"لو عاوز تعرف الكلام اللي باكتبه وانا ماشي .. لازم تمشي معايا .. كل الناس اللي في الشوارع دي حكايات وقصايد .. وكل البيوت المرصوصة دي.. بني آدمين .. وسنين" لا يبدأ الديوان بتلك السطور؛ يبدأ الحرية من الشهداء بقصيدة "راجعين" التي كتبت ليلة جمعة الغضب، تحديداً في 27 يناير 2011، ولا تدري إن كان الشاعر يستحث الناس بها على النهوض ويطمئن نفسه قبلهم أم يستشرف الغد أم الاثنين معاً. ولا يبدأ الديوان بتلك القصيدة كذلك، بل يبدأ بعتبة النص- غلاف جميل في بساطته لوليد طاهر كتب عليه اسم الشاعر أمين حدّاد وعنوان الديوان بخط أبيض على خلفية من ظلال الأزرق تتداخل معه لمحة خفيفة من الأخضر كما لو كان طاقة نور خفية تمتد من الشهيد الذي تسبح روحه في سماء الغلاف وينعكس ظله في باطن الأرض. وما بين هذا وذاك، أم شهيد تحمل داخلها طفلاً ينتظر الخروج إلى العالم إلى جانب اثنين آخرين حولها. تنظر إليهم فيلفك مزيج من الحزن والإصرار على التحدي في الوقت نفسه. تنظر ثانية فترى أطرا أو شبابيك ينفتح أحدها على مركب شراعي وبناء صغير تحار إن كان بيتاً أم جامعاً أم كنيسة أم الثلاثة معاً، وعيون تنتشر هنا وهناك، عيون في السماء وعيون تطل من شباك آخر وعيون تبدو وكأنها لظل شجرة إلى يمين المشهد.. شبابيك مفتوحة على البني آدمين وحكاياتهم التي تكتب التاريخ قبل القصائد. تأخذك الكلمات "من الوطن للجنة" حيث يتشابه عنوان القصيدة مع محتواها فترى الوطن بعراقته وكفاحه المتمثل في تمثال طه حسين وكوبري الجامعة وشارع 26 يوليه والطوب والدموع والدم والأشباح السودا من ناحية، والجنة المتمثلة في "صباح الأودة الطيب" و"الشجر والنسيم والماء والسمك، والبحر يقول للشعب ما أوسمك، ويغنى معاهم لسيد درويش أغنية" من ناحية أخرى. ختام القصيدة ب"ولا تحسبن..." يطمئنك ليس فقط على الشهيد، ولكن على توجهات الشاعر الذي لن يخلف ظنك ويميل بك ولو للحظة ناحية اليأس الذي يعده خيانة لمن تسبح أرواحهم في السماء وتحملنا مسؤولية الحرية. يحكي لك الحكاية دون التركيز على تفاصيل البداية أو النهاية، ولكنه يصور المشهد حتى تعرف كيف تتحول "الأساطير حقيقة" وكأنها جزء من الجنة في القصيدة التي سبقتها، فتبدأ في التعرف على الإيقاع كما عرفه الشاعر: "ومتى عرفت الإيقاع؟ حين عرفت أن الشهيد يسكن الجنة." هي نفسها الجنة التي تطل عليك بشجر الكافور ورائحة الياسمين والنخل الذي "يتلو ما تيسر من الآيات" فتتداخل الجنة مرة أخرى بأصواتها ورائحتها وألوانها مع الوطن برائحة الغاز وصوت انفجاره ولون الدم الذي "يخضب الشهداء" في ميادين التحرير التي تؤدي كلها إلى الوطن بطريق أو بآخر. يقرأ التاريخ ويعرضه كما يجب أن يكون فيحكي ما أغفله الرواة عمدا أو سهوا. يقدم الجانب الآخر للحكاية كما يعيشها الشعب لا كما يريدها الحكام ليرد على من يحاول تزويرها أو تحييد وقائعها، يحكي عن الثورة وعن" دم الشهدا شمس المغرب"في قصيدة "الحرية من الشهداء" وعن شهدا يغنوا وشهدا يطيروا .. شهدا اعتصموا وشهدا شهود .. شهدا بييجوا من ماسبيرو .. ويزوروا محمد محمود يحكي عن الحياة التي "تحلوّ كل ما تقرب من النهايات" في "بهجة البدايات" ويحكي عن الشعب الثائر المتهم "على ذمة التحقيق" وعن رفضه من خلال "سبع لاءات" " للي سلق/ واللي سرق/ واللي حرق" واللي "بكا/ ثم اشتكا/ ثم تعب/ ثم هرب/ واحنا في وسط المعركة" واللي "يحط الحلم في مجال الخطر/ الثورة هي المبتدأ/ ولسة ماوصلش الخبر". قصيدتان كطلقة الرصاص قصيرة في ظاهرها ولكن بعيدة المدى وأثرها لا جدال فيه. هناك قصائد أخرى تكمن حلاوتها في النوستالجيا التي تجعلك تتخيل شكل الشوارع التي مشي فيها الشاعر مع نهلة وسلمى وأمينة وفاطمة والجرافيتي حين يمر عليه الولد الذي يحضن حبيبته من البرد قائلاً "أنا حادفا لو انتي دفيتي". قصيدة "الشباك" مثلاً تدفعك إلى النظر منه حتى تدخل في قلب القصيدة.. في قلب مصر التي ترسمها الحروف في كل تفصيلة في اللون والصوت والحركة والإحساس؛ بمعنى آخر"ممكن توصف مصر من غير ماتجيب لنا سيرة مصر"، وطبعا "الناس تعيد القصيدة... وتعيد الشهادة" كما في قصيدة "باب السكة"- الشهداء ينطقون الشهادة قبل الارتقاء إلى حياة أجمل والشهود يحكون شهادتهم عن الحياة كما عاشوها وكما حكت عنها القصيدة. هنا تصبح القصائد شهادة للتاريخ وشهادة عليه، والشعر فيها دائرة لا تنتهي.. دنيا لا تكف عن الدوران. "باب السكة" تشعر وأنت تقرأها أن كاتبها حكيم لكل زمان يفتح باباً افتراضيا على سكة حياة بحلوها ومرها وكلامها 'بيطبطب‘ عليك- نغم حروفها حنون يبعث على سكينة غريبة ربما مصدرها التفاصيل المتخيلة لحياة أشخاص على قيد الحياة وقيد النضال وآخرين على قيد الغياب ولكن حضورهم أقوى من الموت، يسكنون القصيدة محتمين بمن يقرأها ومن يكتبها وكاتبها ومن يقرأهل بدورهم يحتمون بهم، يرمون عليهم "كلام تايه" فيردونه نغم .. يعني موت وحياة تتحول القصيدة بهما إلى دنيا ودين وليس فقط "عبادة" و"عمل طيب". هناك قصائد تخطف الروح من "على هامش الحياة" لتعيدها إلى المتن الذي لا يخلو من الأمل برغم الألم: "شفت المكتبة فيها كام ألف كتاب.. ماقريتهمش.. واخد بالك إني بانضف نضارتي.. ومابتنضفش... والأحلام والكوابيس اللي أنا باحلمها وبانساها ومابتخلصش... اوعى تقوللي كمان ان الثورة ماجاتش.. أيوه أنا عايز أعيط بس بشرط.. الثورة ماتعيطش." وهناك صور يكاد ينخلع معها القلب كصورة مينا "وهو مستقر على الأسفلت في الدم عايم.. لا يا حبيبي ده كان نايم." "والبنت ام نضارة اللي لامة شعرها وبتنشز قطعت قلبي" وقلب من قرأ المشهد وتخيله. هذا إلى جانب ولاد 'الحلال‘ اللي "بيتهمونا في شهيد هم اللي قاتلينه" وإحساس الفرح الموجع الذي يظهر في تساؤل بلاغي "ازاي شهدا يبقوا حزانى". سطور يتداخل فيها صوت الشاعر مع كل حاضر غائب.. مونولوجات وحوارات مع أب "مش مرتاح في رقدته" وصورة شهيد ينتقل معه النور الأخضر من قلب الملعب أو الميدان إلى قلب النعش، فتتداخل الدنيا مع الدين مرة أخرى، و ترتبط الحياة بالموت الذي يزيد من جلاله منظر الشهداء على الشاشة وهو "بيخلص حبات السبحة" ولهفة الأم "بتصرخ وبتجري ما بين البستان وما بين طلعت حرب/ عايزة ابنها يشرب حبة مية.. ليموت عطشان." الديوان عبارة عن "كلمة في كلمة" وحكمة تعكس الأمثال التي اعتدنا على ترديدها دون تدقيق أنا باتكلم فى الفاضى وفى المليان وباقول بالفم المليان الدنيا ماهيش فانية لإن الآخرة قايمة عليها ويا روح .. بعدك روح أولادى و روح أحفادى يلخص بعبقرية معنى الكلمات في "كلمة تردّ الباب/ وكلمة تردّ الروح" فيرسم بشعره لوحات من الحياة الأولى ولمحات من الحياة الآخرة وليس مجرد قصائد تمر عليها بقراءة عابرة. ديوان أمين حدّاد شعر في حضرة الشهداء تقرأه فتعرف أن "النور حييجي أكيد".