مع وقوع كل حادث إرهابي ينتابني مزيج جارف من مشاعر الحزن والألم والغضب، ولكن الأمر إختلف تماما مع حادث كنيسة مارمينا الذي وقع بحلوان يوم الجمعة الماضي، حيث طغى الذهول والعجب على كل المشاعر الإنسانية الأخرى. نفذ العملية إثنان من الإرهابيين تبادلا إطلاق النيران مع أفراد خدمة تأمين الكنيسة فاستشهد إثنان من أفراد الخدمة وأصيب ثالثا وقُتل أحد الإرهابيين. شاهدت في ذهول أكثر من فيديو، قام بتصويرهم بكاميرا التليفون المحمول مواطنون كانوا شاهدي عيان على العملية الإرهابية التي خرجت عن المعتاد وكسرت المُتوقع وحطمت كل البديهيات. لا وجود ظاهر للشرطة بعد وقوع العملية وتبادل إطلاق النيران، فالمواطنون المدنيون هم من تعقب الإرهابي بعد إطلاقه الرصاص على حرس الكنيسة، حيث إستحوذ أحدهم على سلاح أمن الكنيسة الذي قُتل برصاص الإرهاب، وأخذ المواطن يطلق النار من سلاح الأمن بإتجاه الإرهابي الذي لم يلذ بالفرار ولم يحاول أن يبرح مسرح جريمته كما هو متوقع ومعتاد في أي جريمة، بل أخذ يتجول في الشارع ذهابا وإيابا في أمان وإسترخاء شاهرا سلاحه وهو يمضغ علكة (لبانة)، ويقوم بإطلاق الرصاص بطريقة عشوائية بين الحين والآخر وكأنه، وفقا لتحليل أحد المواطنين الذين تصدوا له أثناء إستضافته ببرنامج تليفزيوني لتكريمه، كأنه كان ينتظر رجال الشرطة أن يأتوا لإستهدافهم أيضا ولكنهم لم يأتوا، فتصدى له المواطنون والمارة المدنيون بأنفسهم وعند إصابته في ساقه برصاص أحد رجال الشرطة الذي "تصادف" مروره في طريق عودته لمنزله، جلس على الأرض، فإنقض عليه المواطن صلاح الموجي مباغتا من الخلف في مشهد بطولي ليستولي على سلاحه، ويسارع العشرات من المواطنين والمارة في الإنقضاض على الإرهابي يكيلون له الضرب وهو مدجج بالسلاح ويحمل قنبلة وحزاما ناسفا قد ينفجرا في أية لحظة! ثم يُنقل الإرهابي- وفقا لراوية نفس المواطن- إلى قسم الشرطة بصحبته هو ومواطن آخر من المدنيين قاما بنقله وسحبه من وسط الجماهير لكي يأخدوه حيا في سيارة بوكس للشرطة مع سائق البوكس وأمين الشرطة الذي ركب البوكس ونسي أن معه القنبلة التي كانت بحوزة الإرهابي وأخذ يلوح بها مهللا: "إحنا رجالة أوي"!! مشهد في منتهى العجب والعبث يكسر كل القواعد الأمنية ويعرض عددا أكبر بكثير مما حصدته يد الإرهاب الغادرة للموت. أيادي غير مدربة لجأت في غياب الشرطة إلى حمل السلاح وإطلاق النار والقيام بدورهى غير مؤهلة للقيام به. لولا العناية الإلهية في هذا المشهد العبثي لكانت الخسائر في الأرواح أكثر بكثير مما خطط له الإرهابيون أنفسهم. ويتضح أيضا من خلال لقاءات تليفزيونية مع المواطنين الأبطال الذين قاموا بدور الأمن، إنهم قاموا أيضا بدور هيئة الإسعاف وقاموا بنقل الموتى والجرحى إلى المستشفيات في سياراتهم الخاصة ثم عادوا إلى موقع الحادث للتصدي للإرهابي الذي كان مازال متجولا هناك مدججا بالسلاح! أين كانت قوات الشرطة طوال هذه الفترة التي تلت الهجوم على الكنيسة؟ لماذا لم تقم مدرعة الشرطة التي كانت تحرس الكنيسة بملاحقة الإرهابي؟ ولماذا لم تأتي سيارات النجدة والإسعاف مباشرة بعد تبادل إطلاق الرصاص؟ كم من الأرواح كان يمكن إنقاذها إذا توافرت عمليات الإنقاذ في حينها؟ لماذا ترك الإرهابي كل هذه الفترة يتجول في الشارع بحزام ناسف وقنبلة؟ يعلم الله وحده أسباب عدم استخدامه لهما، ومن لطف الله وكرمه إنه لم يفعل ذلك. لماذا تتمكن أجهزة الأمن من القيام بدورها على أكمل وجه بإحترافية عالية في منع العمليات الإرهابية عند مرور التشريفات والزيارات الرسمية وإنعقاد المؤتمرات والتصدي للمظاهرات السلمية، وتتراخى في الظروف والمناسبات الأخرى فتزهق أرواح الابرياء؟ وبالرغم من كل ذلك نفاجأ بأن آلة الدولة الإعلامية تهلل لقيام المواطنين بدور الأجهزة الأمنية في التصدي لهذا الحادث الإرهابي، ودورهم الإعلامي في تغطتية أحداثه بفيديوهات مصورة التقطتها عدسات تليفوناتهم المحمولة، وقيامهم ايضا بدور هيئة الإسعاف في نقل الموتى والجرحى، وتحتفي بكل هذا التقصير الرسمي والأمني، فتشكر الشرطة التي لم تتواجد على إحباطها للعملية الإرهابية، وعنوانين الصحف تعلن عن إحباط العملية الإرهابية التي لم تُحبط من الأساس حيث إنها أسفرت عن عشرة قتلى وخمسة جرحى، فيما يبدو إنه مقياس جديد لفشل العمليات الإرهابية بحد ادنى ١٠ شهداء!! والكنيسة تشكر الأمن على إحباط العملية التى لم تُحبط، والإعلام يهلل لتصدى الجماهير للإرهاب بنفسها وأخذ حقها بأيديها، وخبير إستراتيجي يعلن إن الإرهاب انتهى أمره بتصدي الشعب ومحاربته له بنفسه دون تدخل من الأمن، وخبيرأمنى آخر يبرر إنصراف مدرعة الشرطة التى كانت تحرس الكنيسة من موقع الحادث بإنها غير مهيئة للتصدي للعمليات الإرهابية وبإنها مجهزة لفض التجمهر فقط!! صورة عشوائية صادمة تعكس تطور نوعي في العمليات الإرهابية، وتغير جذري مخيف في آليات التصدي لها. تطور في العمليات الإرهابية التي أصبح واضحا جليا أن وجود قوات تأمين الكنائس بحراسها ومدرعاتها لا تكفي لإرهاب الإرهابيين وردعهم، بل على العكس أصبحت فيما يبدو عامل جذب لتلك العمليات التي تستهدف رجال الأمن والأقباط معا. كما إن التطور الجديد في تعامل المدنيين مع العمليات الإرهابية ومنفذيها بأنفسهم هو أخطر ما أستوقفني وهالني في مشهد حادث كنيسة مارمينا، بدءا بحمل المدنيين للسلاح ثم إضطلاعهم بدور المسعف للضحايا وإنتهاءا بتدخلهم للقبض على الإرهابي وتدافعهم لضربه بعد سقوطه، في مشهد إن دل على شئ فهو يدل على غياب دور الدولة وعجزها عن القيام به مما دفع المواطنون لأخذ الأمر في أيديهم والمبادرة بالتصدي للإرهابي وعقابه بأنفسهم. والمأساة الأكبر والأدهى هى قيام إعلام الدولة بالتهليل لذلك والإشادة به! إحتفاء الإعلام وفرحته بمشهد إنقضاض عم صلاح الموجي على الإرهابي وتدافع عشرات الأهالي حوله في غياب الأمن ورجال الشرطة يدعو على العكس إلى الخوف والقلق الشديد. فحين تغيب أجهزة الدولة وتعجزعن القيام بدورها يفقد المواطنون ثقتهم فيها ويأتي رد فعلهم العفوي بأخذ الأمر في أيديهم لدرء الخطر عنهم ومعاقبة المجرمين بأنفسهم. وهو ما ظهر وأستوقفني أيضا في مطالبة المواطن صلاح الموجي، من خلال البرامج التليفزيونية التي احتفت به، بالسماح له بحيازة سلاح لكي يتمكن من حماية نفسه، مما يعكس عدم ثقته في قدرة أجهزة الأمن على حمايته بالرغم من هذا الإحتفاء الكبير به، وتعاظم ثقته بنفسه، بعد قيامه بهذا العمل البطولي، في قدرته على حماية نفسه وغيره من الإرهاب في دلالة مزعجة على رغبة المواطن العادي في القيام بدور موازي لدور الأمن. حدث ذلك من قبل في عدة محافظات على مدار السنوات الماضية حين قام الأهالي بتنصيب أنفسهم كرجال للأمن والنيابة والقضاء وقوات تنفيذ الأحكام حين قاموا بتنفيذ عقوبات وحشية بطريقة غوغائية ودموية مع متهمين تم ضبطهم أو الإشتباه بقيامهم بجرائم، فقاموا بأنفسهم بإصدار أحكاما عليهم بالضرب أو التعذيب أو حتى القتل في مشاهد عنف جماعي دموي في غياب تام للأمن والقانون والعدالة فيما يسمى بالقصاص الشعبي والذي يتم عادة في صورة سادية غوغائية، وهى ظاهرة لها مخاطر كبيرة على المجتمع وعلى سيادة الدولة ومؤسساتها، تحدث حين تفقد الجماهير الثقة في سيادة القانون والأمل في العدالة الناجزة، نتيجة لإحباطات سابقة وتجارب مؤسفة لضياع الحقوق وإفلات المذنبين من العقاب، فتأخذ الجماهير على عاتقهم تطبيق العدالة بأيديهم، ويصبحون هم المجني عليه والجلاد معا، مما ينذر بكوارث تسيّد القوة فوق العدل وغياب سيادة القانون ووهن سلطة الدولة. نفس الأجهزة التى تهلل الآن لقيام الجماهير بأخذ الأمر في أيديها ستندم يوما ما حين تقرر تلك الجماهير أخذ الأمر في أيديها أيضا وتتحرك وفقا لما تراه عند إحساسها بالخطر أو بالغضب في أمور أخرى قد لا تأتي على أهوائهم، غير مبالية بالقانون والدولة ومتغولة على دور أجهزتها ومؤسساتها. أخشى ما أخشاه أن يؤدي ما حدث إلى التعايش مع التقصير الأمني، وبدلا من مراجعة الخطأ ومحاسبة هذا التقصير من جانب الدولة في حماية الكنائس خاصة في توقيت أعياد الميلاد التي أعتدنا حدوث عمليات إرهابية فيها، ويتم التغطية علي ذلك بمباركة وتشجيع تدخل المواطنين المدنيين في هذه الأمور الأمنية الخطيرة مما يترتب عليه عواقب أخطر ومزيد من التراخي والتقصيرمن أجهزة الدولة في القيام بدورها لتفسح الطريق للجماهير لأخذ الأمر في أيديهم على مستويات أخرى كثيرة.