جاء الإعلان عن عدد شهر أبريل من مجلة "ناشونال جيوغرافيك" مثيرا للغاية، فبينما لم يصل العدد بعد إلى شبكات التوزيع عبر العالم، جاء بيان الإعلان عنه بمثابة اعتراف متأخر؛ فقد قالت المجلة الأمريكية إن تغطيتها السابقة للشعوب حول العالم كانت عنصرية، وكشفت سوزان جولدبرج، رئيسة التحرير، أن المجلة "تجاهلت الأمريكيين غير البيض، وأظهرت الجماعات العرقية الأخرى على أنها بربرية أو غريبة"، و"روجت كل أنواع الصور النمطية". وخصصت المجلة؛ التى نشر أول عدد لها عام 1888،عددها لشهر إبريل ل "الأعراق"، وطلبت من مؤرخ بحث أعدادها السابقة. وبالفعل درس إدوين ماسون، الأستاذ المساعد في جامعة فرجينيا، أعداد المجلة السابقة، وخلص إلى إن "ناشونال جيوغرافيك" لم تفعل شيئا سوى دعم الرؤية العنصرية في مجلة ذات "نفوذ واسع"، وأنه حتى السبعينيات تجاهلت المجلة الأمريكيين غير البيض، ولم تظهرهم إلا كعمال أو خدم في المنازل، وأشار أيضا لصور للسكان الأصليين للولايات المتحدة في تعاملهم مع التكنولوجيا الغربية، خالقة مقارنة بين "نحن وهم" وبين "المتحضر والهمجي". وقارن، ماسون، مقالا عن جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري نشر عام 1962 ومقالا آخر عن الموضوع ذاته عام 1977، ويظهر المقال الثاني معارضة الزعماء السود للنظام، معلقا: "لم يكن مقالا يتسم بالكمال ولكنه أقر بوجود اضطهاد". وأراد ماسون أن يكون موضوعيا فاقر أيضا بمجهودات المجلة حتى في خلال هذه الفترة بتعريف قرائها بالعالم، وقال: "يمكننا القول إن المجلة فتحت عيون الكثيرين وفي نفس الوقت أغمضتها". وكانت المجلة قد قررت دراسة تغطيتها السابقة بمناسبة الذكرى الخمسين على مقتل مارتن لوثر كينغ، الذي كان من أبرز زعماء حركة الحقوق المدنية في الولاياتالمتحدة. واعترفت، جولدبرج، في مقال بعنوان "على مدى عقود، كانت تغطيتنا عنصرية"، إن بعض المواد في أرشيف المجلة تركتها "ذاهلة"، ومن بينها صورة عام 1916 لأحد السكان الأصليين لاستراليا تحمل تعليقا يقول "سود من جنوباستراليا: هؤلاء المتوحشون من أقل البشر ذكاء". في تاريخ المجلة الذى اتم ال 130 عاما هناك سقطات صحفية عديدة أثارت جدلا، لكن هذا الاعتراف الأخير غير مسبوق فى اتساعه، ففى عدد فبراير عام 1982 عدلت المجلة صورة لأهرامات الجيزة، مما أدي لأول فضيحة لتعديل الصور في العالم، فى البداية أشتكى المصور جوردون جاهان مما حدث للصورة التى إلتقطها للأهرامات بحيث يبدو الهرمان الأكبر (خوفو) والأوسط (خفرع) قريبين إلى حد التلاصق، لكن رئاسة تحرير لم تلتفت للشكوى، وحين ظهر الموضوع للعلن ظل محورا للنقاش فى الصحف دون أن ترد المجلة، فقط بعدها بنحو عامين دافع محررا الموضوع عن التعديل الذى جرى للصورة، واعتبراه "لا يعد تزييفًا وإنما مجرد إنشاء وجهة نظر جديدة"، لكن النقاش زادت حدته فاضطرت المجلة إلى إجراء تغييرات فى المناصب القيادية وأقرت بالخطأ، وقال توم كينيدي، الذي أصبح مدير التصوير في المجلة بعد الحادث: "لم نعد نستخدم هذه التكنولوجيا للتلاعب بالعناصر في صورة ما لتحقيق تأثير"تعبيرى" أكثر جاذبية. لقد اعتبرنا ذلك خطأً، ولن نكرر هذا الخطأ" الاعتراف الأخير للمجلة بمثابة نداء استغاثة؛ فالمجلة المطبوعة تزداد تراجعا، فبينما كانت توزع فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى نحو 12 مليون نسخة بعدد من اللغات بالإضافة إلى الإنجليزية عبر العالم، لم تعد توزع إلا نحو نصف هذا العدد الآن، وبينما كانت المادة المكتوبة من مقالات وتحقيقات تمثل الجزء الأعظم من محتوى المجلة باتت الصور تحتل هذه المكانة وتراجعت الكلمات فى المكانة والمساحة والتأثير. فى تعريفها لنفسها تقدم مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" صورة مثالية عن البداية: الزمان: 13 يناير 1888، المكان: واشنطن العاصمة، الحدث: اجتماع 33 شخصاً يجمعهم طموح جامح لخدمة الشأن العام، من أجل مناقشة "إمكانية تأسيس جمعية تهدف لتوسيع آفاق المعرفة الجغرافية ونشرها عبر العالم"، كان هؤلاء أصحاب تخصصات مختلفة، من جغرافيين ومستكشفين ومحامين وضباط عسكريين وعلماء أرصاد جوية ورسامي خرائط وعلماء طبيعة ومصرفيين ومدرسين وعلماء أحياء ومهندسين ومخترعين. كان قائد هذه النخبة محاميا يدعى "غاردينر غريني هابرد"، الذي سرعان ما انُتخب رئيساً لهذه الجمعية التي اختير لها من الأسماء "الجمعية الجغرافية الوطنية". وهكذا أصبح مبدأه الأساسي من وراء تأسيس الجمعية، والمتمثل في نشر المعرفة الجغرافية وترسيخ مفهومها الشامل لدى الجمهور، حجر الأساس والمسار الذي سيرسم سياسات هذه الجمعية ويحدد إستراتيجيتها طيلة قرن من الزمن. كلمة "الوطنية" التى تصف الجمعية أضحت بمرور الوقت تشمل الكوكب بأسره، لكن البداية كانت تسير ببطء ولكن بتصميم هائل، ويبدو أن صعود المجلة ترافق مع صعود امريكا على مسرح السياسة الدولية، فى البداية أقتصر توزيع العدد الأول- أكتوبر 1888- على الأعضاء المنتمين للجمعية، وبحلول يناير 1896 أصبحت المجلة تصدر بصفة شهرية بعد أن كان صدورها غير منتظم، إذ أقدم مجلس الإدارة على تحديد سعر النسخة الواحدة في الأكشاك ب"25" سنتا أميركياً. وكما يحدث فى كل المشاريع الطموحة تبدو الأحداث المأساوية الطارئة تحديا يتضمن فرصة، فبعد وفاة هابرد عام 1897، تولى جراهام بيل رئاسة الجمعية في يناير 1898. وبيل هذا ليس سوى ألكسندر جراهام بيل (1847- 1922)، العالم المشهور والمهندس والمخترع والمبتكر السكوتلاندي المولد، الأمريكى الجنسية والإقامة، الذى ينسب إليه العديد من الاختراعات التى ساهمت فى تغيير نمط الحياة الإنسانية، أمضى بيل خمس سنوات فى رئاسة الجمعية كرس فيها كامل طاقته وإبداعاته الفكرية للنهوض بالمجلة، فعين شاباً واعداً في الثالثة والعشرين، اسمه جيلبرت إتش. غروسفينور، لتطوير المجلة وتشجيع الناس على الانخراط في عضويتها، وأثمر ذلك عن تحول المجلة من مجرد دورية تنشر حقائق جغرافية بحتة إلى مجلة مفعمة بالعلوم والحقائق حول العالم، فضلًا عن أنها أصبحت تشكل إضافة نوعية للصحافة الأميركية وحجزت لنفسها موقعاً مميزاً في عالم النشر. فى سجل الجمعية والمجلة ما تفتخر به حقا، فلقد عملت الجمعية منذ نشأتها على تمويل أكثر من 10 آلاف رحلة استكشافية ومشروع بحث. وكان لها أثر كبير في اكتشاف وسبر أغوار الأصقاع النائية والمتوارية عن الأنظار، من خلال مجلتها التي ما فتئت تنجز تحقيقات مذهلة تحوي بين طياتها صورا نادرة أضحت أيقونات ذائعة الصيت بفضل كوكبة متوهجة من المستكشفين والمحررين والرسامين وغيرهم، كرسوا جانبا من حياتهم لخدمة المعرفة الجغرافية ونشرها عبر العالم. تصدر المجلة بعدة لغات، وفى أكتوبر 2010 بدأت المجلة فى إصدار نسختها العربية من أبوظبى.