بعد يوم واحد فقط من الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، بدأت عمليتان متوازيتان: إجلاء المدنيين، وإخراج المسلحين. بينما أعلن الأسد عن انتصار تاريخي، وهنأ أنصاره بتحرير حلب بالكامل، وليس سيطرة قواته عليها. كل ذلك على خلفية العمليات العسكرية التي تجريها القوات التركية في مدن وبلدات في شمال سوريا بالتعاون مع الجيش السوري الحر وفصائل المعارضة الأخرى. الكرملين أعلن في ١٤ ديسمبر الحالي أن بوتين وأردوغان ناقشا هاتفيا الوضع في حلب، بينما أعلنت أنقرة أن أردوغان أبلغ بوتين استعداده لاتخاذ كافة التدابير في مجال الإغاثة الانسانية والإيواء المؤقت للنازحين عقب فتح الممرات الآمنة في حلب. وبالفعل اتفق الرئيسان على البدء بإجلاء المدنيين من أحياء حلب المحاصرة عبر ممرات آمنة بأسرع وقت. وفي الوقت الذي أكد فيه أردوغان أنه اتخذ جميع الإجراءات لتقديم المساعدات لمن سينزحون إلى إدلب وجوارها ومن سيتمكنون من القدوم إلى تركيا، أجرى في ذات الوقت اتصالًا هاتفيًا مع الأمين العام الجديد للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، لحثه على التحرك تجاه الأحداث التي تمر بها مدينة حلب، ومعربًا عن رغبة تركيا لعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة، اجتماعًا طارئًا لمناقشة الأوضاع الجارية في هذه المدينة المنكوبة. وقال أردوغان إن "وحشية النظام السوري وأنصاره أصابت العالم كله بالرعب، وهناك ضرورة قصوى لتهدئة الوضع في المدينة لإنقاذ أرواح المدنيين والمعارضين والتركيز لاحقًا على توصيل المساعدات الإنسانية إلى المنطقة". في الحقيقة، هناك خلط وتضليل سياسيين من جانب جميع الأطراف. وهو ما يعكس خلافات جوهرية قد تقلب الأوضاع رأسا على عقب. فالأسد يحتفل بالانتصار التاريخي في حلب بعد تحريرها كليا، حسب وسائل إعلامه، بينما الأخبار تؤكد نجاح إجلاء "المسلحين" وإخراجهم من حلب. غير أن لا أحد يتحدث عن إلى أين يتوجه المسلحون، وماذا سيفعلون، ومن هم هؤلاء المسلحون إذا كانت موسكوودمشق قد صدَّعوا الرأي العام بالحديث عن الإرهاب والإرهابيين؟! أين الانتصار هنا، وعن أي مسلحين يدور الحديث؟ وماذا عن الرقة وإدلب والباب ومنبج؟ بل وماذا عن ضواحي دمشق نفسها! وماذا أيضا عن مدينة تدمر، ومن يسيطر عليها بالضبط، وما هي الاتفاقات التي تدور حولها؟ المثير هنا أنه يجري تجاهل المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري الحر برعاية تركيا بالدرجة الأولى، وبرعاية التحالف الدولي بقيادة واشنطن أيضا. بينما الأخبار تؤكد أن تركيا تسيطر تماما على مناطق كاملة في شمال سوريا وتقدم الدعم الكامل لفصائل المعارضة والجيش الحر. لا أحد يتحدث عن "المدنيين النازحين"، ولماذا تجري عمليات نزوح للمدنيين، طالما تجري عمليات إجلاء للمسلحين! هناك ظواهر غريبة للغاية، إذ تؤكد الأنباء وجود إصابات حريق من الدرجتين الأولى والثانية بين النازحين من المدنيين وفي صفوف المسلحين أيضا.. فماذا جرى، وماذا يجري بالضبط؟! وعن أي مساعدات إنسانية يدور الحديث، بينما يجري إجلاء المسلحين والمدنيين؟ وكيف يجري تقسيم المناطق بين قوات الأسد وقوات الجيش الحر والقوات التركية وبقية التنظيمات الدينية والإرهابية؟ وبالعودة إلى بداية الموضوع، يتساءل الرأي العام عن جوهر الاتفاقات التي جرت بين موسكووأنقرة من جهة، وبين موسكوودمشق من جهة أخرى، لأن القيادة التركية لا تزال مصممة على موقفها برحيل الأسد. وماذا قدمت روسيالتركيا لكي تقوم بدور قد يضعها في بؤرة مواجهات ليس فقط مع الولاياتالمتحدة وحلف الناتو، بل وأيضا مع حلفائها الإقليميين والعديد من التنظيمات والجماعات التي تدعمها أنقرة. ومن جهة أخرى يتردد سؤال حول الدور التركي ومكاسب أردوغان، ما يعطي انطباعا بأن أنقرة نجحت في إرغام جميع الأطراف على منحها دور الوسيط المستفيد والذي يجب أن يحقق كل شروطة ويحصل على جميع مكاسبه. بمعنى أن أنقرة استفادت من كل التناقضات الإقليمية والدولية، وهو ما لم تنجح فيه لا إيران ولا السعودية، ولم يعد أمام الولاياتالمتحدة وأوروبا إلا التسليم بهذا الدور، والانتظار إلى أن ينطق الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بأول تصريح عن الأزمة السورية. هناك تقارير غربية تفيد بأن حلف الناتو يتوقع ظهور بؤرة جديدة لنزاع عرقي وديني محتمل في البلقان، وتفاقم الأوضاع في تلك المنطقة بسبب عودة الإرهابيين إلى بلادهم من سوريا. الخطير في الأمر أن إحدى الوثائق تتحدث عن استعداد الناتو للتدخل في المنطقة إذا تطلب تطور الأحداث ذلك. وتدخل الناتو في البلقان قد يمون شرارة تتسبب في اندلاع مواجهات مباشرة بينه وبين روسيا. أي أن الأخيرة قد جاءت بنفسها إلى سوريا لتقف على حدود الحلف مباشرة (على الحدود تركيا عضو الحلف)، وهو ما يستوجب تلقائيا تقدم الحلف خطوة أو اثنتين من حدود روسيا، ويستحسن أن يكون ذلك في البلقان التي كانت السبب الرئيسي في اندلاع الحرب العالمية الثانية. الوثيقة الأطلسية أشارت إلى وجود نوعين من المخاطر والتهديدات التي قد تزعزع الاستقرار في البلقان. الأول، هو انتشار التطرف نتيجة عودة المسلحين الأجانب من سوريا والعراق إلى أوطانهم. والثاني، هو سلوك روسيا التي باشرت بإعادة التعاون السياسي والاقتصادي مع دول تلك المنطقة. أي ببساطة، ضرورة مواجهة روسيا التي تثير تحركاتها في البلقان امتعاض حلف الناتو والولاياتالمتحدة، حيث أصبحت هذه التحركات الروسية تشكل خطرا كبيرا في قطاع الطاقة وطرق نقلها عبر دول البلقان. إضافة إلى الاتصالات التي تقيمها موسكو مع النخب السياسية في دول البلقان. على الجانب الآخر، تتشكل مخاطر وتهديدات في منطقة الشرق الأوسط، سواء بسبب قطاع الطاقة (نفط وغاز) وطرق نقلهما، أو بسبب عودة الإرهابيين إلى دولهم بعد مغادرة سوريا، هذا في حال إذا غادروها فعلا. ويبدو أن هذا الأمر لا يهم روسيا أو الولاياتالمتحدة كثيرا، لأن الطرفين بعولان على توظيف دول بعينها لتقوم بالمهام "القذرة" نيابة عنهما، وكذلك توريط أكبر عدد ممكن من القوى الإقليمية في صراعات بينية للحفاظ على توازنات تخدم سياسات كل منهما، وجعل هذه القوى (الدول) تواجه الإرهاب لأطول فترة ممكنة. وتبقى هنا أوروبا كضحية لسياساتها وسياسات نخبها تحت الضغوط والتهديدات التركية بفتح الحدود مع الدول الأوروبية أمام النازحين والمهاجرين، وإمكانية انتشار الإرهاب وتكرار العمليات التي جرت في فرنسا وبلجيكا وغيرهما، وتحت الضغوط الأمريكية بضرورة زيادة ميزانيات الدفاع لمواجهة المخاطر الروسية، والخضوع التام للسياسات الأمريكية، وتحت ضغوط روسيا تسعى لدق الأسافين بين أوروبا والولاياتالمتحدة من جهة، وبين الدول الأوروبية نفسها من جهة أخرى، من أجل تسوية ملفات مختلفة، من بينها أوكرانيا، ومواجهة تمدد حلف الناتو، ونشر الدرع الصاروخية في رومانيا وبولندا، وعسكرة دول البلطيق ضدها، والتغلب على مشاكلها الاقتصادية التي نجمت عن العقوبات الغربية. إن الولاياتالمتحدة تقامر في أحداث سوريا والشرق الأوسط ولكن ليس بأموالها ولا بقواتها. وعلى الرغم من أن هناك عوائق وعقبات أمام سيناريوهاتها وخططها، إلا أن الوقت يلعب لصالحها في كل الأحوال، لأن التقارب الروسي – التركي ليس مدعوما بأي ضمانات أو اتفاقات مكتوبة. ومن الواضح أن هذا التقارب جاء رغما عن موسكووأنقرة، حيث أجبرتهما الظروف على تجاوز العديد من الخلافات الحادة والجوهرية من أجل تحقيق أهداف متناقضة. وقد تظهر هذه التناقضات في المدى المتوسط لتضع بعض النقاط على الحروف بشأن مصير الأسد، وتقسيم الكعكة السورية، سواء رحل الأسد، أو بقي على رأس السلطة في إحدى المناطق السورية.