بضعة أشخاص منتشرين فى قاعة مركز "دال" للأبحاث والإنتاج الإعلامى، ينتظرون المحاضر للحديث عن موضوع نادرا ما يتحدث عنه أحد، وبعد تأخير دام نصف ساعه حضر الكاتب الصحفى بمجلة الكواكب محمد دياب وبدأ الحديث عن «دولة تلاوة القرآن النسائية» وعن سبب غياب القارئات عن الساحة بعد عام 1949، وهو ما لم يقدم إجابة محددة عنه، وارتكن إلى كتاب الكاتب الراحل محمود السعدنى باعتباره المرجع الوحيد عن هذا الموضوع، والذى أكد فيه (السعدنى) أن فتوى صدرت بأن صوت المرأة "عورة"، فتوقفت الإذاعة المصرية عن التعامل مع القارئات، وفى نفس الوقت انتقد دياب كتاب "الولد الشقى"، وقال: "كتاب محمود السعدنى به الكثير من الأخطاء والكثير من المعلومات المرسلة التى أعاد تصحيحها فى الطبعة الثانية من الكتاب"، أى أنه حاسبه على اهتمامه بالكتابة عن تاريخ هؤلاء القارئات، ولولاه ما سمعنا عنهن بالأساس، ويقول أيضا: لا يوجد أى معلومات عن هؤلات القارئات بعد أن توقفت الإذاعة عن التعامل معهن، فلا نعرف على سبيل المثال تواريخ وفاة لهن، كما أنه لا يوجد دليل على أى شيء". وأضاف، دياب: "صدرت فتوى فى نوفمبر عام 1940 بأن صوت المرأة "عورة"، ولا نعرف من مصدر هذه الفتوى، حتى فى سجلات الأزهر لم نجد لها أساسا، فقط نجد هذا فى كتاب السعدنى، فلو كانت هناك فتوى (رسمية)، فلماذا ظلوا يرتلون فى العديد من المحافل بعد أن منعتهم الإذاعة". ربما غضب المشايخ فى ذلك الوقت هو السبب الرئيسى فى اختفاء قارئات القرآن عن الساحة، وربما هناك أسباب أخرى، لكن المؤكد أنه قبل الحرب العالمية الثانية صدرت فتوى من كبار العلماء فى ذلك الوقت بالتحريم: صوت المرأة عورة -قد يفتن الرجال- فاختفت دولة التلاوة النسائية بعد أن كانت رائداتها قد احتللن مساحات كبيرة حتى قبل ذلك بسنوات طويلة، منذ محمد على باشا وقارئته المفضلة "أم محمد" التى كانت تحيى ليالى رمضان فى حرمك الوالى، وتقوم بإحياء المآتم فى قصور قواد الجيش وكبار رجال الدولة، لكن هناك وجهة نظر أخرى للشيخ أبو العنين شعيشع، نقيب القراء السابق، بقوله: "لا أعتقد أن المرأة ستقرأ فى المحافل العامة وفى سرادقات العزاء، لأن القراء الرجال كثيرون"، المجتمع نفسه تغيرت عاداته وتقاليده لم يعد هناك حرملك ولا قصور أمراء يمكن للقارئة أن تحيى فيها ليالى رمضان، والمآتم تقام بقارئ للرجال والنساء، بعد أن كانت تقام ثلاث ليال للرجال وثلاث ليال للنساء حتى الربع الأول من القرن العشرين وبشهادة الشيخ شعيشع أيضا: "الزمن الذى نعيش فيه ليس مثل الزمن الذى ظهر فيه القراء العظام، وحتى نستطيع إعداد قارئ جيد لا بد أن يكون عاشقا للقرآن ومحبا له ويتفانى من أجله، لا أن يتخذ من القرآن مجرد وسيلة للكسب". أكد، دياب، خلال الندوة أن وجود القارئات فى تلك الفترة الزمنية أمر ضرورة اجتماعية ملحة، فالرجال يقرأون فى محافل الرجال "عزاء- مناسبات دينية"، والسيدات يقرأ فى مجالسهن القارئات، وبدأت هذه الظاهرة تقل مع ظهور الأسطوانات، ثم الإذاعة ثم الكاسيت، فأخذت المهنة فى الاندثار مثل أغانى الأعراس. وكشف، دياب، أن أول امرأة قامت بتسجيل القرآن الكريم على أسطوانات كانت المطربة الشهيرة المظ، وأن هذه التسجيل موجود لدى عائلة عبده الحامولى يحتفظون به فى صندوق خشبى كى لا يتلف، وأن أول رجل سجل القرآن على أسطوانة تجارى كانت المطرب محمد سليم عام 1906، وأن رياض السنباطى قال فى أحد حواراته إنه لحن القرآن لأم كلثوم وأثناء التسجيل نظروا إلى بعضهم البعض، وقال: خفنا"، وأن الشيخ زكريا أحمد قال "أنا لحنت القرآن لأم كلثوم فى فيلم سلامة". دياب أخذ على الإذاعة عدم الإفراج عن الشرائط والأسطوانات التى تؤرخ لتسجيلات القارئات، وقال: قد يكون لمنيرة العدلية تسجيلات فى الإذاعة على أشرطة ماركونى ولكنى لا أفهم سبب إصرار الإذاعة حتى اليوم على عدم الإفراج عن هذه التسجيلات، كما لا أفهم أيضا لماذا لا يوجد بها صوت نسائى، رغم أن نقابة القارئات بها ما يزيد على ال"100" عضوة". وبعيدا عما دار فى الندوة فإن التاريخ يكشف لنا أن أغلب القارئات قد تحولن من مهنة "النياحة" إلى قراءة القرآن، وأن أشهرهن الحاجة "دربالة" بالجيزة، والحاجة "خضرة" فى المنوفية، والست عزيزة فى الإسكندرية، ومع الوقت ظهرت قارئات محترفات، درسن وتتلمذن على يد مشايخ كبار، وأيضا بعضهم تحولن من قراءة القرآن إلى الغناء. وحسب الدكتورة سعاد صالح فإن أول سيدة وصلت لمنصب رئيس إذاعة القرآن الكريم- الدكتورة هاجر سعد الين- هى المسئولة عن إقصاء المرأة بالإذاعة المصرية بعد أن قالت إن صوت المرأة لا يصلح أن يكون صوت قارئ قرآن فى الإذاعة فى حين أنه لا يوجد دليل يقصر قراءة القرآن مجودا على الرجال ولا النساء. المؤكد الذى لا يمكن نكرانه أن مصر كانت مليئة بقارئات من طراز رفيع، صدحن عبر الإذاعة، وسجَّلن بأصواتهن آيات الذكر، ليس هذا فحسب، بل تتلمذ على أيدهن بعض مشاهير القراء الرجال، ويبقى الاحتمال "النظرى" أن نراهن مرة أخرى فى المناسبات أو نسمعهن عبر أثير الإذاعة فنقابة القراء قد قبلت بين أعضائها 30 منهن قبل سنوات لكن لم نسمعهن، فمازالت الفتاوى تؤكد أن صوت المرأة "عورة"، وأنه يجوز سماعه للنساء، ويجوز للرجال إذا لم يترتب عليه فتنة. يمتلئ القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بأسماء كثيرة للقارئات، لم يصلنا تراجم عنهن سوى القليل، معلومات متناثرة، هنا وهناك، منها أنه كان للمقرئات عام 1925 يوم مُخصص لقراءة القرآن على الهواء مباشرة عبر الإذاعة، ويُقسم القرآن على الحضور منهن وكلُ منهن تقرأ جزءا، والغريب أن الإذاعة كانت تحجب تماما صوت القارئات فى شهر رمضان، وتعد الشيخة "مبروكة" هى أقدم القارئات التى عثر لها على تستجيلات صوتية حيث لها تسجيل عام 1905، وهناك أيضا الشيخة "سكينة حسن" وتضاربت الأقوال بخصوص تاريخ ميلاها، فقيل 1880 وقيل 1896. ولدت ضريرة فى صعيد مصر، فألحقها والدها بالكُتَّاب لتعلم القرآن، ورتلت القرآن والتواشيح فى المناسبات الدينية، وسجلت بعض آيات الذكر على أسطوانات، لكن الأزهر حرّم هذه التسجيلات، ولها ترتيل مسجل منذ عام 1911. أما الشيخة خوجة إسماعيل فقد كانت مسئولة التلاوات النسائية فى الإذاعة، وقدمت لأول مرة يوم 19 أبريل عام 1936، ثلاث تلاوات، وزاد الاهتمام بها، حتى أسندت إليها جميع التلاوات النسائية فى شهر مايو من العام نفسه، وبلغت ثلاث تلاوات فى الأسبوع الواحد، لكنها توقفت تماما فى ما بعد. وكانت الإذاعات الأهلية البوابة الأولى لقارئات القرآن التى نحو الشهر وبحسب الكاتب محمود السعدنى فى كتابه "ألحان السماء" ظهرت الشيخة كريمة العدلية وذاع صيتها مطلع القرن العشرين، حيث عرفتها الآذان من خلال ميكروفون الإذاعة، وظلت ترتل آيات الذكر الحكيم بصوتها حتى الحرب العالمية الثانية، واعتادت إقامة حفل ضخم للإنشاد فى الخميس الأول من كل شهر فى أحد بيوت أثرياء الأقاليم، كان يحضر الحفلات كبار القراء، مثل الشيخ محمد رفعت، ومحمد الصيفى ومنصور بدار والشيخ على محمود التى كانت تعشق صوته وطريقته فى الأداء، فى حين كان يبادلها الإعجاب بالإنصات إليها. وفى تلك الفترة كانت هناك الشيخة الكفيفة منيرة عبده، التى بدأت رحلتها مع القرآن فى سن ال18، عام 1920، محدثة ضجة كبرى فى العالم العربى حتى أصبح صوتها ندًا للمشايخ الكبار، وذاع صيتها فى الخارج لدرجة أن أحد أثرياء تونس عرض عليها إحياء ليالى رمضان بصوتها فى قصره بصفاقس بأجر 1000 جنيه عام 1925، لكنها رفضت لكونها كفيفة ولا تستطيع السفر حدها، فما كان منه إلا الحضور إلى القاهرة لسماع ترتيلها طوال الشهر الكريم. ومع بدء أثير الإذاعة المصرية، عام 1934، كانت «منيرة» فى طليعة، الذين رتلوا القرآن بأجر قدره 5 جنيهات، فى وقت كان الشيخ محمد رفعت يتقاضى خلاله 10 جنيهات، لكنها توقفت مع فتوى "العورة".