«أزمة المتنزَّه» ذات دلالات رمزية فى العلاقات الملتبسة فى تركيا بين العسكرى والإسلامى لأنه كان ثكنة عسكرية إذن بعد عامين من الثورات العربية، والترويج الحثيث لتجربة حزب العدالة والتنمية فى تركيا باعتباره «النموذج للديمقراطية الإسلامية» فى المنطقة، يخرج عشرات الآلاف من الأتراك فى أنقرة وأزمير وإسطنبول وبودروم ونحو 25 مدينة أخرى مرددين «معًا ضد الفاشية» و«استقِلْ أردوغان»، فتردّ قوات الشرطة فى تركيا باعتقالات واسعة تعسفية لأكثر من ألف متظاهر، وبإغلاق مترو إسطنبول، وإبطاء الإنترنت والتعتيم الإعلامى على ما يحدث، ونشر آلاف من قوات مكافحة الشغب حول «ميدان تقسيم» التاريخى فى قلب إسطنبول واستخدام خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، ليصاب أكثر من ألف بينهم مئة بحروق وجروح خطيرة، وسبعة فقدوا بصرهم نتيجة إلقاء قنابل الغاز على وجوههم يومى الجمعة والسبت. وأمريكا والاتحاد الأوروبى ومنظمات إنسانية وحقوقية من بينها «الأمنستى» يدينون الاستخدام المفرط للعنف من قبل قوات الأمن التركية ويطالبون باحترام حق الأتراك فى التظاهر والتعبير عن الرأى، فيردّ أردوغان منتقدًا ما وصفه ب«مواعظ الخارج»، داعيا كل حكومة إلى «النظر إلى حالها أولا». ثلاثة أيام تركية كأنها صورة طبق الأصل من مسيرات المصريين إلى التحرير. لكن لماذا يتظاهر عشرات الآلاف من الأتراك احتجاجا على نظام من المفترض أنه «الأفضل» فى المنطقة ديمقراطيًّا واقتصاديًّا؟ الإجابة: لنفس الأسباب التى يتظاهر من أجلها المصريون منذ 2011 حتى الآن: احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحريات الرأى والتعبير، والعدالة الاجتماعية. فما بدأ مظاهرةً محدودةً اعتراضًا على مشروع حكومى لإزالة «متنزَّه غازى» فى إسطنبول، وهو الرئة الخضراء الوحيدة الباقية فى صدر المدينة، لصالح رأس المال الذى يريد توسيع «مساحات التسوق» على حساب «مساحات الحرية»، تحول إلى حركة احتجاجات واسعة كشفت حالة عميقة من السخط والكره المتزايد لحكومة «العدالة والتنمية» الإسلامية. «أزمة المتنزَّه» ذات دلالات رمزية فى العلاقات الملتبسة فى تركيا بين العسكرى والإسلامى والمدنى. فالمتنزَّه كان فى السابق ثكنة عسكرية شُيِّدَت خلال الدولة العثمانية عام 1806، وعندما دُمرت أجزاء كبيرة من الثكنة فى حادثة عام 1909 ظلت ركاما إلى أن دعا مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك المهندس المعمارى الفرنسى هنرى بروست، الذى صمم الدار البيضاء ومراكش وفاس ومكناس والرباط، إلى زيارة إسطنبول عام 1936 لإعادة تخطيط المدينة. ووسط إعادة التخطيط توُفِّى أتاتورك عام 1938 فلم يشاهد المتنزَّه الذى حل محل الثكنة وافتتحه الرئيس الثانى للجمهورية التركية عصمت أنونو عام 1943. المتنزَّه بالنسبة إلى سكان إسطنبول، على الرغم من أن أجزاء اقتطعت من أطرافه ليبنى عليها فندق ضخم، لا يُعتبر فقط حديقة تتنفس منها المدينة التى تعد من بين الأكثر تلوثا فى العالم، بل أيضا مركزا للأنشطة الثفافية والسياسية للفنانين والكتاب والناشطين. من ثَم فإن الصراع على المتنزَّه ليس فى الحقيقة مجرد صراع على حديقة عامة، بل هو صراع على هُوِيَّة المدينة. فأردوغان وسط حالة «نوستاليجيا عسكرية عثمانلية» يريد بناء تلك الثكنة على الطراز العثمانى «احتراما للتاريخ» كما يقول، ولا يفهم لماذا يفضل الأتراك حديقة عامة على ثكنة عسكرية ومركز تسوُّق. لكن محتجين أتراكًا لم يصدقوا أن «الحنين إلى المجد العسكرى العثمانى» وحده وراء الأزمة، تساءلوا عن مركز التسوق والأرباح التى سيحصل عليها أردوغان من «سرقة» الحكومة لمتنزَّه عامّ هو «ملك الشعب» فى أهم موقع فى قلب إسطنبول وتحويله لمحال تجارية فى مدينة مكتظة أصلا بالمحال التجارية. مواطن تركى عبَّر عن فساد الذوق السياسى والأخلاقى للحكومة بقوله: «الشعب التركى لا يهمه مراكز تسوق جديدة، بل يريد حرية واحتراما. ليس احترام المال، فالإسلاميون لا يحترمون إلا المال»، بينما حذر آخرون من أن «تركيا الآن أقرب ما تكون إلى الديكتاتورية من أى وقت مضى منذ نظام الحكم العثمانى». فبخطوات تدريجية لكن حثيثة حول أردوغان تركيا إلى نموذج مماثل للنموذج الروسى فى الحكم، وهو نموذج لا يمكن اعتباره ديمقراطيًّا حتى إذا أجريت فيه الانتخابات بشكل دورى، فمِثل فلاديمير بوتين، جعل أردوغان نظام الحكم فى بلاده مهزلة ديمقراطية وظيفتها فقط إبقاؤه على رأس السلطة لأطول فترة ممكنة. فأردوغان الذى تَولَّى رئاسة الحكومة عام 2003 أعطى الأولوية فى بداية حكمه للنمو الاقتصادى، وخلال عشر سنوات، ومع فتح غير مسبوق للأسواق التركية أمام الاستثمارات الخاصة التركية والأجنبية، أصبح متوسط النمو السنوى فى تركيا نحو 8%، لكن مع أزمة منطقة اليورو انخفض معدل النمو إلى 2.5% عام 2012. ومع ذلك فإن انخفاض النمو بحد ذاته ليس المشكلة، وإنما الطريقة التى توزع بها ثمار ذلك النمو. ففى الحالة التركية، تماما مثل الحالة الأمريكية، تسقط ثمار النمو دون أى عدالة اجتماعية حقيقة، فطبقة رجال الأعمال الأتراك المقربين من حكومة «العدالة والتنمية» حققوا أرباحا طائلة من فتح الأسواق والخصخصة مقارنة بالفوائد المحدودة التى جناها المواطن التركى العادى. ورجال الأعمال من ناحيتهم يردون الجميل لحكومة العدالة والتنمية عبر «تمويل» مشروعها السياسى. وفى إحصاء لمجلة «فوربس» الأمريكية عام 2010، احتلت إسطنبول المركز الرابع فى قائمة المدن التى يوجد بها أكبر عدد من البليونيرات، بعد نيويورك وموسكو ولندن. وكل هؤلاء البليونيرات تربطهم علاقات وثيقة مع حزب العدالة والتنمية. هذا النموذج يتجاوز الاقتصادى إلى السياسى. فتركيا، ومعها أمريكا بالمناسبة، أقرب إلى «البلوتوقراطية» منهم إلى «الديمقراطية»، أى الحكم الذى يقوم على تزاوج رأس المال مع نظام سياسى «يحب» رأس المال، مما يجعل أصوات الناخبين هامشية جدًّا فى التأثير على السياسات. لكن معدلات النمو والاستثمارات أعطت حزب العدالة والتنمية ما يكفى من الشعبية خلال فترتَى حكمه الأولى والثانية كى يحيد النفوذ السياسى للجيش التركى كليا عبر سلسلة محاكمات لقيادات سابقة وسجن عدد منهم تحت شعار «حماية الديمقراطية»، بينما الهدف الحقيقى بناء أسس نظام استبدادى دون تخوُّف من رد فعل من الجيش. فكانت النتيجة أن كثيرين من الأتراك الذين عارضوا الجيش «لأنه كان يحمى العلمانية لا الديمقراطية»، يعارضون اليوم حكومة العدالة والتنمية «لأنها لا تحمى العلمانية ولا تحمى الديمقراطية». فحكومة العدالة والتنمية عملت طوال 11 عاما على إخلاء الساحة السياسية من أعدائها ومنتقديها وتحويل تركيا إلى دولة الحزب الواحد فعليا، وهذا أسوأ من كل ممارسات الجيش الذى حافظ على مسافة واحدة بين الأحزاب ولم ينخرط فى المشاحنات السياسية ما لم تهدد أسس الكمالية. وبعد معركة إقصاء الجيش، ضيق أردوغان حريات الرأى والتعبير، حتى باتت أغلب الصحف والمحطات التلفزيونية النافذة فى تركيا اليوم يملكها رجال أعمال تربطهم علاقات تجارية مع حكومة حزب العدالة والتنمية ويتمتعون بمزايا خاصة. كما اعتقل عشرات الصحفيين حتى وصفت منظمة «صحافيون بلا حدود» و«لجنة الدفاع عن الصحفيين» تركيا ب«أكبر سجن للصحفيين فى العالم» إذ يقدر عدد الصحفيين المسجونين بأكثر من 100 صحفى. وفى «مؤشر حرية الصحافة» السنوى لمنظمة «صحافيون بلا حدود» احتلت تركيا المكانة 154 من أصل 179 دولة فى ما يتعلق بإهدارها حرية الصحافة، وهى مكانة متدنية إلى درجة أن العراق وأفغانستان وزيمبابوى احتلوا مكانة أعلى من تركيا. والواقع أن أردوغان لم يُخفِ مشاعره حيال الصحفيين والكتاب المعارضين له ووصفهم بأنهم «كلاب» حرَّرَهم من وصاية العسكر، وعليهم «ألا ينكروا الجميل». أما الصحفيون المعتقَلون فإن تعدد أطيافهم دليل بحد ذاته، فهناك صحفيون مدافعون عن العلمانية وتربطهم علاقات جيدة بالجيش، وهناك صحفيون يعملون فى صحف أو مجلات كردية يدافعون عن قضايا الأكراد، وهناك صحفيون ينتقدون محاولات حكومة أردوغان الهيمنة على القضاء والشرطة. وإذا كان اعتقال صحفيين بتهم جاهزة مثل الإرهاب ليس شيئًا جديدًا فى تركيا، فإن محاكمة صحفيين لمجرد أنهم كتبوا عن اعتقال صحفيين آخرين، شىء جديد تمامًا مثل اعتقال ومحاكمة صحفيين نشروا كتبا تنتقد حكومة أردوغان وتنامى نفوذ حركة فتح الله كولن الإسلامية فى أوساط الشرطة والبيروقراطية التركية (حركة فتح الله كولن تُعتبر العمود الفقرى الاجتماعى للإسلاميين فى تركيا، وتنشر أفكار الإسلام السياسى عبر مئات المدارس والجامعات التى تتبع لها، والصحف والمجلات التى توسعت فيها منذ وصول أردوغان للسلطة والتى تمولها عبر علاقاتها مع ما يسمى «رأس المال الإسلامى» الذى يأتى من أعمالها ومشاريعها التجارية فى تركيا وإفريقيا وآسيا وأمريكا وأوروبا). أما معركة أردوغان مع المؤسسة القضائية فبدأت منذ 2007 مع مساعيه لإقرار دستور جديد وجده العلمانيون تهديدًا للأسس المدنية للدولة. وأمام المواجهة تراجع أردوغان آنذاك عن سعيه لتغيير الدستور، مكتفيًا بإدخال 26 تعديلًا عليه عام 2010. لكنه تمكن بعد التعديلات من إخراج كبار القضاة «العلمانيين» من مناصبهم. ومنذ مطلع ولايته الثالثة، قرر أردوغان أن يصبح الدستور معركته. فهو يريد تغييره كى يحول نظام الحكم فى تركيا من برلمانى (حاليا رئيس الوزراء أعلى منصب تنفيذى، والرئيس منصب شرفى فقط) إلى نظام رئاسى على غرار النموذج الفرنسى (أى رئيس بصلاحيات كاملة)، معتزما الترشح رئيسًا لتركيا. فوفقا للقانون الداخلى لحزب العدالة والتنمية تنتهى ولاية أردوغان الثالثة والأخيرة عام 2015، وليس من حقه دستوريا شغل منصب رئيس الوزراء مجددا. لكن ببراعته المعروفة كمناور سياسى انتهازى، حيد أردوغان معارضة الأحزاب المدنية والليبرالية لتغيير الدستور، بتجنيد الكتلة الكردية فى البرلمان لصالح مشروعه، مقابل إعطاء الأكراد بعض حقوقهم القومية فى مشروع الدستور الجديد. وإذا ما مرر الدستور، فسيمكن أردوغان من العودة رئيسا لتركيا وربما الاحتفال فى الذكرى المئوية الأولى لتأسيس تركيا الحديثة عام 2023. (فترة الرئاسة على النموذج الفرنسى 5 سنوات، وإذا ترشح أردوغان لفترتين فإن هذا يعنى أن ولايته الثانية تنتهى عام 2024 وتكون سنوات حكمه الاجمالية 21 عاما). وسط «ماكينة علاقات عامة» نشطة تم تلميع صورة أردوغان وتقديمه ك«بطل إسلامى للسنة» لمنطقة افتقرت لعقود إلى أى زعامة كاريزمية. وساعد على تلك الكاريزما لزعيم الإسلام السياسى التركى أن الإسلام السياسى العربى بائس الحال، منعدم الزعامات، وفقير الخيال والأخلاق، ومنفر لدرجة تعطى إسلاميى تركيا جاذبية وسمعة طيبة غير جديرين بها. لكن حكومة أردوغان تعانى بشكل متزايد من الشيزوفرنيا، فهى تروج لنفسها فى العالمين العربى والإسلامى باعتبارها نموذجا للإسلام الديمقراطى، وتروج فى الداخل باعتبارها نموذجا للدولة الديمقراطية العلمانية التى بناها مصطفى كمال أتاتورك. والحال أن نظام أردوغان ليس هذا ولا ذاك، إنه نظام استبدادى، وما شعارات الدين سوى منصة لإطلاق ذلك النظام الاستبدادى فى الداخل، والهيمنة الإقليمية تعويضا عن إغلاق أوروبا الأبواب فى وجه أردوغان. وصف أردوغان المحتجين فى بلاده ب«المتطرفين» و«المهمشين»، وقوله إن «كل الطرق ما عدا صناديق الاقتراع تظل غير ديمقراطية»، و«إذا كان هذا الأمر يتعلق بتنظيم التجمعات، وإذا كان هذا حراكا اجتماعيا يجمعون فيه 20 ألفًا، فإننى سأقوم وأجمع 200 ألف شخص. وإذا جمعوا مئة ألف سأجمع مليونا من حزبى»، يضعه فى سلة واحدة مع كل المستبدين العرب الذين حاربهم طوال العامين الماضيين، لدواعٍ استراتيجية لا إيمانا بالحرية. وقد لا يخسر أردوغان منصب رئيس الوزراء الآن، لكنه خسر احترام الأتراك والمدافعين عن الحرية والعدالة فى كل العالم.