عدد الأسلحة المنتشرة بليبيا يفوق بكل أنواعها عدد مواطنيها الملايين الستة تقريبًا بعد عامين من إسقاط نظام حكم العقيد الراحل معمر القذافى ومقتله عام 2001، ما زال الليبيون يتساءلون عن الأمن والاستقرار فى بلد يفوق عدد الأسلحة المنتشرة فيه الآن بكل أنواعها، عدد مواطنيه الملايين الستة تقريبًا على مساحة جغرافية واسعة النطاق تتطلب جيشًا متقدّمًا ومنظَّمًا وعلى مستوى عالٍ من التسليح. بات عاديًّا أن يستيقظ سكان العاصمة طرابلس فى أى وقت على أصوات الأعيرة النارية والمتفجرات شبه اليومية، على أن الأمر بدأ يتحول إلى الأسوأ فى بنغازى ثانية كبرى المدن الليبية ومهد الثورة ومعقل الانتفاضة ضد القذافى. فى كل مدينة ليبية ثمة أزمة كبيرة فى الأمن، بيد أن الكابوس الحقيقى بدأ يتجول مترجلا أيضًا فى بعض شوارع المدن المخطوفة من قِبَل ميليشيات مسلحة ما زالت تزعم أنها من كتائب الثورة ولا تريد أن تتخلى بسهولة عن السلاح الذى ترفعه الآن فى مواجهة المواطن العادى والسلطات الرسمية. الوضع الأمنى يراوح مكانه فى دولة تتطلع إلى إعادة بناء ما دمرته الحرب شبه الأهلية التى شارك فيها حلف شمال الأطلنطى (الناتو) لإسقاط القذافى. وإذا سألت أى مواطن ليبى بشكل عابر عن مشكلته الأولى سيقول لك باختصار «الأمن»، فى دولة عاشت نحو 42 عاما تحت حكم القذافى دون أن تشتكى وضعًا أمنيًّا مماثلًا. مؤخرا بات الأمن هاجس الجميع، وبات الوضع فى مالى ينعكس على الدول المجاورة، ويضع تحديات جديدة أمام حكومة طرابلس، فقنصليات الدول الغربية فى بنغازى بدأت تغلق مقراتها وتسحب العاملين فيها، وامتد الأمر أيضًا ليشمل رعايا هذه الدول. البعض يقول إن المعضلة الأمنية فى ليبيا الخارجة لتوها من أتون حرب شبه أهلية انتهت بسقوط القذافى ومقتله، لها كثير من التعقيدات، منها ما هو قبلى ومنها ما يتعلق بالولاء للنظام السابق. ويقول تقرير سرى كتبه أحد قيادات الثوار إنه بعد إسقاط هرم السلطة فى ليبيا حاول الثوار تفادى الاصطدام المباشر بأعضاء المؤسسة الأمنية والعسكرية وكان المجال أمامهم مفتوحا لتطهير مؤسساتهم من العناصر التى عملت مع النظام السابق وكان لها موقف سلبى من ثورة السابع عشر من فبراير. ولاحظ أنه فى المنطقة الغربية ولطول فترة القتال كانت المدة كافية لفرز وتصنيف هؤلاء، فمن التحق بالثورة معلوم ومعروف، ومن تباطأ عن الالتحاق معلوم، ومن وقف إلى صف النظام الهالك معلوم، بينما فى شرق البلاد ولقصر فترة القتال فإن المؤسسة العسكرية والأمنية احتفظت بكل مكوناتها ولم يحصل أى تغيير بخاصة فى العناصر العاملة فى الأجهزة ذات الطابع القمعى كالأمن الداخلى وجهاز مكافحة الزندقة وغيرها من الأجهزة التى أسهمت فى قمع الليبيين طوال العقود الأربعة من عمر النظام. ويرصد التقرير كيف أن أفراد المؤسسة الأمنية والعسكرية فى ليبيا يرفضون العمل تحت إمرة مدنيين فى ما يتعلق بمنصب وزيرَى الداخلية والدفاع، وهم مسؤولون عن عرقلة بناء الجيش الليبى الذى نطمح جميعا إليه لا جيش النظام السابق، وذلك بالتفافهم على وزير الدفاع المدنى ونزع السلطات عنه، وفى نفس الوقت هم مسؤولون عن التشويه الذى حصل فى المؤسسة الأمنية عندما اضطر وزير الداخلية، وهو مدنى أيضًا، إلى إنشاء جسم موازٍ لوزارة الداخلية هو اللجنة الأمنية العليا. يقول أحد قيادات الثوار فى تحليله للوضع الأمنى إنه لفهم الواقع فى ليبيا لا بد من فهم طبيعة التركيبة الديموغرافية للقبائل الليبية معتبرا أن ليبيا الدولة الحديثة المعاصرة التى من المفترض أن يقطنها شعب اسمه الشعب الليبى لم تقم على الإطلاق. وأضاف «ينسى الجميع حقيقة تاريخية واضحة هى أن الشعب الليبى عبارة عن مجموعة قبائل تقيم على بقعة جغرافية شاءت ظروف الاستعمار والحروب العالمية أن تقع بين مصر المستعمرة الإنجليزية والجزائر المستعمرة الفرنسية ووجدت فيها إيطاليا فرصة لإحياء أمجاد الإمبراطورية الرومانية، لكن إيطاليا إن نجحت فى احتلال البلاد بالقوة العسكرية فإنها لم تنجح فى إقامة دولة، وظل الأمر على ما هو عليه حتى تدخلت الأممالمتحدة وأنشأت كيانًا جغرافيًّا وسياسيًّا وأعلنته دولة أطلق عليه اسم ليبيا، إلا أن شعب هذا الكيان لم يتوحد بل ظل محتفظا بخصائصه القبلية وإن شهدت المدن نوعًا من الانصهار والتمازج القبلى، إلا أن هذا التمازج غالبا ما شابته الجهوية التى خلقتها فى أغلب الأحيان الانتماءات الجغرافية للقبائل الليبية. وعلى الرغم من تعدد المحاولات الانقلابية على نظام القذافى فإنها فشلت جميعا لأن القذافى صهر استمرار مصالح كل تلك القبائل فى استمراره هو شخصيا حتى إن بعض أشهر الانقلابات التى حصلت فى ليبيا كان يُنسَب إلى قبائلها كانقلاب ورفلة (على الرغم من أن من قاموا بها لا ترجع أصولهم إلى قبيلة ورفلة إنما هم من النازحين الذين جاوروا القبيلة لكثير السنوات) أو انقلاب الرائد عمر المحيشى الذى يحسب على مدينة مصراتة التى ينتمى إليها المحيشى عضو مجلس قيادة الثورة وأحد رفاق القذافى. ما حدث فى الثورة وما بعدها من أحداث يرجع من وجهة نظر مسؤول فى وزارة الداخلية الليبية إلى مسألة الانتماءات القبلية هذه وما يصفه بصراع قيادات هذه القبائل على تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وجهوية قد يكون لها فى حال استمرت تأثير سلبى على الوضع السياسى فى البلد. ويلخص خبير أمنى عربى عاش فى ليبيا لسنوات القصة بقوله «لتعرف أصل كل مشكلة فى ليبيا فقط ابحث عن القبيلة وستجد الحل مباشرة، فليبيا دولة القبائل لا دولة الشعب». هذا مثال على المعضلة فى ليبيا أضف إلى ذلك تعقيدات أيديولوجية أخرى، فالإسلاميون فى ليبيا ينتشرون فى المناطق المتحررة من القبلية خصوصًا فى المدن الكبيرة كطرابلس وبنغازى ومصراتة والزاوية وغريان وهى المدن التى تشهد اختلاطا نسبيًّا بين أفراد القبائل المختلفة ما يفسح المجال أمام الأيديولوجية الدينية لتكون اللاعب الأساسى. ولن يكون مستغرَبًا حينها أن نعرف أن أغلب قيادات التيار الإسلامى هى من مصراتة مثلا سواء فى شرق البلاد أو فى غربها وأن النسبة الغالبة من المعتقلين فى سجون القذافى كانوا من أبناء المدن لا من أبناء القبائل كدرنة وبنغازى ومصراتة وطرابلس والزاوية التى كان غالبا عليها التحرر من العصبية القبلية. ثمة من يقول إن الحل فى ليبيا لن يكون إلا عن طريق جلوس هذه القبائل للتحاور والاتفاق على ملامح المرحلة المقبلة، فالوضع فى ليبيا متأزم وهو قريب من الوضع اليمنى وإن كان وجود البترول قادرا على حل كثير من الخلافات والتقريب فى وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين وأن تأسيس الدولة مع مراعاة النواحى القبلية والجهوية والعرقية أمر ضرورى فى هذه المرحلة يجب على الساسة عدم إغفاله. ويلاحظ فريدريك ويرى كبير الباحثين فى برنامج الشرق الأوسط فى معهد كارنيجى الأميركى للأبحاث والدراسات، أنه على الرغم من نجاح الانتخابات البرلمانية التى عُقِدَت فى أوائل شهر يوليو المنصرم، ما زالت الخلافات المحلية على الهوية والطاقة والموارد فى ليبيا قائمة، مما يؤثر على قدرة الحكومة الضعيفة، ويثنى الاستثمارات الأجنبية عن الدخول إلى ليبيا، وربما يعرقل ظهور مؤسسات ديمقراطية. وللمساعدة فى كبح العنف واستعادة ثقة المنطقة الشرقية بالدولة، يعتقد ويرى أنه يجب على الحكومة تسريح الكتائب الثورية الكثيرة فى البلاد وتعزيز الجيش الوطنى والشرطة، كما ينبغى أن تكون الأولوية لإضفاء الطابع الاحترافى على اللجان الأمنية العليا، وهى هيئات تشبه الشرطة أصبحت غير خاضعة للمساءلة ولا تحظى بالثقة على نطاق واسع. فى المقابل يرى طارق مترى الممثل الخاص للأمين العام لليبيا أن إصلاح القطاع الأمنى وتفعيل السلطة القضائية بشكل كامل، هما أمران أساسيان ينبغى للسلطات الليبية بتعزيزهما. وبشكل واضح يضع مترى إصبعه على الجرح قائلا «وفى حين أن كثيرًا من المرافق الآن تحت سيطرة المجالس العسكرية المحلية أو اللجان الأمنية المرتبطة بوزارة الدفاع أو العدل، فإن بعضها لا يزال خارج سيطرة أجهزة الدولة». ويعانى جهاز الأمن الليبى حالة من الفوضى، وقد حاولت الحكومة المركزية بعد الثورة، من دون نجاح يُذكَر، إظهار درجة من السيطرة على عديد من الجماعات الثورية المسلحة فى البلاد وتنظيمها. ونتيجة لهذا الجهد المتردّد، شُكِّلَت كيانات أمنية جديدة وهجينة تميّزت بوجود مجموعة من الجهات الفاعلة الرسمية وغير الرسمية، والحدود الملتبسة للسلطة، وضعف الولاء للحكومة المركزية. ومما يعقّد فاعلية واستدامة هذا التنظيم الأمنى الهجين التسلسل القيادى المشوّش، والخصومات والمنافسات الشخصية، والمهمات الفائضة عن الحاجة، والتنافس البيروقراطى على الموارد. واستحوذت القوات المسلحة وقوات الشرطة على مكانة ثانوية، مقارنةً بقوة درع ليبيا واللجان الأمنية العليا وعديد من القوات شبه العسكرية الأخرى، وهو ما يمثّل انعكاسًا وتجسيدًا ساخرًا لطريقة التنظيم التى كانت قائمة فى السنوات الأخيرة من حكم القذافى. فقد تنازلت قوات الجيش والشرطة آنذاك عن المهام التنفيذية، على التوالى، للكتائب الأمنية التى كان يقودها أبناء القذافى وجهاز الأمن الداخلى المسؤول أمام مكتب القذافى مباشرة. وبسبب غياب توجُّه استراتيجى وشفافية واضحة فى تخصيص الموارد، أصبح الثوار فى البلاد يشتبهون فى أن قطاع الدفاع ووزارة الداخلية، إن لم يكن فروع أخرى من الحكومة مثل وزارة العدل، يعملون على استمرار مصالح من خدموا نظام القذافى. ويعتقد قادة الكتائب الثورية الذين يرغبون فى بلورة مستقبل قطاعات الدفاع أو الشرطة أو الاستخبارات بأن الصفوف العليا فى الجيش لايتركون لهم مجالًا لتَوَلِّى مناصب ذات تأثير. فهم لا يرغبون فى التخلّى عن نفوذهم، بينما لم يتم بعد إما تعريف العمليات والمؤسّسات السياسية الرئيسة فى البلاد بشكل واضح (الدستور والبرلمان) وإما أنها مختلّة ومتأخرة أو مشلولة بسبب حالة الجمود. من جانبهم، قاوم كبار ضباط الجيش عملية دمج الثوار، الذين يُعَدّون إما مسيّسين بشكل مفرط وإما إسلاميين وإما رعاعًا غير منضبطين. كل هذا يشير إلى قطاع أمن ليبى يتّسم بالفوضى وفى حاجة ماسّة إلى الإصلاح، إذا ما أُريدَ للدولة أن تستقرّ، ولعملية الانتقال الديمقراطى أن تترسّخ. والحاصل أن الأمن لا يزال مفقودا فى دولة عانت كثيرًا دمارًا شبه شامل أتى على بنيتها التحتية وجرف معه بقايا مؤسسات الدولة، بينما يتساءل رجل الشارع العادى فى المقابل عن حقوقه فى العيش بأمان دونما اعتبار لكيفية حدوثه. وما بين حالة اللا أمن فإن الضغوط تتصاعد على رجال لشرطة للقيام بواجب ليسوا مؤهلين أو مهيئين للقيام به، لتتصاعد الأزمة بشكل يومى إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.