(1) «لن أُومِن بأبيكِ ولا برسالته». قالها الزوج وانصرف. أما أنها أسلمت وهو غائب مع تجارته في الشام فقد فعلت، وهي تثق أنه لو كان موجودا لسبقها إلى الإسلام. أما أنه لم يفعل بعد عودته، على الرغم من أن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاه إلى الإسلام، فقد خاف على صورته أمام الناس، خاف أن يقولوا إنه هجر دين آبائه لإرضاء زوجته. بَكَتْ زينب كما لم تبكِ من قبل، وانتفضت لَمَّا جاءتها الأخبار تقول إن قُرَيشًا تضغط على أزواج بنات محمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليطلِّقوهُنّ، وإن عتبة وعُتَيْبة زوجَي رُقَيَّة وأُمّ كُلْثوم استجابا للضغوط. وقف أبو العاص بن الربيع زوجها أمام الكعبة يتذكَّر الحُبّ الذي كان يكبر منذ الطفولة مع كل زيارة لبيت خالته خديجة (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا)، زينب الطفلة التي كانت كعبته كلَّما رجع من السفر مع تجارته محمَّلًا بالشوق والحنين إلى ابتسامتها العذبة، تَذكَّر كيف غار منه شباب قُرَيش عندما قبل به سيدنا النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجًا لزينب، وكيف أن قُرَيشا انشغلت بمعاتبة النَّبيّ لفترة لإيمانهم أن ابن العمِّ أَوْلَى من ابن الخالة. تَذكَّر أمامةَ طفلتَهما، بقمصانها القصيرة الملوَّنة المبهجة. مرَّت الصور أمام عينيه سريعًا، واختار هذه المرة أن لا يجامل قُرَيشا في دعوتها لمفارقة بنات النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان مشوَّشًا في ما يتعلق بدينه، أمَّا بخصوص دنياه فقد قالها صريحة: «لا والله لا أفارق صاحبتي ولا يعوضني عنها أن لي أفضل امرأة من قُرَيش». (3) بدأت بشائر حرب بدر بين المسلمين المستقرِّين في المدينة وأهل قُرَيش. بدأها المسلمون عندما أرادوا أن يستردُّوا أموالهم التي سلبَتها قُرَيش منهم فهاجموا قافلة في طريقها من الشام إلى مكَّة، وعندما وصل الخبر إلى مكَّةَ كان الغضب مستعِرًا. أعدَّت قُرَيش جيشًا مُخِيفًا. انتبهت زينب التي تركها أهلها في مكَّة -ولم يكُن النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قد فرَّقها عن زوجها بعد- على أصوات الجنود، ونظرت إلى ابنتها أمامةَ فتَذكَّرَت جيش المسلمين يقوده والدها، وجيش الكفار يقوده زوجها، فقالت لها: «لن تطلع علينا الشمس يا ابنتي في مثل يومنا هذا إلا وإحدانا يتيمة». (4) فرِحَت عندما دخلت عليها عمَّتها عاتكة تخبرها بانتصار أبيها في الحرب، لكن.. - لكن؟ ما الخبر يا عمَّتاه؟ «لم يُقتل زوجك لكنه أسير».. قالت عمتها. كانت النتيجة مُرضِيَة لها، فالأب منتصر، أمَّا عودة الزوج فهي أمر تعرف تمامًا كيف ستتعامل معه. لم يكُن آل أبي العاص ينقصهم المال ليفتدوا به ابنهم الذي أسره جيش محمَّد في بدر، لكن زينب اختارت أن تفكّ أسر زوجها بطريقتها. جلس شقيق ابن العاص بين يدَي رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قائلًا: «بعثتني زينبُ بهذا فداءً لزوجها»، ثم أخرج صُرَّة ووضعها بين يدي النَّبيّ، فتح سيدنا النَّبيّ الصُّرَّة فوجد قلادة خديجة التي أهداها إياها والتي أهدتها بدورها زينبَ في عرسها، فخفق قلبه وارتعش. وجد ابنته بهذه القلادة تذكِّره بالحب الذي كان بينه وبين خديجة (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا)، وجدها تذكِّره به حتى يتفهَّم السرَّ وراء شفاعة بنت النَّبيّ لواحد من كُفَّار قُرَيش.. كانت تذكِّره بأن ابن العاص زوجٌ وحبيبٌ وابنُ خالةٍ.. كانت تذكِّره أنه ليس من طرف زينب فقط ولكن من طرف خديجة حبيبته أيضًا، أن اعْفُ عن أبي العاص... كان الصمت مؤثِّرًا، سالت دموع أصحاب الرَّسُول وأداروا وجوههم بعيدًا. صمت النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قبل أن يقول لأصحابه: إن رأيتم أن تُطلِقوا لها أسيرها وترُدُّوا عليها مالها فافعلوا. ففعلوا. (5) كان أبو العاص في طريق عودته من الأسر يسأل نفسه لماذا وعد سيدنا محمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يردَّ إليه ابنته فور وصوله إلى مكَّة...؟ هل لينجو بنفسه من الأسر؟ لم تكُن نجاته مرهونة بهذا الشرط، بل جاءت بعد أن عفا عنه النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) والمسلمون. هل لأنه يقدِّر تمامًا محبَّة النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لابنته؟ إن أبا العاص أيضًا يحب طفلته أمامة التي من المؤكَّد أنها سترحل مع أُمِّها. هل لإيمانه بأن زينب لم تعُد تحِلّ له لكونها مسلمة ولكونه مشركًا؟ لكنه لم يقتنع بالإسلام نفسه حتى يقتنع بقواعده. كل ما يعرفه أبو العاص أنه عندما نظر إلى وجه النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يطلب منه أن يَعِدَه بإرسال زينبَ إلى المدينة لم يقوَ على الرفض.. والحقيقة أنه وعد وأوفى. ولكن كيف لزينب (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) أن تخرج من مدينة تعيش حزنًا كبيرًا بسبب والدها الذي انتصر على أهل هذه المدينة؟ كانت هند بنت أبي عتبة قد فقدت أباها وأخاها وعمَّها في بدر، فلم تدَّخِر جهدًا في أن تُلهِب رغبة قُرَيش في الانتقام، لكنها عندما علِمَت باستعداد زينبَ للرحيل ذهبت إليها متعالية على أحزانها، قالت لها: أي ابنة عمِّي، إن كانت لك حاجة بمتاع أو مال يرفق بك في سفرك فلا تتحرجي منِّي. خافت زينبُ من عرض هندَ فأبلغتها أنها لن ترحل وقررت تأجيل الفكرة. بعدها بأيام طلب أبو العاص من شقيقه أن يصحب زوجته وابنتهما إلى المكان الذي اتفق مع النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتسلم فيه مندوبُه (زيد بن حارثة) زينب. في طريقها تَتَبَّعها المشركون الذين قهرهم محمَّد في بدر. كانت زينب (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) حاملًا، لحقها هبار بن الأسود فروَّعها بالرُّمْح ونخس البعير فألقى بصاحبته على صخرة، فطرحت جنينها على أديم الصحراء، وظلت تنزف دمًا حتى وصلت إلى يثرب وهي منهارة، فامتزجت مشاعر الفرح بقدومها بغضب الأب الرَّسُول لابنته. عندما هجم المشركون على زينب انتفضت هندُ بنت عتبةَ وسخِرَت من رجال قُرَيش الذين اعتدوا على امرأة عزلاء.. سألتهم: أين كانت شجاعتكم هذه يوم بدر؟ (6) عاشت زينبُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) في المدينة على أمل أن يهدي الله حبيبها للإسلام . وبعد وقت طويل، وفي ليلة بينما سيدنا النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يؤمّ المسلمين في صلاة الفجر، وقبل أن ينهي صلاته، سمع صوتًا يقول: «أيها الناس، إني أجَرْتُ أبا العاص بنَ الربيع». كان يعرف أنه صوت زينب.. فقال للمصلِّين: «أما والذي نفس محمَّد بيده، ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم»، وصمت ثم قال: «قد أجرنا مَن أجارت». كان أبو العاص يقود قافلة بتجارة قُرَيش إلى الشام، وعند عودته التقته سَرِيَّة من المسلمين فأصابوا كل ما معهم وهرب هو منهم وتَسلَّل حتى وصل إلى خيمة زينب التي ارتدَّت إليها رُوحُها وهي تراه يدخل عليها. لم يعترض النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) على أن تُجِير ابنته أبا العاص، وقالت له: «إن قرُبَ فابنُ عمٍّ، وإن بعُدَ فأبو ولد، وإني قد أجَرْتُه »، فقال: «أكرمي مثواه، ولا يقْرَبْك فإنك لا تحِلِّين له». نظرَت زينب إلى أبي العاص قائلة: «فيمَ هذا العذاب؟». قال: «حتى يقضي اللهُ فينا أمره». قالت: «يرحمنا الله». كانت زينب (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) قد هتفت عندما دخل عليها أبو العاص الخيمة قائلة: «الله أكبر»، فوضع أبو العاص رأسه في الأرض قائلًا: « ا يا زينب، لم آتِ مُسلِمًا»، ثم قصّ عليها نبأ مطاردةِ السَّرِيَّة له. في الصباح قال النَّبيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لصحابته: «إن هذا الرجل من حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالًا، إن تحسنوا وترُدُّوا عليه فأنا أحب ذلك، وإن أبيتم فهو فَيْءُ الله وأنتم أحَقُّ به». فرَدُّوا عليه أموال قُرَيش. (7) أمام الكعبة وقف أبو العاص يوزِّع أموال التجارة الرابحة على أصحابها... وبعد أن فرغ قال: «يا معشر قُرَيش، هل بقي لأحد منك عندي مال لم يأخذه؟». قالوا: «لا، جزاك الله خيرًا، فقد وجدناك وفيًّا كريمًا». فنظر إليهم ورفع صوته قائلًا: «إذًا فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله». (8) عاش أبو العاص مع زينب عامًا بعد أن زوَّجه النَّبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إياها من جديد. كان أبو العاص كَلِفًا بها، وكان يموت كل ليلة وهو يراها تعاني من عِلَّتِها التي لزمتها منذ سقط جنينها منها على رمل الصحراء.. كانت تُحتضر ببطء يعذِّب زوجها، إلى أن رحلت. (9) يغمض الواحد عينيه فيرى قبل ذلك بسنوات طويلة... كانت أمها السيِّدة خديجة (رَضِيَ اللهُ عَنْهَا) تصارع الموت وهي إلى جوارها.. نظرَت السيِّدة خديجة إليها ورأت رقبتها تزيِّنها القلادة التي أهدتها إياها يوم عُرسِها.. مدَّت السيِّدة خديجة يدها ولمست القلادة قائلة: «أهداني والدك إياها منذ سنين، لكنها تبدو أجمل في عنقك». لم تقوَ يَدُ خديجة أن تظلَّ ممسكة بالقلادة فهَوَت.. وقبل أن تسقط في حِجْر زينب التقطتها وقبَّلَتها.. فانهمرت دموعهما معًا. ............................. مصادر ومراجع: 1- كتاب الطبقات الكبير - محمَّد بن سعد بن منيع الزهري (مكتبة الخانجي - 230 هجرية - طبعة 2001). 2- حياة محمَّد - د.محمَّد حسين هيكل (دار المعارف - 1935 - طبعة 2009). 3- زوجات النَّبيّ وآل البيت - الإمام محمَّد متولى الشعراوي (المكتبة التوفيقية - 2001). 4- الكنز في المسائل الصوفية - الإمام صلاح الدين التجاني (الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2008). 5- بنات النَّبيّ - د.عائشة عبد الرحمن (الهيئة المصرية العامة للكتاب - 2010). 6- صفة الصفوة - ابن الجوزي (مكتبة دار المعرفة - 597 هجرية - طبعة 1985). 7- نساء النَّبيّ سِيَر وقضايا - سعيد هارون عاشور (مكتبة الآداب - مصر - 2006). 8- زينب العروس الهاشمية - إبراهيم محمَّد حسن الجمل (دار الفضيلة - 1997).