يا له من مشهد قاسٍ ودامٍ، جثث تتناثر على مياه المتوسط المتلاطمة وتقاعس عن مواجهة الكارثة لإنقاذ الغرقى وقت واقعة الموت المأساوى، بعضها استطاع بعض الصيادين من الأهالى انتشاله ووضعها عند شاطئ الموت. جثث غرقت فى المتوسط ومعها المركب، وكأن الغرق بمثابة حل للموت فى الحياة الحقيقة على أرض الوطن، انتقلت الجثث من الحياة الميتة التى لا يحركها الأمل إلى الموت الحقيقى. تبدو رحلة المركب الحامل للمأساة وكأنها انتقال من الموت المجازى إلى الموت الفعلى، وهو ما أدى إلى انفراط قلوب الكثيرين بمن فيهم أهالى وأسر الغارقين. الموت يبدو محلقًا فى حياة عديد من الهاربين عبر مراكب الموت عبر المتوسط، بعضهم من المصريين والسوريين والعرب وبعضهم الآخر قادم من أفريقيا جنوب الصحراء هربًا من جحيم الحياة عند الحافة وما بعدها. إن مأساة القارب المصرى الغارق وما يحمله من فشل وعجز وتفاقم الأزمات، فوق ما تحمله من دراما الحياة المصرية الراهنة، إلا أنها اجتماعية شعبية، ناهيك بانتهاكات للحريات العامة، لا سيما حريات الرأى والتعبير والحريات الدينية، والاعتداءات الدامية على بعض الأقليات الدينية كالمسيحيين والأزيديين وغيرهم فى المشرق العربى فى سوريا والعراق، أو العنف الدامى وممارساته الوحشية على أيدى الجماعات الإسلامية الراديكالية والإرهابية كداعش والنصرة وبوكو حرام ونظائرهم وأشباههم. المأساة الإرهابية فى المنطقة العربية، وفى بعض البلدان الأفريقية جنوب الصحراء. ظاهرة الهجرة القسرية كنتاج للحروب الأهلية، التى أصبحت أحد أخطر الأزمات الدولية الكبرى، ومعها موجات قوارب ومراكب الموت المعلن للهجرة غير الشرعية على اختلاف أسبابها ودوافعها الشخصية والجماعية والموضوعية. إن نظرة على الأرقام المتداولة تشير إلى تفاقمها، وذلك على النحو التالى. 1- الإحصائيات المتاحة تذهب إلى أن مليونًا و8616 شخصًا نزحوا إلى أوروبا عام 2015، حيث غرق منهم 3771 شخصًا على الأقل. وتذهب منظمة الهجرة الدولية إلى أن 3700 مهاجر غير شرعى غرقوا فى المتوسط، وترجح المنظمة وصول مليون مهاجر غير شرعى العام الجارى إلى أوروبا، وأن نحو 100 ألف مهاجر وصلوا إلى القارة عبر البحر المتوسط منذ يناير الماضى. 2- تشير الإحصائيات أيضًا إلى أن البلدان المصدرة للمهاجرين فى عام 2015 إلى سوريا بنسبة تصل إلى نحو 49% من مجمل النازحين، و21% من أفغانستان، و9% من العراقيين. 3- 25% من مجمل النازحين من البلدان المختلفة، أطفال دون سن الثامنة عشرة سنة. الأرقام سابقة الذكر تشير إلى حجم المشكلة التى أصبحت جزءًا من الحياة الدولية الراهنة، وتشكل جزءًا من الدراما الإنسانية وتفاقمها على عديد الصعد حيث عالم من المخاطر المحدقة بالشرط الإنسانى. بعض جوانبها يتمثل فى قسرية النزوح بسبب العنف والحروب الأهلية، وبعض هذه الهجرة يتمثل فى هؤلاء المسحوقين الذين يهربون من واقعهم الاجتماعى المؤلم والقاسى الذى يدفع بهم، وأسرهم للاستدانة من أجل دفع مبالغ تصل إلى أكثر من ثلاثين أو فى بعض التقديرات إلى خمسين ألف جنيه مصرى -كما قيل فى واقعة غرق قارب الصيد المصرى فى المتوسط- من أجل إنقاذ حياتهم وأسرهم، إذ تمكنوا من الوصول أحياء إلى شمال المتوسط لا سيما إيطاليا. إن واقعة غرق قارب الصيد المصرى تشير إلى أنها تعبير عن عجز وفشل جماعى للدولة والمجتمع معًا، ومحاولة التركيز فقط على بُعد واحد لها ونسيان البُعد الآخر، هو تعبير عن خلل فى الرؤية والتقليل والتفسير للمشكلة ما وراء كارثة غرق المركب غير المؤهل من الناحية الفنية لحملُ أعداد ضخمة من الركاب تتجاوز سعته وإمكانياته وقدراته الفنية لكى يمخُر بهم عباب المتوسط وتياراته المتلاطمة والمميتة، لينقل هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين من جنوب المتوسط إلى شماله الأوروبى عند المياه الإقليمية والحدود الإيطالية! سفر معلق على الموت، وذلك لغياب غالب شروط السلامة للمركب وللركاب، وهول مأساة الغرق الأليم والدامى الذى تجلى فى مشاهد الموت المعلن الذى يحيط بالقارب، وحجم وكثافة الخوف الساكن فى قلوب ووجوه وملامح وأعصاب وسيكلوجية الرعب التى خايلت وعاش داخلها المهاجرين الباحثين عن ملمح للأمل فى حياة أفضل، وعن الكرامة. لحظات الغرق المفعمة بالخوف والرعب والألم والصراخ والحد الفاصل بين لحظات الحياة الأخيرة، واستعادة ذاكرة المسافرين إلى الموت لشرائط حياتهم وبؤسها وبعض لحظات السعادة أو الفرح الشحيحة التى مرت بهم، لحظة كثافة مشحونة بأقصى مستويات الألم والرعب والخوف فى الذهاب إلى الموت غرقًا. أى ألم هذا وأى رعب وأى خوف؟! إن وراء هذه الدراما الإنسانية والاجتماعية عديد الأسباب التى يمكن لنا رصد بعضها فيما يلى: 1- ضعف الإحساس بالأمل فى حياة أفضل، وتغيير وحراك اجتماعى يسمح لهم ببث الأمل فى المستقبل فى داخل عالمهم المختنق بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية فى قرى ومدن ريفية متخمة بالمشكلات اليومية، وغياب الخدمات الأساسية، وضعف ومحدودية فرص العمل فى ظل ارتفاع نسب البطالة، للمتعلمين تعليمًا متوسطًا أو جامعيًا. 2- رغبة بعض المهاجرين المصريين فى الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا وبعض الدول الأوروبية، تقليدًا لبعض من هاجروا من قراهم، واستطاعوا بعد سنوات تغيير نمط حياة أسرهم، من بناء منازل جديدة وقيام بعضهم باستثمار مدخراتهم فى بعض المشروعات التجارية الصغيرة. 3- هجرة الأطفال فى قوارب الموت، يعطى للناجين منهم فرص الإقامة والتعليم والرعاية الصحية، وهى أقوال يرددها بعض من هاجروا إلى الضفة الشمالية للمتوسط. إن بعض الأسر تجمع بعض مدخراتها أو تستدين مبلغا يتراوح ما بين ثلاثين وخمسين ألف جنيه، لتقديمها إتاوة إلى مهربى المهاجرين غير الشرعيين سعيًا وراء مستقبل غامض معلق بين احتمالات التحقق، وبين الموت الجاثم فى أفق الطريق من جنوب المتوسط إلى شماله. ثمة مسئولية -أيًا كانت التبريرات- تكمن وراء هذه القرارات الشخصية أو الأسرية الخطيرة والحادة والمحملة حول ثنائية الأمل والموت الحدية، وهذه المسئولية قائمة سواء أكان وراءها الأمل، فى حياة أفضل، أو عبث الحياة عند حدود الفاقة وعسر الحياة. من ناحية أخرى مسئولية الدولة قائمة عن تفاقم المشكلات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وبيئة اللا أمل المترعة باليأس والقنوط. هناك غياب أو ضعف الرقابة على قوارب الهجرة اللاشرعية، والعاملين فى شبكاتها وأشكال الفساد فيما وراءها. فى حادثة غرق مركب رشيد بدى أن هناك غياب لحس التحرك السريع لإنقاذ بعض المهاجرين من ركاب مركب الصيد، أو فى نقل الغرقى وأجسادهم من البحر إلى الشاطئ، وقيام الصيادين ومراكبهم فى نقل الأجساد الغريقة فى المتوسط. من ناحية أخرى برز مجددًا بطء رد فعل الحكومة وأجهزة الدولة فى التعامل مع كارثة غرق العدد الكبير من الشباب والأطفال، وهو سلوك بيروقراطى لا سياسى، ويفتقر إلى الحس والعقل السياسى، من خلال المبادرة السريعة للتعامل مع الكارثة الإنسانية، والجوانب المختلفة لها. من هنا يبدو أن التركيز على أحد أبعاد الأزمة دون أبعادها الأخرى، لن يؤدى إلى إمكانية تأصيل التفكير العلمى والسياسى والموضوعى فى التعامل مع تفجر الأزمات وتمددها، والمشكلات المعقدة التى تتأبى على التبسيط أو خطاب الشعارات، واللغة الساخرة على واقع سياسى واجتماعى مأزوم ومعقد للتداخل بين الفشل الدولتى، والفشل المجتمعى الذى لا يكفى لرفع المسئولية عن "المواطنين" المصريين، ومستويات التدهور فى القيم لا سيما قيم العمل والكفاءة والمسئولية والمبادرة والفعالية، التى أصبحت جزءًا من مشاهد الحياة اليومية فى إطار بيروقراطية جهاز الدولة، أو حتى فى بعض أطر العمل الخاص. فشل مُركَّب يقود من أزمة لأخرى ومن غرق مركب صيد تعمل فى مجال الهجرة اللا مشروعة إلى شمال المتوسط، إلى احتمالات غرق قوارب أخرى، واستمرار دراما إنسانية مؤلمة ودامية رحم الله الجميع.