الفنون بل هي وليدة تجربة شعرية تفاعلت مع تراث المواويل والزجل والبلّيق والدوبيت دون أن تتقولب في أشكالها الفنية أو تطور هذه الأشكال أو تتبنى أغراضها واختارت لنفسها شكلا فنيا أقرب اٍلى الشعر الحر بعيدا مفهوم جبرا اٍبراهيم جبرا للشعر الحر على أنه الخالى من الوزن، وبعيدا عن مفهوم نازك الملائكة للشعر الحر على أنه على شعر التفعيلة الذي تلتزم فيه القصيدة باٍيقاع تفعيلة بحر شعرى معيّن من التفعيلات التي حدّدتها نازك الملائكة في كتابها قضايا "الشعر المعاصر".
واستغل حداد وجاهين تلك الحرية في البحث عن مناطق شعرية جديدة في لغة الحياة اليومية بآليات ورؤى فنية معاصرة، هذا اٍلى جانب عدم وجود صراع بين قصيدة العامية والأشكال الشعرية العامية السابقة عليها، واستفادتها من تراث تلك الأشكال وانفتاحها على آفاق الحداثة التي تعنى في أحد تجلياتها أنها وعى روحى فكرى جمالي بالذات والعالم والآخر والتاريخ، فلم تكن رغبة رواد قصيدة العامية اٍحلال شكل شعرى محل شكل شعرى آخر كما حدث في شعر الفصحى بين الشعر العمودى وقصيدة التفعيلة بقدر ما كان هاجسهم الشعرى هو تقديم اٍبداع فني جديد يتمثل في قصيدة العامية الحديثة يتجاور ويؤثر ويتأثر بالأشكال الشعرية العامية السابقة عليه، ولم يأخذوا موقفا من تلك الأشكال الشعرية لصالح قصيدة العامية بل أبدعوا في تلك الأشكال الشعرية اٍلى جانب اٍبداعهم الرئيسي في قصيدة العامية ففؤاد حداد كتب قصيدة العامية وفي نفس الوقت كتب الموال والمربع الشعرى والزجل وكذلك صلاح جاهين الذي كتب قصيدة العامية هو من أبدع الرباعيات التي تأخذ شكل الدوبيت والأزجال التي كان ينشرها في مجلة صباح الخير.
فلماذا لم تلق اٍبداعات رواد قصيدة العامية الاحتفاء النقدى الذي تستحقه من النقاد الذين توجه اهتمامهم النقدى آنذاك بقصيدة التفعيلة وصراعها مع القصيدة العمودية في شعر الفصحى؟!
هل يعود السبب في ذلك اٍلى نظرة النقاد الدونية لقصيدة العامية ؟ أم أنهم نظروا لقصيدة العامية على أنها مجرد تابع لقصيدة التفعيلة الفصحى؟
أم أن هؤلاء النقاد الكبار رأوا أن تناولهم للشعر العامى في أطروحاتهم النقدية سوف يتسبب في اتهامهم بمحاربة شعر الفصحى بل ومحاربة اللغة العربية الفصحى ذاتها؟
لو كانت النظرة الدونية من قبل النقاد لقصيدة العامية هي السبب فاٍن هؤلاء النقاد الذين تعلمنا منهم كانوا غير عادلين وغير منصفين بل ولن أكون مغاليا أن اتهمتهم بشبهة ضيق الأفق، بل ربما أتهمتهم بعدم المصداقية لأنهم رددوا في أطروحاتهم النقدية مقولات النقد الحداثى التي تؤكد على أن كل اللغات صالحة للشعر وأنه لا توجد لغة أو مفردات صالحة للشعر دون أخرى.
ولو أن هؤلاء النقاد الكبار نظروا لقصيدة العامية على أنها مجرد تابع لقصيدة التفعيلة الفصحى وما يُقال عن قصيدة التفعيلة التي هي الأصل وفقا لنظرتهم يمكن أن يقال على قصيدة العامية، هم وبكل آسف مخطئون فقصيدة العامية كما أشرت سابقا تختلف في بنائها الموسيقي عن قصيدة التفعيلة الفصحى التي تلتزم بتفعيلة بحر شعرى محدد هذا بالاٍضافة اٍلى اتكاء قصيدة العامية على تراث فنون الشعر العامى السابقة عليها دون أن تحل محلها أو تكون بديلا عنها، وفى حين أن شعراء التفعيلة ظهرت في نصوصهم آثار التثاقف - التلاقح الثقافى - مع الآداب الأجنبية عبر الاٍحالة لأسماء شعراء وفلاسفة ونصوص أدبية أو تضمين مقولات واستشهادات من الأداب الأجنبية كما قاموا بتوظيف التراث والأساطير الاٍغريقية والرومانية اٍلى جانب توظيف اِشارات وثيمات من التاريخ العربي، بينما أتجه رواد قصيدة العامية للغوص في الوجدان الشعبى والنبش في طبقات التراث الشعبى التي اختزنها الذاكرة الثقافية الجمعية المصرية والعربية والبحث عن شعرية جديدة في العامية منفتحة على فضاء التجديد الشعرى الحداثي.
والمفارقة الأكثر طرافة أنه في العصر المملوكي الذي ظلمه مؤرخو الأدب كان هناك نقادا كبارا اتسع أفقهم وأدركوا خصوصية الأشكال الشعرية العامية واختلافها عن شعر الفصحى، فتناولوا في كتبهم النقدية فنون الشعر العامى آنذاك الزجل والمواليا والدوبيت والمربعات والمقاطيع الشعرية العامية وعلى رأس هؤلاء الشاعر والزجال والناقد صفى الدين الحِلِّى صاحب كتاب "العاطل الحالى والمرخص الغالى" في فنون الشعر العامى، وابن حجة الحموى صاحب "بلوغ الأمل في فن الزجل"، وعبد الوهاب البنوانى صاحب كتاب "دفع الشك والبين في أمور الفنين - الزجل والمواليا" وغيرها من الكتب التي كانت تتناول فنون الشعر العامى دون استعلاء أو تمييز، في حين أن نقادنا الكبار المعاصرين لفورة حركة قصيدة العامية في الخمسينات والستينات لم يقدموا كتابا واحد عن قصيدة العامية الحديثة باعتبارها رافدا هاما من روافد الشعرية العربية ؟!
ولو أن السبب خوف النقاد الكبار من كيل الاتهامات لهم بأنهم يشجعون القصيدة العامية نكاية في اللغة العربية الفصحى وشنّ الحرب عليها، فهذا قصور آخر في الوعى بالتراث والوعى بالفرق الجوهرى بين عامية اللغة والشعر، فليس هناك خطرا يشكله الشعر العامى على العربية الفصحى، اٍذ أن فنون الشعر العامى ظهرت منذ منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمن متجاورة مع شعر الفصحى ولم تشكل أي خطر على العربية الفصحى، فالفصحى والعامية ليس بينهما صراع لغوى سلبى، فالعامية التي أخذت جلّ مفرداتها من الفصحى أصبحت رافدا لغويا يمدّ الفصحى بالمفردات الجديدة المولّدة والأجنبية الدخيلة، بعد أن يعمل اللسان العامى على إيجاد صيغة لغوية جديدة لتلك المفردات، فيعدّل اللغويين في هذه الصيغة، أو يأخذونها كما هي أثناء عملية التعريب. ويمكن التدليل على ذلك بالعودة اٍلى المعجم الوسيط لمعرفة المفردات التي تم تفصيحها حيث وضع جامعى المعجم أمام تلك المفردات رموز لغوية مثل "مو" وتعنى مولد و"د" تعنى دخيل.
وللعامية فنونها الشعرية التي ارتبطت بأول ثورة شعرية مكتملة الملامح في تاريخ الأدب العربى حيث ارتبط ظهور الزجل العامى في الأندلس بظهور الموشح الفصيح الخارج على وحدة الوزن والقافية، وارتبط الموال الرباعى العامى بظهور المواليا الفصيح في بلاد العراق، ووارتبط ظهور الدوبيت العامى بالدوبيت الفصيح المنقول من الأدب الفارسي.
والمفارقة الأكثر اٍثارة أن الأشكال الشعرية الفصيحة التي نسج على منوالها، شكلها الفنى الشاعر العامى فنه الشعرى قد اندثرت بمرور الزمن، وبقيت الفنون الشعرية العامية الموازية لها بعد استقلت وأصبحت لها خصوصيتها الفنية، فاندثر الموشح وبقى الزجل واندثر المواليا الفصيح وبقى العامى وتطورت أنواعه فبعد أن كان المواليا / الموال رباعيا تتفق قوافى أشطره الأربعة أصبح هناك الموال الرباعى المتحرر شطره الثالث من القافية والموال الخماسى والموال السباعى، وكذلك اندثر الدوبيت الفصيح وظل العامى وتفرّعت منه المربعات الشعرية المختلفة بأنواعها، ومن وجهة نظرى أن السبب الرئيسى في ذلك أن فنون الشعر العامى بما فيها قصيدة العامية الحديثة والمعاصرة أسست لنفسها شعرية موازية مستقلة عن شعرية الفصحى التي ظلّ عمود الشعر عمودها وشكلها الفنى الأول وجاءت الموشحات والمواليات والدوبيتات والرباعيات والمقاطيع في المرتبة الثانية بعده، حتى في أكثر الفترات التي كان حضور تلك الأشكال الشعرية بارزا فيها، ولم تكن هذه الأشكال بديلا عن عمود الشعر في يوم ما، أمّا في العامية فالوضع مختلف لأن أشكالها الشعرية قامت على التعددية فلم يكن هناك عمودا شعريا عاميا قد ظهر قبل\المواليا والزجل والدوبيت، بل أنه وهذه مفارقة أيضا بعد استقرار شكل االزجل المشابه للموشح، فقد ظهر في الأندلس في القرن السادس الهجرى فنا شعريا عاميا يماثل القصيدة العمودية أطلق عليه الشعراء القصيدة الزجلية كما قال ابن خلدون في مقدمته، ولم يكتب لهذا الشكل الشعرى الانتشار الواسع وخاصة في بلاد المشرق، ويعود ذلك من وجهة نظرى اٍلى أن فنون الشعر العامى ابنة شرطها الفنى والجمالى فعمود الشعر ابن الذائقة العربية التراثية التي سكنت البادية وكان شكله الفنى أوزانه وتفعيلاته ووحدة قافيته انعكاسا جماليا تجلّى بشكل عفوى فطرى لتلك الذائقة التي تبلورت وفقا لشرطها الجمالى وتفاعلت مع بيئتها وثقافتها وتاريخها.
والمؤسف في الأمر أن هؤلاء النقاد الكبار هم الذين قالوا أن اللغة الشعرية تختلف عن اللغة المعيارية التوصلية في أنها ليست مجرّد وسيط لنقل الأفكار فالعلاقة بين اللغة والمعنى في الشعر علاقة تماهى وتداخل لا انفصال فيه فالمفردات تلتصق بأحاسيس ووجدان الشاعر لتشكّل رؤياه الشعرية للذات وللعالم، وبناءً على الاختلاف بين اللغة المعيارية واللغة الشعرية فاٍن شعرية العامية مختلفة تماما في خصوصيتها عن شعرية الفصحى، نظرا لاختلاف اللغة ولا مجال للمقارنة بين الشعريتين، واٍنما هناك تجاور وتقاطع يعمل على اٍثراء كل منهما ولا علاقة لذلك بالخطر أو شَنّ الحرب على اللغة العربية الفصحى.
ورغم كل ماسبقت الاٍشارة اٍليه من فقر نقدى شديد لا يتناسب مع اٍبداعات حداد وجاهين اٍلاّ أن مقولة قتل الأب لم تجد رواجا بين شعراء العامية منذ الأجيال التالية لحداد وجاهين حتى يومنا هذا.
و"قتل الأب" مقولة نقدية تشير اٍلى الانحراف عن ما أبدعته الأجيال السابقة في الأدب واٍنتاج أدب جديد يحمل السمات الفردية لكل مبدع وفقا لوعيه الفكرى والروحى والجمالى بذاته وبظروف عصره، وكانت هذه المقولة بشكل أساسى موجهة لجيل الستينات من الأجيال التالية له وزادت حدة تلك المقولة منذ منتصف التسعينات، وفى بعض الأحيان وصلت لحد التطرف في كيل الاتهامات لأدباء الستينات وأساليبهم الفنية، وأقول تطرف ليس بقصد اٍبعاد أدب وأدباء الستينات عن النقد أو سعيّا منى لجعلهم النموذج الذي يجب أن نحتذى به، ولكن ما أقصده هنا هو أن لكل وقت ظروفه الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تنعكس على الاٍبداع واختيار المبدع لرؤيته وأدواته الفنية وأن لكل وقت سياقه الثقافى الذي يختلف عن السياق الثقافى للوقت الراهن أو المستقبلى، فلنقرأ أدب الستينات في سياقه ووفقا لوقته نستفيد منه ونهضمه وننتج أدبا خاصا بوقتنا وبذواتنا الاٍبداعية.
ولم تجد مقولة "قتل الأب" رواجا بين شعراء قصيدة العامية وأعتقد أن هناك عدة أسباب لذلك وهى:
السبب الأول: هو اختلاف قصيدة العامية منذ نشأتها عن قصيدة التفعيلة الفصحى من ناحية البناء الموسيقى والرؤى والأطر الفنية والجمالية والغوص في أعماق ووجدان البيئة الشعبية المصرية والتفاعل مع التراث الشعبى وتوظيفة بدلا من توظيف الميثولجيا الاٍغريقية أو التراث العربى عند شعراء قصيدة التفعيلة كما أشرت سابقا، وأن قصيدة العامية منذ نشأتها كانت بعيدة عن الصراعات والمعارك المثارة آنذاك بين المحافظين والمجددين بخصوص عمود الشعر والتفعيلة والعروض والتراث والمعاصرة وشبهة التأثر بالشعر الأجنبى وغيرها من القضايا التي انشغل بها رواد قصيدة التفعيلة في معاركهم الأدبية مع المحافظين على صفحات المجلات والصحف الأدبية، وهذه النشأة المختلفة والبعيدة عن الصراعات أتاحت لقصيدة العامية بأن تكون باستمرار في حالة تجريب مستمر منذ عهد الراود حداد وجاهين وقاعود فهم لم يكفوا عن التجريب في اٍبداعاتهم المتنوعة على مدى ما يقرب من نصف قرن.
السبب الثانى: اٍدارك هؤلاء الرواد الكبار للاختلاف بين قصيدة العامية وقصيدة الفصحى واتجاه رواد قصيدة العامية للتجريب بشكل مستمر كان السبب الرئيسى في اٍخفاق محاولات بعض النقاد الذين استخدموا في أطروحاتهم النقدية والتنظرية أغلبها أليات وخصائص قصيدة التفعيلة الفصحى وبذلك كانت بعيدة عن أعماق قصيدة العامية.
أما النموذج الذي قدمه المنظّرون واختزلوه في الموسيقى الغنائية والكلمات الرنانة المختارة بعناية وأن هناك مفردات تصلح لقصيدة العامية دون أخرى والصور المجازية التي أصبحت عادية من كثرة استخدامها، فهذا لا يمثل نموذجا من الأساس واِن كان الرواد اقتربوا في اٍبداعهم من هذا النموذج فلم يكن الوحيد والنموذجى عندهم.
السبب الثالث: أدرك شعراء العامية اللاحقون- كما أدرك الآباء- ماهية الاختلاف والخصوصية والتجريب في شعر العامية فسعوا اٍلى هضم منجز الأباء وإنتاج قصيدة تخص ذواتهم ووقتهم الراهن الذي له سياق ثقافى خاص به واٍضافة رؤى وتجارب شعرية جديدة لديوان الشعر العامى المصرى.
السبب الرابع: لم يسعَ رواد قصيدة العامية لتأسيس سلطة ثقافية كما فعل بعض شعراء التفعيلة الفصحى بل كان اهتمامهم بالفن ذاته فعندما قابل سيد حجاب في شبابه صلاح جاهين وسمع منه شعرا قام جاهين وعانق سيد حجاب وقال له مشجعا "احنا بقينا كتير".
الآباء لم يفرضوا على شعراء العامية نموذجا واحدا وكانوا في حالة تجريب مستمر، الأباء لم يسعوا ليكونوا سلطة ثقافية، فتدافع الأبناء والأحفاد لقراءة وهضم منتج الأباء وأنتجوا شعرا يخصهم ويخص عصرهم وذواتهم.. وظل الآباء وسيظلون أصحاب ضربة الفأس الأولى في شق مجرى نهر اٍبداع قصيدة العامية المصرية نتعلم من اٍبداعهم ونسعى لاٍنتاج ذواتنا الشعرية. سلاما لآبائنا الكبار فؤاد حداد وصلاح جاهين ومتولى عبد اللطيف وفؤاد قاعود.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.