«رجل هادئ.. صامت إلى حد بعيد.. ويمتلك رباطة جأش وصبرًا وجلدًا لا مثيل لهما»، هكذا يصف عدد من المقربين من رجل الدين التركى الشهير الذى برز اسمه على السطح حاليًّا فتح الله كولن، نظرًا إلى دخوله حاليًّا فى صراع مباشر مع رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان. ويعد كولن، الذى يقيم فى منفى اختيارى بولاية بنسلفانيا الأمريكية، أحد أبرز رجال الدين الأتراك حاليًّا، وتمتلك الحركة التى تحمل اسمه، مؤسسة اجتماعية ثقافية ضخمة لها نفوذ واسع النطاق تضم أكثر من 900 مدرسة داخل تركيا، وأكثر من 2000 مدرسة حول العالم وما يقرب من 100 مدرسة داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية و20 جامعة متميزة، ولها نفوذ واسع داخل أوروبا، وبالأخص فى منطقة القوقاز والبلقان، وفى 160 دولة حول العالم. يُنظر لكولن بأنه على عكس نجم الدين أربكان، الذى يعد أبا الإسلام السياسى فى تركيا، فإن فتح الله كولن هو أبو الإسلام الاجتماعى. بداية دعوية مبكرة ومنفى اختيارى ولد كولن فى 11 نوفمبر عام 1941، فى قرية كوروجك بمحافظة أرضروم شمال هضبة الأناضول، وبدأ نشاطه الدعوى والتربوى فى عدة مدن غرب تركيا بداية ستينيات القرن الماضى، وانتشرت أفكاره وأحلامه لدى كل الطبقات الاجتماعية، وازداد محبوه فى جميع أنحاء العالم. ولكن يبدو أن صعوده الدعوى السريع أثار قلق كثير من أعضاء الحكومة التركية عام 1999، عقب انتقاده علنًا الحكومة، ورغم اعتذاره عنها فإن النائب العام التركى قرر فتح تحقيق معه، ليتدخل الرئيس التركى بولند أجاويد، لحل الأزمة، لكن البعض شكّك فى أهدافه، خصوصًا بعدما ظهر فى فيديو يتحدّث فيه لعدد من أنصاره، إنهم سيتحركون ببطء لتغيير المجتمع والنظام التركى تدريجيًّا من نظام علمانى إلى نظام إسلامى. ووجد كولن أن الحكومة التركية ستقوم بعرقلة جميع أعمال مدارسه وحركته التى نشطت منذ الثمانينيات، فقرر الاختفاء عن الأنظار، والانتقال إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. كولن × أردوغان عقب خروج أردوغان من السجن الذى دخله عام 1998، وجد رئيس الوزراء التركى ضالته فى التحالف مع حركة «كولن» ذات الوجود القوى فى القرى والمجتمعات التركية الدنيا والطبقات الوسطى والأوساط الدينية ورجال الأعمال، وشكّلت الحركة لفترة طويلة «ذراعًا غير رسمية» لحزب العدالة والتنمية «ذراع جماعة الإخوان المسلمين»، واستفاد «إخوان تركيا» من نفوذ كولن فى تقليص سلطات قادة الجيش. ظهرت حركة «كولن» كمنافس قوى أمام التنظيم الدولى للإخوان، وليس مجرد حزب العدالة والتنمية، خصوصًا أن الأولى ترعى مئات المدارس داخل تركيا وخارجها. رغم أن الحركة والجماعة تمتلكان نفس المشروع الاقتصادى، فإن حركة «كولن» تميّزت عن المشروع الإخوانى بالبعد الاجتماعى المنفتح وأظهرت الوجه المعتدل الحقيقى للإسلام لا الوجه «الزائف» الذى تقدّمه جماعة الإخوان. وبمجرد إزاحة «الحركة والجماعة» عدوهما العلمانى المشترك عن طريقيهما، بدأ «إخوان تركيا» فى محاولة إزاحة «كولن» من طريقها، بعدما قررت حكومة أردوغان والبرلمان التركى إقرار قانون يغلق بموجبه عدد كبير من المدارس التابعة للحركة. بعدما باتت حاجة أردوغان إلى الحركة أقل، جاءت لحظة الانهيار حين حاول أنصار حركة «كولن» إسقاط رئيس استخبارات أردوغان، وهو أحد المقربين المخلصين له، فاقتربوا بذلك إلى حد خطير من مس أردوغان ذاته، فرد بدوره أردوغان بإبعاد عديد من أنصار حركة «كولن» من مناصبهم فى الشرطة والقضاء.ولكن يبدو أن قدرة أردوغان ضعيفة على مواجهة «كولن الأخطبوط»، تم العثور على أجهزة تنصت فى مكتب أردوغان، قامت الشرطة بزراعتها، حسب تصريحات لأحد المقربين من رئيس الوزراء، وهو ما أثار غضب أردوغان، خصوصًا أنه أدرك أن الحركة تمتلك «كنزًا» من المعلومات الاستخباراتية، الذى يمكن أن تستغله ضده فى أى وقت. ويرى كثير من المحللين الأتراك أن أسلوب أردوغان الصارخ المتهور لن يتمكن من الصمود أمام «رباطة جأش» كولن وحركته الأخطبوطية. سرطان «كولن» وكان «المنفى الاختيارى» لكولن بمثابة نقطة الانطلاق لحركته، لتعزز من وجودها داخل المجتمع التركى، ولم تكتفِ بالمدارس والجامعات التى أنشأتها، بل توغّلت فى مختلف مؤسسات الدولة، وأبرزها مؤسسة الشرطة. خلق أتباع حركة «كولن» ما ينظر إليه بصورة فعلية «دولة داخل الدولة التركية»، ورسّخوا وجودهم بقوة فى الشرطة والقضاء والجهاز البيروقراطى للدولة، حسب ما قاله «دانى رودريك» الخبير الاقتصادى التركى وأستاذ العلوم الاجتماعية فى معهد الدراسات المتقدمة بمدينة برينستون الأمريكية. وينكر أتباع حركة كولن أنهم يسيطرون على الشرطة التركية، لكن كما قال سفير الولاياتالمتحدة إلى تركيا فى عام 2009، «لم نجد شخصًا واحدًا يشكك فى هذه الحقيقة». ولم تكتفِ حركة كولن بذلك، بل مدّت سطوتها إلى عدد كبير من وسائل الإعلام، أبرزها صحيفة «زمان» التى توزّع أكثر من مليون نسخة يوميًّا. أردوغان والعرش المتهاوى بدأ التوتر يزداد بين الرجلين، بعدما تأكد رئيس الوزراء التركى أن احتجاجات «تقسيم» ازدادت حدتها بصورة كبيرة، عقب مشاركة عدد من أنصار كولن فى الاحتجاجات، وهو ما اعتبرته «العدالة والتنمية» والتنظيم الدولى للإخوان بمثابة «خيانة» من الحركة، ووقوفها لأول مرة إلى جانب المعارضة العلمانية. ثم بدأت دعاوى الفساد التى شنتها الشرطة ودعمها القضاء لعدد من كبار المقربين من أردوغان، ليبدأ الطرفان «الضربات تحت الحزام». وإذا كان أردوغان نجح فى التعامل مع احتجاجات «جيزى»، لكنه الآن يجد نفسه فى مواجهة مع خصم يتمتع بنفس القدر من التنظيم الذى يتميّز به هو وتنظيم الإخوان المسلمين التابع له. وقال دانى رودريك الخبير الاقتصادى التركى، «سلوك أردوغان تغيّر فى الأشهر الأخيرة، لكن إذا كانت تركيا قد تحولت إلى مستنقع درامى كئيب وجمهورية من الحيل القذرة والمؤامرات السريالية، فإن أنصار حركة كولن هم الذين يستحقون القدر الأعظم من اللوم على ذلك». كما أن سياسات أردوغان، التى كانت مساندة للتنظيم الدولى للإخوان بصورة كبيرة، أسهمت فى انطفاء نجمه محليًّا، خصوصًا بعدما انكشفت ازدواجيته فى التعامل مع أزمة «أسطول مرمرة»، وموقفه من سوريا، الذى اتسم بالنبرة الانتقامية من النظام السورى على حساب المصالح التركية، بالإضافة إلى مساندته العمياء لجماعة الإخوان المسلمين فى مصر، مما أدى، حسب خبراء، إلى «انكفاء الدور التركى وعزلتها الإقليمية» عقب انقلاب السعودية ودول الخليج عليها، وبعدها عن طهران لإرضاء الأمريكان. يبدو أن كولن يستعد مقدما ل«خنق» أردوغان وحزبه، بتصاعد الاتهامات بأنه يتبع أساليب وسياسات استبدادية فى حكمه، خصوصًا أن «العدالة والتنمية» تنتظرها استحقاقات انتخابية ودستورية عديدة، حيث تنتظر البلاد الانتخابات البلدية مارس 2014 والبرلمانية فى العام ذاته، ونيّة أردوغان الترشح للرئاسة عام 2015، خصوصًا أنه غير مسموح له بالترشح لرئاسة الوزراء مرة أخرى، كما أنه ينوى إجراء تعديلات دستورية تمنح الرئيس صلاحيات أوسع مما هى عليه. ضربة كولن القوية يبدو أنها ستؤثر بشدة على حظوظ أردوغان وحزبه فى الانتخابات المقبلة، خصوصًا أن شعار حملته الانتخابية «الشفافية ومكافحة الفساد»، وكل أعوان أردوغان متورطون فى قضايا فساد. ولكن إلى ماذا سيؤول هذا الصراع، خصوصًا إذا ما تدخلت أحزاب علمانية قوية، مثل حزب الشعب الجمهورى فى الصراع، وأيدت حركة الداعية المنفى، خصوصًا بعدما أعرب أنجين ألتاى نائب رئيس حزب الشعب الجمهورى، أن حزبه سيقف بقوة أمام رئيس الوزراء التركى ويدفعه للاستقالة فى ما وصفه ب«تصفية الحسابات بين أردوغان وكولن»، مطالبًا بأن تودّع بلاده تلك الحسابات السياسية الضيقة وتهتم بشأن المواطن البسيط.