زحام شديد داخل الممر وابتسامات وبهجة تسكن وجوه الجميع وألوان صاخبة تغطي كل جدران المحطة التي لا تبتعد كثيرًا عن ميدان التحرير بوسط القاهرة، تشبه في تكوينها صورة الفضاء وتظللها أشعة الشمس المتناثرة في كل مكان والتي تضيء أشعتها ذلك الممر الضيق ويدور بداخلها 12 كوكبا ونجما مصريا لفنانين كبار خلدوا أسماءهم في قلوب الجميع لتحفر لهم على الجدران «بورتريه» فني يتحدث باسم مصر وقوتها الناعمة أمام جميع المارة والركاب الصغار والكبار الذين احتشدوا في الممر وحرصوا على التقاط الصور التذكارية و«السيلفي» مع تلك اللوحات الفنية التي تبدو كأنها مرسومة في السماء ولم تحمل توقيعًا أو اسمًا ولم تحفر على الجداريات أي كلمات لتعبر عن مضمونها، ولكن كما يقولون فإن المعنى في بطن الصور والألوان الصارخة تتحدث عن نفسها وتغني عن ألف كلمة. هنا ممر محطة مترو الأوبرا الواقعة في محيط دار الأوبرا المصرية أو المركز الثقافي القومي التي تقع ضمن الخط الثاني لمترو أنفاق القاهرة (افتتحت الدار في عام 1988 وتم تشييد المبنى الجديد للأوبرا كمنحة من الحكومة اليابانية لنظيرتها المصرية بأرض الجزيرة وقد بنيت على الطراز الإسلامي)، الممر يبدو ضيقًا يبدأ بسلالم المترو وبوابة إلكترونية في المقدمة يعسكر عليها ضابط وفرد أمن يحيط بها شريط أصفر طويل يرسم خارطة الطريق أمام جموع المواطنين للدخول أولًا قيد التفتيش وترك حقائبهم على الجهاز والمرور عبر البوابات وفي نهاية الممر سلم آخر يؤدي إلى شباك التذاكر وبينهما كانت لافتة «تيجي نلونها». «مبدعون» في المترو داخل محطة المترو التقينا أعضاء المشروع الفني الجديد الذي يضم فريقا شبابيا يمتلئ بالحلم بدأ بفكرة تحولت إلى مبادرة تحمل اسم «تيجي نلونها» تُرجِمت إلى لوحة فنية فريدة تم تنفيذها في غضون ثلاثة أسابيع ضمن مشروع لتجميل وتلوين شوارع وميادين القاهرة وهم عبارة عن مجموعة فنانين أعمارهم متقاربة تتراوح ما بين العشرين والثلاثين عامًا من خريجي الجامعات المصرية من كليات مختلفة (الألسن والفنون الجميلة، التربية الفنية، الآداب، التربية النوعية) تجمعهم الموهبة وحب الفن والرسم، ويُخلِصون لما يحبون ولا يتقاضون مقابلًا على أعمالهم رغم حاجتهم إلى ذلك فعدد كبير منهم لا يزال يدرس في الجامعة، يضمهم كيان واحد يحمل اسم «مبدعون» وهي جمعية أهلية مشهرة في دفاتر وزارة التضامن والشئون الاجتماعية منذ ديسمبر عام 2016 برقم 6061، رغم أنهم يعملون بالجهود الذاتية ويتحركون في الشارع منذ عام 2014. في الجوار كانت تتحدث زينب محمد مصطفى، خريجة كلية تجارة القاهرة تولت رئاسة مجلس إدارة الجمعية منذ نشأتها مع 3 أعضاء آخرين مؤسسين للجمعية التي تعد كيانا ثقافيا متكاملا يضم الشعر والأدب والمسرح الصغير للأطفال والفن التشكيلي والحفلات الموسيقية ويعزف الجميع على أوتار الموهبة وبداية أنشطتهم كانت في مكتبة مصر العامة عبر إقامة أول معرض فني لهم تلته فقرة مسرحية ثم كان الاحتكاك الأول بالشارع المصري في أغسطس 2016 وتحديدًا في ميدان المحكمة بحي مصر الجديدة. تحكي زينب محمد تفاصيل ذلك اليوم، بمجرد عرض فكرة الجداريات على رئيس حي مصر الجديدة سرعان ما جاءتهم الموافقة مع وعود بتوفير الخامات والزيوت والمواد المطلوبة، وقال لهم حرفيا: «انزلوا»، ومن أمام جمعية الصم والبكم، حيث كانت الجدران مليئة بالعبارات غير المفهومة والكلمات البذيئة التي تحرض على رموز النظام السياسي الحاكم وتم إزالة كل «الشخبطة». وخلال فترة زمنية قصيرة لم تزد على 20 يومًا انتهى فريقهم من إقامة أول جدارية هناك وتحتوي على مناظر طبيعية ولوحات فنية لمبان أثرية تتوافق مع طبيعة المكان، فهناك ترى لوحة فنية مرسومة لقصر البارون وجدارية أخرى لأهرامات الجيزة وبورتريهات جانبية للمرأة المصرية ذات الملامح الخمرية يجاورها نهر النيل الذي يشق أراضي الريف المصري يحيط بهم تركيبات هندسية متناسقة في إطارات محددة ومزج فريد بين الألوان التي تريح العين وتجذب المارة. لدواع أمنية من شوارع مصر الجديدة إلى منطقة وسط القاهرة انتقلت خريطة العمل الجديدة لفريق «مبدعون» داخل محطة مترو أنفاق الأوبرا، وهناك كان الوضع مختلف كليًا عن التلوين في الشارع فهاجس الخوف يسيطر على عقول بعض المسئولين التنفيذيين بالحي من باب الرقيب الذاتي، فرغم ترحيب إدارة المترو الشديد بالفكرة فإن الموافقة على جدارية الأوبرا استغرقت مدة زمنية طويلة اقتربت من 9 أشهر وتنفيذها كان متوقفا على الموافقات الأمنية، حسبما أكدت شيماء صلاح، عضوة مؤسسة في جمعية «مبدعون» التي قالت انهم تقدموا للجهات الأمنية بطلب للموافقة على مشروعهم الفني وتركوهم ما يقرب من العام، حتى بدأ اليأس يتسرب إلى نفوسهم، ولكن لا يزال عندهم أمل في حلم اختمر في عقولهم لسنوات طويلة إلى أن جاءت الموافقة الأمنية وتأشيرة العمل في يناير الماضي، وبدأوا تنفيذ فكرتهم لتجميل أحياء مصر وباقي محطات المترو. لم تكن فكرة الجداريات أو الجرافيتي أو ما يطلقون عليه اسم "فن الشارع" وليدة اليوم، بل سبق أن تم تنفيذها في شوارع محمد محمود وعلى سور المتحف المصري والجامعة الأمريكية أثناء ثورة 25 يناير 2011 وما تلاها من موجات متلاحقة في أحداث محمد محمود الأولى والثانية ومجلس الوزراء وماسبيرو، وصولًا إلى أحداث 30 يونيو وإسقاط حكم الإخوان، حيث كانت تقول الجدران كلاما لا يقدر أحد على نطقه أو البوح به من تصميم وإبداعات شباب الثورة. وهو من أهم الفنون الجمالية التي تمتاز بقربها الشديد للجمهور حتى لُقبت ب«فن الشارع» حيث لا يحتاج رجل الشارع إلى قطع تذاكر لزيارة المعارض الفنية أو مشاهدة جدارية أو لوحة فنية معروضة لأنه يراها ذهابًا وإيابًا بالشوارع والميادين العامة ومحطات المترو وعلى واجهات المتاحف والفنادق والمباني دون مقابل أو سداد أي رسوم باهظة. احترس منطقة عمل فريق عمل شبابي متطوع كانوا يتجمعون بصورة يومية داخل الممر الداخلي للمحطة الذي كان المدخل الوحيد لركاب المترو بعد أن فتحوا لهم ممرا آخر بديلًا وأغلقوا كل الطرق المؤدية إلى الممر القديم عبر لاصق أصفر طويل يحمل ثلاث عبارات «احترس منطقة عمل» مُعلق على جانبيه لافتتان تحملان اسم الجمعية، تجاور عبارة «مترو القاهرة» وكانت فكرة «جدارية الأوبرا» قائمة على الجلاكسي أو ما يعرف بالتكوينات الفضائية التي تميل إلى اللون الأزرق الغامق بما يختلف عن جدارية مصر الجديدة ذات الألوان الفاتحة. ففي الجوار تقع دار الأوبرا المصرية التي تضم عصارة قوة مصر الناعمة من الفنانين والأدباء والشعراء والموسيقيين، ولكن الإشكالية هنا كانت في كيفية إضافتهم داخل التكوين الفضائي، هنا تطورت الفكرة من قبل أعضاء الفريق لوضع بورتريهات داخل تلك الخلفية الفضائية التي تميل إلى الزرقة لعناصر ثقافية وفنية وأدبية مصرية تنتمي إلى نفس المكان على هيئة مجموعة من الكواكب المنظورة المتناغمة بشكل دائري وهي حالة رمزية أقرب ما تكون إلى طبيعة المكان، فالمكان هو ما يطلب الفكرة وليس العكس حسب الفنان التشكيلي الشاب صالح العنبري، خريج كلية التربية الفنية بجامعة الأزهر دفعة 2012، المشرف على مشروع الإخراج الفني وصاحب فكرة وضع البورتريهات في قوالب الكواكب لتكتمل المجموعة الشمسية بنجوم مصر. معارض مفتوحة بعبارات ممرورة ذكر العنبري أنهم على مدار العامين الماضيين لم يتقاضوا جنيها واحدا على أفكارهم المتحررة التي خرجت عن الشكل التقليدي المتبع للمعارض الفنية التي لم تعد مقبولة اليوم ولا تشهد تفاعلا كبيرا بينها وبين الجمهور وتتضمن شريحة معينة بخلاف فن الشارع والجداريات ومن قبلها الجرافيتي ونشر اللوحات الفنية عبر معارض مكشوفة للجميع كما هو سائد في معظم الشوارع والميادين الأوروبية وبدأ تمصير الفكرة من محطة الأوبرا وسوف تستمر في باقي ال25 محطة الأخرى خلال العام الجاري. إشكالية التقليد لأفكار أوروبية تحفظ عليها العنبري بقوله إن كل فكرة قابلة للتنفيذ في أي مكان بشرط أقلمتها مع عادات ذلك المجتمع وتنفيذ الفكرة، وفن الشارع يكسر كل التابوهات التقليدية القديمة. كسر ثقافة الخوف «أكتر حاجة كانت بتضايقنا في الشارع أول ما بدأنا كان سؤال الناس لينا واحنا شغالين إنتم تبع مين والمسئولين يقولوا لنا عاوزين تصريح رسمي».. تقول شيماء صلاح، عضوة مؤسسة في جمعية «مبدعون» التي تحدثت عن الصعوبات العديدة التي واجهت فريق العمل أثناء تنفيذ مشروعهم الفني، بداية من الثقافة الشعبية ف«في الخارج تتنوع أفكار الجداريات والبورتريهات على الجدران بين الفانتازيا والألوان الجريئة والجداريات التي تكسر حدة الملل، ولكن في ثقافة مجتمعاتنا العربية لسه بنخاف من الأفكار الجريئة ومش عاوزين نخرج برّة القمقم والروتين اليومي التقليدي الذي يقتل كل بذور الإبداع ويغتال ملكات الخيال بداخلنا». حاملة علب الألوان وبعضًا من الرسومات التي بدأتها كانت شيماء صاحبة بورتريه الفنان الكوميدي نجيب الريحاني في محطة الأوبرا والتي درست التاريخ في كلية الآداب وتسكنها موهبة الرسم وانتظرت الفرصة المناسبة لإطلاقها وإخراجها من صندوق العادي لتجميل أشياء كثيرة في المجتمع أصابها العطب والتلف، تمزج الألوان مع بعضها بكل حواسها ثم تحررها وتصبها على أحد الجُدُر المسكونة ب«الشخبطة» والعبارات التحريضية والجمل غير المفهومة التي تخدش المنظر الجمالي العام وعبر لوحة فنية تشع بالبهجة للريحاني لم تستغرق منها سوى أيام كان الرسم لديها أشبه بالجنون في حضرة العشوائية والفوضى والتشوهات البصرية التي أصابت الجميع. نقطة الانطلاق للفتاة العشرينية المليئة بالأحلام كانت حين اقترحت عليها زينب محمد رئيس الجمعية فكرة الرسم على الجدران وعمل «جداريات» وتبني مبادرة لتلوين محطات المترو فبدأت في الرسم بهدف إحياء قيمة الرموز المصرية بين أبناء المجتمع والوافدين للتأكيد على قيمتهم ومكانتهم رغم الغياب وفي أقل من 21 يومًا نقلوا فكرتهم إلى الجميع، بعد أن تشاركوا معًا حب الرسم والفن ونثروا ألوانهم على جدران المترو وفي بعض شوارع المدينة كي تبوح بالأمل وتنشر الطاقة الإيجابية بين المواطنين المطحونين كل يوم. من حين لآخر تصطدم شيماء ورفاقها بالدعم المادي الغائب في ظل ما يبذلونه من أعمال تطوعية ومعارض فنية في قصور الثقافة بدون مقابل أو مجرد دعم معنوي، فضلًا عن التسهيلات الحكومية الأخرى المتمثلة في الإجراءات الإدارية والروتين الذي ما زال يعشش في مكاتب الحكومة. أنشطة الجمعية متوقفة واختتمت الفتاة العشرينية حديثها بأن أنشطة الجمعية متوقفة حتى الآن لغياب الدعم المادي، ولن نتمكن من استكمال وتنفيذ أفكارنا طول الوقت بالجهود الذاتية. «ارسم ولون ضحكة في بورتريه».. شعار رفعته يارا، عضوة الفريق التي لخصت مشروعهم في عبارة موجزة: «يمكن من وجهة نظرك دي حاجة بسيطة بس كفاية إنها هتغير في نفسية كل واحد هيشوفها أنه شاف حاجة حلوة وجميلة».