مين اللي ماسك السوق؟ السؤال منطقي في حالة إن اللي ماسك السوق شخص واحد، هو اللي بيحدد البضاعة اللي بتخش والبضاعة اللي بتخرج، وبيراقب اللي رايح واللي جاي، وبيتأكد إن المنتج والبياع مابيسرقوش. إنما في حالة سوق زي سوق العقارات أو سوق العملة، السؤال بيفقد معناه بشكل من الأشكال، لأن السوق مالوش صاحب ولا حد ماسكه في إيده. الفرق بين السوق الأول والسوق الثاني بيبان لما نقرأ الفقيه الأندلسي يحيي بن عمر الكناني، اللي كان بيكتب عن جميع مجالات الفقه في القرن العاشر، وضمن مؤلفاته كاتب عنوانه "أحكام السوق". الكتاب مالوش أهمية غير إنه كان من أوائل المحاولات الممنهجة للتفكير في المعاملات المرتبطة بالسوق. الكتابة بتاخد شكل النصيحة، والكناني (اللي كان بيتبع المذهب المالكي) دايما بيقول للقارئ القواعد اللي لازم السوق يلتزم بها من وجهة نظره وحسب تأويله للقرآن والسنة. قال الكناني إن السوق لازم يحكمه والي أو ناظر أو واحد بيتأكد إن المكاييل والمعايير في السوق موحدة، وإن البضاعة مش مغشوشة، وإن البياعين كلهم بيبيعوا بنفس السعر، لا بسعر أعلى عشان الزبون مايتضحكش عليه، ولا بسعر أقل عشان البياعين التانيين مايتضروش، ولازم الوالي يعاقب الغش والسرقة والاحتكار بنفسه. العقاب بيختلف حسب نوع الخطأ، بس اللي بيغلط لازم يخرج من السوق، والبضاعة المغشوشة أو المسروقة تتوزع على الفقراء، والغلطان لازم يتوب عشان يرجع السوق، وإذا ماتابش يتسجن ويتسحل في الشوارع عشان البياعين التانيين يمشوا دوغري. تفاصيل كلام الكناني مش مهمة قد تخيلاته عن السوق. واضح من كلامه إن السوق مكان محكوم فيه بياعين وزباين، زي سوق الجمعة كده، والوالي بيراقب السوق وبيعاقب اللي بيخالف قواعده بإنه يخرّجه من المكان المحكوم اللي بيحصل فيه التجارة. إذا قارنا التصور ده بطبيعة الأسواق النهارده، هنلاقي إنه ماينطبقش إلا في حالات محدودة، لأن السوق بقى متعمم في كل العلاقات الإنسانية، وكل حاجة بقت قابلة للبيع والشراء، يعني كل حاجة تحولت لسلعة (يعني إيه سلعة؟). في عالم الكناني، ماكانش فيه فكرة التجارة المنتشرة دي، يعني مثلاً ماكانش فيه تجارة في الأراضي ولا استثمار في البورصة، لأن الأرض والفلوس ماكانوش سلع بالمنطق الحديث. بالتالي فكرة إن يكون فيه سوق عقارات أو استثمارات ماكانتش متاحة، لأن السلعة كانت بضاعة فقط، ممكن تبقى ناقصة أو مغشوشة أو مسروقة، بس هي موجودة في مكان محكوم ومحطوطة تحت مراقبة ناس بعينها. بما إن السوق مكان محكوم، الناس اللي جوه المكان عندهم ممارسات اجتماعية خاصة، مثلاً حسب كلام الكناني، إن الغشاش ممكن يتوب ويرجع عادي للسوق، أو إن البضاعة اللي ماينفعش تتباع بتتوزع على الفقراء، أو إن البياعين كانوا بيساعدوا بعض (اللي جاي يجوّز بنته بيفضوا له السوق عشان يبيع بضاعته لوحده). الممارسات دي بتختفي في العالم الحديث، لأن التعامل في السوق مابقاش أكثر من تعامل اقتصادي، والبياعين بينافسوا بعض بلا مشاعر، والغشاشين شغّالين بلا خوف، والبضاعة اللي مابتتباعش بتترمي بلا مبالاة. في الآخر، الفرق بين عالم الكناني وعالمنا فرق بين سوق محكوم وسوق متعمم، بين سوق روض الفرج وسوق البورصة. اللي ماسك السوق النهارده مش ممكن يبقى شخص بعينه، هو اللي بيراقب المكاييل والأسعار والبضاعة، لأن السوق بقى في كل حتة، وماينفعش شخص يراقبه ولا يسيطر عليه. لذلك تعاملات الأسواق الحديثة فوضوية ولا يمكن تبقى عادلة. ده مش عشان العدل في إيد الوالي اللي بيمسك السوق وكأنه مكان مقفول، لأن الوالي نفسه مش قادر يعمل حاجة، إنما عشان العدل ممارسة اجتماعية بالطبع مضادة للمنطق الاقتصادي الأعمى. يعني قبل ما نعدل الميزان، لازم نعدل بين بعض.