غالب: يا أبا الحسن إنهم عهدوا إلىَّ بعلامات جعلوها بينى وبينهم آخذ حجرا من الحجارة وأنقر جدران الحصن ثلاث نقرات فإذا سمعوها علموا أنى صاحبهم الإمام علىَّ ينتحل صفة غالب الكافر ويرتدى ملابسه تردد فى الحلقات السابقة أن الهضام خرج من حصنه على رأس جيش جرار تعداده مئة ألف فارس من الأبطال الشداد، هذا بخلاف العبيد والأهالى الذين يصحبون الجيش، وذكر أنه أرسل أحد رجاله برسالة إلى الإمام على بن أبى طالب خيّره فيها بين الدخول فى طاعته أو أن يقتله أو يمسحه من الوجود، الهضام أطلق على الإمام فى الرسالة الحدث العصفور والطفل المغرور، قال فى الرسالة: «اسمك اللهم من صاحب الدار والقرار ملك الملوك المذل لهيبته كل سيد وصعلوك الهضام بن عون بن غانم الباهلى الملقب بمرارة الموت، إلى الحدث العصفور والطفل المغرور على ابن أبى طالب، أما بعد.. فإن الذى فعلته ووصلت إليه وأدركته فبقاء المنيع عليك وإحسانه إليك فلا تغتر بفعلك، وإلا زحفت عليك بأسود زائرة وأبطال للحرب متبادرة فيتركونك كشىء كان ولا بان، وإن أنت اطلعت وأتيت مع حامل هذا أبقينا عليك وأحسنا إليك فانظر لنفسك وتدبر أمرك وقد أعذر من أنذر». الأمام على تجاهل الرد عليها بعنف وانصرف إلى محاولة اقتحام الحصن الأسود الذى يتملكه مساور السماك الباهلى، وخلال محاولته هذه وصلت طليعة الجيش الجرار، وكانت بقيادة غمام شقيق الملك الهضام، وعم ناقد ابن الهضام الذى أصبح زراع الإمام على اليمنى، وقد اشتبك ناقد مع عمه وانتهت المعركة بفرار عمه هو ومساور الباهلى إلى الحصن تركا ما يقرب من سبعة آلاف فارس يحاربون دون قائد، والملفت فى هذه المعركة أن معظمها كان يدور حول راية الهضام، العلم الكبير المرصع باللؤلؤ الذى كان محمولا، حيث صمم الإمام على بن أبى طالب أن ينتزعه منهم، ويضمه إلى المسلمين، وبالفعل نجحت محاولته وحصل على العلم، وهو ما أوقع الحسرة فى قلوب المشركين، أو كما ذكر الراوى: فلما أخذ العلم من المشركين تحسّرت قلوبهم وانقهروا قهرا عظيما حتى كادوا أن يتفرقوا من شدة غيظهم، ثم أقبل الإمام على أصحابه وقال لهم: يا قوم إن هذا اليوم قد ولّى بضيائه وأقبل الليل بظلامه فاحملوا بنا على القوم حملة رجل واحد، فإنا لا نأمن من أن القوم عندما ينسدل (يرخى: ينزل) الظلام يذهبون إلى الحصن يتحصنون فيه فيعظم علينا الأمر، فركب القوم خيلهم وأنشدوا بأسلحتهم إلى أن صاروا كالأسود الضارية، وقد اشتد عزمهم بأخذهم العلم ونصرهم عليهم، فعند ذلك قال لهم الإمام: احملوا عليهم بارك الله فيكم وعليكم، فحمل الإمام وحمل القوم فى أثره فلم يكن إلا كلمح والبصر، وقد انهزم المشركون فولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار فأخذهم السيف من جميع الجهات والأقطار فتفرقوا يمينا وشمالا، وقد عمد غمام ومساور إلى الحصن ومعهما فئة قليلة من قومهما، والإمام فى أثرهم يحصد فيهم إلى أن أيقنوا بالهلاك فدخلوا الحصن وهم لا يقصدون بالدخول، فغلقوا الباب وتركوا أصحابهم من خارج الحصن، وكان الحصن الأسود لا تعمل فيه المعاويل (المعول: الفأس)، فلما أوثقوا الحصن بالترابيس رجع الإمام إلى من كان بخارج الحصن ومكّن السيف فيهم فقتلهم عن آخرهم، وتفرق المسلمون إلى وراء المنهزمين وصار كل من لقوه قتلوه واخذوا سيفه وفرسه، ثم أتى المسلمون الإمام فوجدوه قد أفنى من كان قصد باب الحصن عن آخرهم، فأقبلوا من كل الجهات واتوا إلى مكان المعركة وأخذوا جميع ما كان على المشركين، وقرنوا الخيل بالخيل وحملوا عددهم على الرواحل، وقد أقر الله أعين المسلمين بقتل ملكهم وعدوهم وأخذوا الغنيمة ودفعوها إلى الحصن المشرق وارتدوا سالمين، ثم نزل الإمام متباعدا عن الحصن المشرك فجعل يفكر فى حيلة يملك الحصن قبل وصول الجيش إليه، وقد قدم الإمام وأمر أصحابه جميعا بالسهر وترك المنام، فإن هذه الليلة أعظم مما تقدم لكم من الليالى لأننا قريبون من جيش الملك ولا نأمن أن يهجم علينا هذان الفاجران اللذان فى هذا الحصن ومن معهما ويدهموننا فى ظلام الليل، وإذا هجم عليكم النوم فليحرس كل منكم الآخر حين ينام وها أنا أطوف عليكم، وجعل الإمام رضى الله عنه يطوف بأصحابه وقد مضى من الليل نصفه. فبينما هو شاخص وإذا هو بشخص قد لاح على بعد وهو يظهر تارة ويختفى تارة فتأمله الإمام رضى الله عنه فلما تحققه الإمام أمسكه وقال: أخبرنى ما اسمك؟، قال: يا ابن عم الكرام إلى الأمان إذا قلت؟، قال: نعم وحق ابن عمى إن أصدقتنى فلك الأمان، فقال الرجل: يا أبا الحسن إن غماما أخا الملك لما هرب ودخل الحصن الزمنى أن اكشف له خبر جرجس أخيه بذلك كرها لك، وها أنا بين يديك فإن مننت فطالما أحسنت، وإن هلكت فما أنا متعرض لك فى ما فعلت، فعند ذلك تبسم الإمام من قوله وفرح فرحا شديدا وقال له: من أين نزلت أم من الباب خرجت؟، فقال الرجل: لا وحياتك يا مولاى إنهم من حين دخلوا الحصن هربا منك وأوثقوه بالأقفال والترابيس وما جسروا أن يفتحوه خوفا منك، وإنما أوثقونى بالحبال وأرسلونى من أعلى الحصن، فلما سمع الإمام ذلك قال: وكيف تصنع حين يرفعوك إليهم إذا رجعت؟، فقال: يا أبا الحسن أنهم عهدوا إلى بعلامات جعلوها بينى وبينهم آخذ حجرا من الحجارة وأنقر جدران الحصن ثلاث نقرات فإذا سمعوها علموا أنى صاحبهم فيرسلوا إلى الحبال فأوثق بها نفسى، ويبقى بينى وبينهم علامة أخرى وهى أنى أجرّ الحبال ثلاث مرات على الحائط فيرفعونى إليهم، فقال الإمام لما سمع ذلك: الله أكبر نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين، ثم التفت إليه وقال: ما اسمك يا هذا؟، قال: اسمى غالب، فقال الإمام: قم يا غالب وانزع ثيابك، فقال له: وما تريد بثيابى؟، فقال الإمام أرى فيها رأيا، فعند ذلك نزع غالب ثيابه وهو يظن أن الإمام يقطع رأسه وقال له: بحق ابن عمك لا تقتلنى، فقال له الإمام: يا غالب لك الأمان ولأهلك وأولادك فطيب خاطرك وقر عينك فلا ينالك منى إلا الخير. فلما سمع غالب ذلك طابت نفسه وناوله ثيابه وكانت قديمة ونزع عمامته وناوله إياها، فأخذها الإمام ولبسها وتقلّد بسيفه من تحت إطماره (ملابسه) وأقبل على أصحابه وسلّم وأمر عليهم ناقد وجنبل والرغداء وخالد، وأوصاهم بحقل العسكر وجميع ما معهم ثم قال لهم: يا قوم كونوا على خيولكم وتقربوا إلى الحصن فإذا سمعتم نداء فأتونى مسرعين، ولتكن منكم جماعة ينظرون صوب الطريق فإذا أشرف عليكم جيش ووصل إليكم فاعتنوا بالتهليل والتكبير، فإنى أسرع إليكم إن شاء الله تعالى، ثم صار إلى جهة الحصن والقوم يتعجبون مما عزم عليه، فقال غالب يا أمير المؤمنين: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فسرّ الإمام لذلك سرورا عظيما، ثم سار الإمام وهو غير مكترث إلى أن وصل الحصن، وكان غالب قد وصف له الموضع الذى نزل منه هذا وأهل الحصن منتظرين من خبره، فبينما هم كذلك إذ لاح لهم خيال الإمام وهو مقبل فظنوه صاحبهم، وغمام ومساور واقفان على أقدامهما ينتظران قدوم غالب وما يكون من خبره، فقال مساور: يا غمام قد جاء رسولك أرجو أن يكون جاء بسرورك، وما زال الإمام سائرا إلى أن جاء إلى الحصن، فأخذ حجرا ونقر به جدران الحصن ثلاث نقرات متواليات، فلما سمع القوم نقر الحصن أيقنوا أنه غالب فأرسلوا له حبلا من ليف النخل، فأخذه الإمام وشد به وسطه وهو يفكر كيف يطيقون حمله وخشى أن ينكروه لثقله، فلما مكن الإمام نفسه بالحبل صبر وحمد الله وحرك نفسه بالحبل ثلاث مرات فأيقنوا أنه صاحبهم غالب فجروه، فلم يستطيعوا أن يحركوه فقالوا: هذا ثقيل علينا أثقل من المرة الأولى فقال لهم مساور: لا شك أنه كسب من مكان الواقعة وحمل نفسه من الأسلحة والدروع، فأرسلوا إليه حبلا آخر وأجمعوا عليه الرجال وقالوا: طلعوه من قبل أن يسمع بنا على بن أبى طالب فيأتى إلينا فلا حاجة لنا به، وأرسلوا إليه حبلا ثانيا فخف نفسه معهم فهان عليهم. وما زالوا كذلك إلى أن وصل إليهم وهو مطرق رأسه حتى لا ينظرون وجهه فيعرفوه، وما زالوا كذلك إلى أن وصل إلى أعلى الحصن ووقف على رجليه، فتقدم إليه مساور وقال: ما أبطأك؟، وما كان من أمرك وخبرك يا غالب؟، فرفع الإمام رأسه إليه وقال: يا ويلك يا مساور بل أنا على بن أبى طالب، فلما سمع القوم ذكر على التجموا عن الكلام ونظر بعضهم إلى بعض من أعلى الحصن، فتقدم الإمام إلى مساور السفاك ورفعه بين يديه وألقى به من أعلى الحصن على رأسه فهوى إلى الأرض فتهشم عظمه فى لحمه، فلم ينطق ولا يتحرك فى مكانه وعجل الله روحه إلى النار، ثم التفت الإمام إلى غمام وجرد سيفه وقد وقف من دونه الرجال، فصرخ فيهم صرخته المعروفة عنه ففرقتهم يمينا وشمالا، وتقدم الإمام إلى غمام وهمّ أن يعلوه بالسيف فقال: يا ابن عم رسول الله كرهت أن أموت تحت السيف والآن فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال له الإمام: يا غمام لقد أفلحت ونجحت وعمم الله بك السرور، وفرح الإمام بإسلامه فرحا شديدا، ثم إن غمام لصق جنبه إلى جنب الإمام وصارا يضربان بالسيف فى أهل الحصن إلى أن قالوا بأجمعهم: نحن نشهد أن لا إله إلا الله، ففرح الإمام بإسلامهم فرحا شديدا، ثم انحدر إلى أسفل الحصن ليفتح الباب، فلما فتح باب الحصن كان أول من لقيه من أصحابه الرغداء بنت الخطاف وسيفها شهرته فى يدها فرأت غماما إلى جانب الإمام فقالت: يا سيدى ما أبقاك على غمام وهو رأس القوم؟، فقال لها: يارغداء إنه قد أصبح أخا لك فى الدين وصار من جماعة المسلمين، فلما سمعت ذلك تقدمت الرغداء إلى غمام وقبّلت رأسه وقالت له: زادك الله فخرا على فخرك وعزا على عزك، ثم أقبل ناقد ابن الملك، فلما نظر إلى عمه غماما وهو واقف بإزاء أمير المؤمنين قال: يا أمير المؤمنين هل باقٍ على كفره وغيه أو لا؟، فقال له: يا ناقد قبل رأس عمك فإنه صار شريكك فى الدين، فأقبل ناقد على عمه وقبل رأسه وصافحه مصافحة الإسلام وفرح به فرحا شديدا، ثم إن الإمام أمر الناس أن يجمعوا الأسلاب فجمعوها ووضعوها بين يديه، فأخذ الأموال والأمتعة ووضعها فى دار عدو الله مساور وختم عليها، وأخذ جميع الخيول والمواشى وحصنهم فى الحصن وجعل فيه أقواما مسلمين يحرسونه وأمر عليهم من يحفظه وأقام الإمام ينتظر ما يكون من أمر الله عز وجل. (قال الراوى) وكان الملك هضام حين أرسل أخاه غماما ومعه السبعة آلاف المتقدم ذكرهم، أوصاهم أن يقدموا بعلى بن أبى طالب إلى بين يديه، وجهز أخاه علقمة فى سبعة آلاف أخرى، وأمره أن يسير فى الوادى حتى يأتى إلى ابن بن أبى طالب من خلفه، فهذا ما كان من أمر غمام وقد هداه الله إلى الإسلام، وهذا ما كان من أمر علقمة فقد أخفى الله أمره وبطء غمام خبره، وقد من الله على الإمام بفتح الحصن وقتل صاحبه مساور وإسلام جميع قومه، ثم بعث الإمام رجلا من قومه وقال له: اكشف لنا الطريق عن عدو الله الهضام وانظر ما يظهر لك وعد إلىّ بالخبر راجعا بلا تعويق، وبعث رجلا آخر وقصد كل واحد ناحيته كما أمره الإمام، وأمر جنبل أن يذهب بالأسلاب إلى الحصن المشرف ويأخذ معه مئة عبد فصار كما أمره الإمام، ولم يزلوا كذلك على ما أمرهم الإمام إلى أن ولى نصف النهار وقد أبطأ على الإمام خبر الفارسين والطليعة فقلق الإمام من ذلك قلقا شديدا، وكان علقم لما خرج إلى حرب الإمام حاد عن الطريق وسلك طريقا آخر لأجل أن يقطع خط الرجعة على الإمام فتقابل مع جنبل وأراد أن يأخذ عنه الأسلاب والأموال، فبرز إليه فارس وصار ينادى: يا ويلك ألق حسامك وقف مكانك، فقصر جنبل حتى كاد عدو الله أن يصل إليه، فعطف عليه جنبل كأنه شعلة نار وضربه بالسيف إلى صدره ولم يزل حتى وصل إلى السرج، فتجندل عدو الله إلى الأرض صريعا يخور فى دمه وعجل الله بروحه إلى النار، وأخذ جنبل جواده ودفعه إلى رجل من أصحابه ثم وقف وهز سيفه وقال: ويلكم يا أعداء الله فأنا رفيق ولى الله أبى الحسن.