تشير أحداث الأيام الأخيرة إلى أن الترحيب الأمريكي – الأوروأطلسي، بالوجود العسكري الروسي في سوريا لم يكن من قبيل المصادفة. فبداية من قيام القوات الجوية التركية بإسقاط المقاتلة الروسية في نهاية عام ٢٠١٥، إلى ضرب القوات الأمريكية مواقع للجيش السوري، وتهديد الولاياتالمتحدةروسيا بإمكانية تعرض ليس فقط جنودها وطيرانها في سوريا إلى ضربات عسكرية، بل وأيضا مدنها الداخلية، وإرسال ٣ طرادات حربية روسية إلى البحر المتوسط مع منظومات صواريخ (إس – ٣٠٠) و(إس – ٤٠٠)، ومصادقة البرلمان الروسي على نشر قوات جوية في سوريا بشكل دائم.. كل ذلك يذكرنا ببدايات حرب أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. في ٣ أكتوبر الحالي، تعرَّض مبنى السفارة الروسية في دمشق، والواقع في منطقة المزرعة، للقصف بقذائف الهاون. وحسب المعلومات المتوافرة، فقد تم تنفيذ القصف من حي جوبر الخاضع لسيطرة فصائل "جبهة فتح الشام" (النصرة سابقا) و"فيلق الرحمن"، وانفجرت إحدى القذائف في حرم السفارة قرب المجمع السكني، فيما انفجرت قذيفتان قرب مبنى السفارة، دون إصابات. ومن جانبها، قامت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها في مجلس الأمن الدولي، في ٤ أكتوبر الحالي بتعطيل بيان يدين استهداف الإرهابيين للسفارة الروسية في دمشق من قبل الإرهابيين المنتشرين في حي جوبر والغوطة الشرقية. واعتبرت موسكو أن ذلك جاء بنتيجة تصرفات الولاياتالمتحدة وبعض حلفائها، الذين يؤججون باستمرار النزاع الدموي في سوريا "بمغازلتهم الإرهابيين والمتطرفين من مختلف الأطياف". بل وذهبت موسكو إلى أن هذا القصف ما هو إلا مقدمة لتنفيذ تهديدات الولاياتالمتحدة بشأن إمكانية تعرض روسيا لضربات في سوريا. وفي ٨ أكتوبر الحالي، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن مسلحي "دعش" استهدفوا مروحية روسية تنقل مساعدات إنسانية بمنظومات دفاع جوي محمولة في محافظة حماة السورية. وأوضحت الوزارة أن المروحية من طراز "مي ٨" كان يرافقها ضباط من القاعدة الروسية في حميميم. غير أن المهم هنا أن الروس أعلنوا أن مسلحي "داعش" أوصلوا، في ٦ أكتوبر الحالي، منظومتين محمولتين للدفاع الجوي من أراضي العراق لتوفير الغطاء الجوي للفصائل المسلحة المتواجدة في ريف حماة، التي تسعى إلى فرض السيطرة على طريق حلب. وفي نفس هذا اليوم تبادلت روسيا من جانب، والولاياتالمتحدة وحلفاؤها من جانب آخر، استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي بشأن مشروعين تم طرحهما من الجانبين حول مدينة حلب وإدخال المساعدات الإنسانية إلى هناك. هذه المواجهة يتكرر فيها الكثير من عناصر الحرب الأفغانية عندما تدخل الاتحاد السوفيتي لصالح حليفه بابراك كارمل. ومن هنا بدأت حرب "الجهاد المقدس" بدعم مباشر وواسع النطاق من جانب الغرب والدول العربية والإسلامية للتنظيمات الدينية المتطرفة ضد الاتحاد السوفيتي. ومن الواضح أن المسألة تتكرر الآن في سوريا مع اختلاف بعض التفاصيل. إذ أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها العرب والأوروبيين يحافظون على شعرة معاوية مع "جبهة النصرة" وبقية التنظيمات والمجموعات الدينية اليمينية المتطرفة من جهة، ويدعمون المعارضة المسلحة والجيش السوري الحر بشكل مباشر وواسع النطاق. على الجانب الآخر، تواصل الولاياتالمتحدة الحشد الدولي والإقليمي لمواجهة روسيا في سوريا. وعلى الرغم من التوقعات الكثيرة بإمكانية وقوع احتكاكات مباشرة بين روسياوالولاياتالمتحدة في سوريا، إلا أن الوقت لا يزال مبكرا على وقوع ذلك. وقد يحدث بطرق مختلفة، من بينها السيناريو الأفغاني. فقد اجتمعت ٥ دول كبرى في وزارة الخارجية الألمانية، يوم ٥ أكتوبر الحالي، لصياغة "شروطها" من أجل ما أسمته بالتعاون مع روسيا في سوريا. وعلى الرغم من التصريحات المرنة والمطاطة التي تحتمل أكثر من وجه، ويمكن تفسيرها بأكثر من معنى، اتضح أن الأمور أكثر تعقيدا. إذ إن لغة فرض العقوبات لا تزال تسيطر على خطاب الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين. والأكثر إثارة للدهشة أن ألمانيا شرعت بالانضمام إلى هذا الخطاب، على الرغم من تصريحاتها بأن لا حل للأزمة السورية بدون جهود روسيا. ولكنها اشترطت أن تكون هذه الجهود "بنَّاءة"، أي وفقا لمفاهيم ومصالح الولاياتالمتحدة وأوروبا وحلف الناتو. وبالتالي، فهذه التصريحات يمكن قراءتها بأن برلين تحمِّل موسكو مسؤولية ما يجري في سوريا عموما، وفي حلب على وجه الخصوص. وقبيل ساعات من هذا اللقاء المثير للتساؤلات، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية مارتن شيفر أن ممثلي كل من وزارة الخارجية الأمريكية والألمانية والبريطانية والفرنسية والإيطالية سيناقشون في برلين شروط مواصلة أو استئناف التعاون مع روسيا في سوريا. وفي الحقيقة، فإن الهدف من اللقاء، وفقا لشيفر، كان "بحث الخيارات للخروج من الوضع الصعب في سوريا، وكيف سيستمر كل ذلك، وكيف يمكننا الاقتراب من الأهداف المشتركة، وهي توفير وصول المساعدات الإنسانية، وسبل استئناف العملية السياسية، وعلى أي شروط وكيف يمكننا مواصلة المفاوضات مع روسيا أو استئنافها". في نفس توقيت التصريحات الألمانية، أصدرت باريس تصريحات أخرى مشابهة. إذ أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية رومان نادال أن اجتماعا سيعقد في برلين في وقت لاحق يجمع المدير السياسي لوزارة الخارجية الفرنسية ونظرائه الألماني والأمريكي والبريطاني والإيطالي بحضور الجهاز الأوروبي للعمل الخارجي في برلين وذلك تلبيةً لدعوة كانت وجهتها ألمانيا. وأوضح نادال أن "المجتمعين سيتطرقون، كأولوية، لموضوع كيفية إعادة تفعيل الهدنة في حلب وإيصال المساعدات الإنسانية للمواطنين المحتاجين اليها. وسيناقشون المراحل المقبلة، خاصة تلك المتعلقة بِاجتماع مجلس الأمن الدولي حيث ستطرح فرنسا مشروع قرار يدعو لوقف القصف والسماح بدخول المساعدات فوراً للمناطق المحتاجة ومن دون أي استثناء بهدف إعادة استئناف المفاوضات السياسية من أجل التوصل لمرحلة انتقالية تتمتع بالمصداقية". من الواضح أن هناك اتفاقا على صيغة مثل هذه التصريحات التي تعطي انطباعا بأنها تبحث عن حلول وتسويات، ولكنها تخفي "توافقات تآمرية" من حيث الجوهر، وبالذات في ما يتعلق بالحديث حول وقف إطلاق النار في حلب، أو إدخال المساعدات الإنسانية إلى هناك، أو الحديث بلغة العقوبات ضد روسيا. فقد أكد مفوض الحكومة الألمانية لشؤون التعاون الألماني - الروسي، مندوب ألمانيا لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، النائب البرلماني جيرنوت إيرلر أن هناك أفكارا أولية لفرض عقوبات على روسيا بسبب تدخلها في الأزمة السورية. ولكنه استدرك قائلا: "لكن يجب القول، بأن سياسة العقوبات التي فرضت بسبب الأزمة الأوكرانية، لا تشجع على معاودة استخدام هذه الطريقة". لكن الغريب أن مفوض الحكومة الألمانية أشار إلى أن "ممثلي المجتمع الدولي" الذين اجتمعوا في برلين، أكدوا على حل سياسي في سوريا، وليس السعي لفرض عقوبات، مشيرا إلى أن الحل العسكري ليس مناسباً لحل الأزمة السورية. هذه التصريحات مثيرة للشك، لأن الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنساوألمانيا وإيطاليا تعتبر نفسها "ممثلة للمجتمع الدولي"، وليس لديها أي تفويض لا من المجتمع الدولي ولا حتى من الأممالمتحدة. أما لعبة التصريحات المطاطة، فهي حاضرة هنا بقوة. وبالذات في ما يتعلق مرة أخرى بأن "ممثلي المجتمع الدولي الخمسة" يتحدثون عن عقوبات، ولكنهم في الوقت نفسه يرون أن "التسوية السياسية" أفضل من "الحل العسكري". إذاً، فلماذا لا يتم إشراك الدول الكبرى الأخرى، ولماذا لا يجري الحديث مباشرة مع أطراف الأزمة الداخلية في سوريا، ولماذا لا يقوم "ممثلو المجتمع الدولي الخمسة" بإقناع أصدقائهم وحلفائهم بالالتزام بما يتم الاتفاق عليه؟ "ممثلو المجتمع الدولي الخمسة" لديهم تصريحات واضحة ومباشرة من حيث الحدة والعدوانية. فالإدارة الأمريكية اعترفت بأنها تبحث كل الوسائل، بما فيها العسكرية، لحل الأزمة السورية. واعترفت أيضا بأنها لا تستبعد فرض عقوبات على روسياوسوريا، ولكن بالتنسيق مع الشركاء. فهل عثرت واشنطن على "شركاء" من أجل فرض عقوبات على روسيا، وعزلها كما قال جوش إرنست الناطق باسم البيت الأبيض؟ والغريب أن هذه الدول الخمس تسمي نفسها "ممثلي المجتمع الدولي"، منتزعة بذلك أحد الحقوق الرئيسية للأمم المتحدة، ومتعدية على حقوق بقية الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن! هناك جانب آخر من "تآمرات" الولاياتالمتحدة وشركائها "من ممثلي المجتمع الدولي". فالناطق باسم الخارجية الفرنسي أشار إلى أن "هذا الاجتماع يعقد في الوقت الذي تعثّرت فيه المحادثات بين روسياوالولاياتالمتحدة حول سوريا، وفي الوقت الذي بدأت فيه الولاياتالمتحدة وأوروبا بتصعيد اللهجة ضد التدخل العسكري الروسي في سوريا". بينما أكد المتحدث باسم الخارجية الألمانية أنه "لا يوجد أمل في الحد من العنف في سوريا دون تفاهمات واتفاقات روسية – أمريكية.. وهذا يعود إلى حقيقة أن هاتين الدولتين جنبا إلى جنب مع شركائهما في التحالف، ونظرا لتأثيرهما على شركائهما في التحالف، لا شك أنه لا غنى عنهما لحل المشكلة". هذه التصريحات الفرنسية – الألمانية المتزامنة تقريبا تشير إلى أن هناك ضغوطا أمريكية على الدول الأوروبية، ومحاولة إعطاء انطباع للمجتمع الدولي بأن هناك اتفاق بين واشنطن وشركائها، وأن هذه الدول الخمس تحديدا هي التي تمثل المجتمع الدولي. ولكن من جهة أخرى، تمثل تصريحات باريسوبرلين شكلا من أشكال "العنف الدبلوماسي" أو "العدوان الاقتصادي"، وكلها تؤدي إلى طريق التصعيد، وخاصة عندما يدور الحديث حول العقوبات، وحول "الشروط". بعد هذا اللقاء، توجه وزير الخارجية الفرنسي إلى موسكو لإجراء مباحثات حول سوريا بشكل عام. ولكن هذه المباحثات، دارت في واقع الأمر حول المقترح الفرنسي الذي تنوي باريس تقديمه إلى مجلس الأمن، وربما أيضا حول "الشروط" التي اتفقت عليها الدول الخمس في ألمانيا. ولكن موسكو طرحت أيضا مشروعها الذي حاول المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا الترويج له، ولقي معارضة شديدة من جانب الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية والمعارضة السورية. ولم تسفر مباحثات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره الفرنسي جان مارك إيرولت عن أي شئ سوى المزيد من الخلافات التي رأينا تجلياتها في تبادل استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن بشأن المشروعين الروسي والغربي. إن روسيا تكثِّف من وجودها ونشر قواتها في سوريا، بينما تتواجد قوات التحالف الأمريكي في المنطقة بقوة، سواء في تركيا الأطلسية أو في العراق أو في القواعد الأمريكية في الخليج. هذا إضافة إلى تواجد القوات التركية في كل من سورياوالعراق. ويقوم الطرفان (روسيا والتحالف) بالقصف في سوريا. ولكن مع التحولات والتطورات الأخيرة، وبعد تعرض السفارة الروسية في دمشق للقصف، والمروحية الروسية أيضا للإسقاط، والدعم الغربي – الإقليمي للمعارضة، والحفاظ على شعرة معاوية مع التنظيمات الإرهابية، فإن المؤشرات تتجه نحو مواجهات من نوع آخر تذكِّرنا بالحرب في أفغانستان في ثمانينيات القرن العشرين.