أكتب عن فترة مهمة فى حياتى وفى حياة وطنى، أحاول تذكُّر تفاصيلها، ولكنها ستكون قراءة عن تجربتى وعن أشخاص التقيتهم وأحداث عايشتها.. لذا ستبقى الرواية فى النهاية من وجهة نظرى، فإن اختلفتم معى فى الرؤية والتقييم وقراءة النتائج بشكل مختلف فهذا شىء طبيعى للغاية، لأنها رؤيتى وقد تعلمت من التجربة والمشاركة فالوقفات والاقتراب أكثر ما يمكن من مواقع وتفاصيل المجازر والأحداث على الأرض، تعلمت أنى أرى فقط ما أتيح لى رؤيته من موقعى، لكنها ليست بالطبع الحقيقة الكاملة. فى محمد محمود الأولى كنت مضربة عن الطعام تضامنًا مع الدكتورة ليلى سويف والدة الناشط علاء عبد الفتاح، ضد محاكمته عسكريا على خلفية أحداث ماسبيرو الأليمة، وربما تابعتم جميعًا ما نُشر من روايات لشهود حول أنه كان يحوز سلاحا. علاء عبد الفتاح نفسه الذى كتب وقت اعتصام وزارة الدفاع فى مايو 2012 على حسابه الشخصى على «تويتر» إن نشطاء وأعضاء من حركة 6 أبريل معهم سلاح. وأنا أعرف نقلًا عن قريب لى سلفى أن زملاء له رأوا عناصر جهادية سلفية ممن كانوا متهمين على خلفية محاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا فى اعتصام وزارة الدفاع وأن الخيام أمام الأسلاك الشائكة كانت مليئة بالسلاح والجهاديين الذين أُفرج عنهم. تلك الأحداث التى رفعت أسهم الفريق أحمد شفيق وكان الذين دعوا إليها هم مناصرو الشيخ حازم أبو إسماعيل الذى كان قد دعا أيضا، ويا لها من مصادفة شاذة، إلى اعتصام التحرير الذى كان تقدمةً لأحداث محمد محمود 2011! إذن كنت مضربةً عن الطعام عند بداية أحداث محمد محمود وعندما وجدت سيارة شرطة تحترق فى ميدان التحرير على ناصية محمد محمود لم أفهم ما يحدث ومع ذلك كنت مدركة أن حالتى الصحية لا تسمح لى بالوجود وسط اشتباكات، والاشتباكات تعنى غازًا وظللت أقاوم النزول رغم الأخبار المنتشرة على «تويتر» عن إصابة عين مالك مصطفى. لكن الشباب أخذوا يتصلون بى بإلحاح لإحضار قطن وخل وكوكاكولا، تلك المواد المطلوبة لتحمل الغازات المسيلة للدموع وعندها نزلت رفضت أن أدعو أحدًا للنزول. وعلى كوبرى قصر النيل الاشتباكات مع قوات الأمن وفجأة انسحبت الداخلية وعلمت- لاحظوا أن ما لم أره بعينى أنقله عن، وبالتالى هو خاضع للتأويلات وليس بالتأكيد معلومة وحتى ما أراه يكون فى الغالب المظهر وغالبا وراءه تفاصيل غائبة- أن متظاهرين آخرين جاؤوا من اتجاه عبد المنعم رياض، البعض قالوا إنهم أولتراس لكن الحقيقة، ربى وحده هو الذى يعرفها. وظللنا نسمع فى كل وسائل الإعلام طوال أحداث محمد محمود عن أنها محاولة اقتحام وزارة الداخلية من محمد محمود، وهذا طبعًا مستحيل ف«الداخلية» تقع على امتداد شارع الشيخ ريحان. ونزلت فى كل المرات وأنا أسعى جاهدة لفهم الدافع الحقيقى لمشاركة هؤلاء.. فوجدت بينهم أمين الشرطة الذى حكى لى أن والدته ماتت بالسرطان وأنه فى سن الثلاثين وقد فقد كل أمل فى الزواج أو بناء مستقبل فهانت عليه حياته وهو يجىء على أمل أن تكون تضحيته ثمنًا لأن يرسم مستقبلا أفضل لأخيه الصغير، وعامل الديليفرى الذى ينقل المصابين على الموتوسيكل ولا يدرى كيف سيعود لصاحب العمل.. وآخر سمع فى وسائل الإعلام عن البلطجية فدفعه فضوله للاقتراب من الحدث فوجد شبانا متعلمين ولاد ناس وبتوع الجامعة الأمريكية- على حد تعبيره- فعاود المجىء.. وقبل الانتخابات البرلمانية هدأت الأمور فجأة كما اشتعلت فجأة وكسب الإخوان البرلمان.. الأمور دائما هائمة غائمة تترك أسئلة تبحث عن إجابات.. ومخطط شيطنة الثورة وإفشالها سائر على قدم وساق ولا أحد يتعلم.. قِس على ذلك محاولات البعض لإقناع الشباب بالنزول هذا العام رغم المعرفة شبه اليقينية بأن الإخوان سيشتركون من أجل الحصول على المزيد من الدم. والجر إلى الدم حرفة يمارسها المؤمنون بالكفاح المسلح. فلن أنسى المناضل الذى نشرت الصحافة صوره وهو يحاول الدفاع عن الإخوان فى موقعة الجبل بالمقطم فى 2013، بينما هو يحشد ويحرض فى ميدان النافورة على التوجه إلى مقر «الحرية والعدالة» عشان يجيب دم.. والهدنات التى كان يتوصل إليها الشيوخ مع قوات الأمن لوقف الاشتباكات فى محمد محمود 2011 ثم تنفجر قنابل الغاز فى وجوههم وهم يصلون فتشتعل الاشتباكات مرة أخرى.. وكلها مخططات لا أعرفها، وربما أستغرق فيها عمرى دون أن أصل إلى تفسير.. وتلك ليست قضيتى بقدر اهتمامى بأن نتعلم من الدرس وتحكمنا قناعاتنا ومبادئنا، وهى أن لا ننجر أو نجر آخرين إلى اشتباكات حتى لو كانت دعوة لسلاسل بشرية ضد التحرش.. فالتجارب مُرة ومريرة منذ اليوم الأول وليس فى ما يتعلق بمحمد محمود وفقط.. ومع ذلك فعقلى لم يتقبل فكرة الدور المجرم للإخوان خلال ال18 يوما فى الميدان إلا متأخرا.. والمناضلة التى اتصلت بى فى الواحدة صباحا فى أثناء اعتصام ميدان التحرير عقب أحداث محمد محمود 2011 كى أسعى لإحضار الشيخ حازم أبو إسماعيل بعد طرده من الميدان لإقناع مناصريه بترك ضابط تم القبض عليه عند عمر مكرم، فرفضت ثم وجدته يؤم المصلين فى صلاة الفجر من جامع عمر مكرم.. ألعاب ألعاب ألعاب والحقيقة غائبة فى ظل تشابك المصالح اللا منتهى. وتجىء الذكرى الثانية لمحمد محمود والدعوات بالنزول- التى لن تعود علينا إلا بالدم- بالتعاون بوعى أو بدون وعى مع تنظيم الإخوان المحظور.. كى تضرب عصفورين بحجر فتقدم المبررات لعودة القبضة الأمنية وبالمرة يزيد كره الناس لحق التعبير السلمى والتظاهر لأنه بيجيب دم. التفاصيل كثيرة والمصالح متشابكة تحكمها بالأساس السبوبة، نعم السبوبة.. سيكون سرد المزيد من التفاصيل صادما ومربكا لكثيرين، وربما لم يحن الأوان بعد، حتى لا أظلم أحدًا. لكنى جئت لأحذر وأحذر وأحذر من أن هناك من يقضى على الديمقراطية أو أملنا بوطن ديمقراطى بسلاح الإرهاب ليعطى السبب لممتلكى أيقونة الدولة الأمنية المبرر وليجر المجتمع نفسه إلى الفاشية وليس الدولة وفقط بمباركة شعبية مئة بالمئة. بداية ممن يتكسبون من دم الشهداء ومن جمعوا أموالا طائلة على حس المصابين، هذا الذى أصبح «بيزنس» لبعض من يسمون أنفسهم نشطاء. كلامى هذا لا ينطبق فقط على إحياء ذكرى محمد محمود، فقد كان هو ذات موقفى فى دلجا وقت سيطرة الإرهابيين عليها عندما جمعنا الأغطية والملابس والأغذية لأفقر الفقراء بدلجا ولمن احترقت بيوتهم فى مظاهرات 30 يونيو التى دعت إليها الجماعات التى تشكل أذرعًا للإخوان، فألغينا الزيارة وأرسلنا الاحتياجات خلال شهر رمضان الماضى وأجلنا النزول منعا لفتح المجال للفتنة. محمد محمود 2012.. وقد جئت لأذكر البعض بالمجهودات الرائعة التى خططت لها أمل المهندس والتفّ حولها كثيرون، كنت واحدة منهم ثم أهدرها الإخوان وأعوانهم عمدًا بأول طوبة ومولوتوف تم إلقاؤها العام الماضى فسال الدم وفسدت احتفالية عيون الحرية التى تم الإعداد لها قبلها بشهر كامل أو يزيد. شهادتى على أحداث محمد محمود 2012 وبالتحديد يومى 18 و19نوفمبر. حيث دعا حزب الدستور لصلاة غائب أمام مجلس الوزراء على ضحايا أوتوبيس الأطفال على شريط السكة الحديد فى أسيوط واستجبت للدعوة، وكان يومًا مؤثرا وبسيطا ومتحضرا ومعبرا، وكانت الراية الأضخم لشهيد التعذيب قبل الثورة السكندرى سيد بلال إضافة إلى مسيرات التوابيت التى أعدها الشباب من الزاوية الحمراء وشبرا، وغيرها وأتوا من أحيائهم فى مسيرات سلمية وكانت الهتافات للشهداء وضد الحكومة وأدائها وضد الإخوان. وبعد أن انتهت الصلاة استنجد بى الشباب «يا أستاذة هناك من يتحرشون بالعساكر عند الحاجز» فتوجهت إلى حيث يشيرون فوجدت رجلا عصبيا يحاول تهييج الناس منذ وصولنا للمكان فحاولت تهدئته وإقناعه بأن هذا الاستفزاز مضر، فرد علىّ بأنهم يشتمونه، ثم اكتشفت أن هذا غير صحيح، وبدأ يقذفنى بأقذع الألفاظ ثم خناقة مفتعلة تدخل فيها أطفال شوارع وبدؤوا يمارسون التحرش. والمفاجئ أننى عندما استقصيت عن كُنه هذا الرجل تبين أنه يدعى أنه والد شهيد، ثم تبين أنه ليس كذلك ونشاطه التخريبى لتشويه الثورة والثوار يحتاج وحده لمقالة كاملة. فى اليوم التالى يوم 19 نوفمبر 2012 نزلت لشارع محمد محمود وفى طريقى وجدت أطفالا يعتلون السور عند شارع الشيخ ريحان يقذفون الطوب على العساكر من ورائه عندما اقتربت منهم حذرونى من التصوير وعندما سألتهم من أنتم أجاب أحدهم «وايت نايتس». كل الكيانات تستعمل من قِبل الجميع والهدف الأخير شيطنة الثورة والثوار وللأسف كثير من الشباب يساعدون على تنفيذ ذلك المخطط باقتدار، بوعى أو بدون وعى.. وللأسف هذا الوطن الذى تنتشر فيه البطالة والفراغ ولا يقدم حلمًا يلتف حوله الجميع هو أخصب مناخ لجر هؤلاء إلى التهلكة وجرنا جميعا إلى المزيد من الفتن. والاستفزاز ما زال مستمرًّا هذا العام لجر الشباب إلى الاشتباك، فنجد خيمة يقال إن الداخلية أقامتها احتفالا بذكرى محمد محمود.. وأخبار عن أن من يسمون أنفسهم حملة «كمِّل جميلك» يريدون الاحتفال بالسيسى فى الذكرى الثانية لمحمد محمود بميدان التحرير. وهكذا دائما يبدأ مسلسل الدم.. والوطن دائما هو الخاسر والمخططات مستمرة أملًا فى إفشال الحلم الذى استعدناه فى «30 يونيو» بعد كبوة الإخوان.. فانتبهوا. «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون». صدق الله العظيم