من البديهى أن التاريخ يسجل الحقائق حول حياة الشعوب والدول والملوك والأحداث، ولكن حينما يتعرض التاريخ للأماكن الموغلة فى القدم أو المهمشة إذ بالأسطورة تتسرب فى ما أورده التاريخ، فتزيد وتبالغ وتصور ما تعرض له الناس فيها من أحداث، وقد سجل المؤرخون الرحالة على مر العصور فى كتبهم التراثية ما شاهدوه أو رأوه رأى العين، ومن ثم اتصفت كتبهم بالواقعية إلا ما يتدخل فيه اعتقادهم أو ثقافتهم أو فكرهم أو وجهة نظرهم، فإن ذلك كله يوجههم اتجاها أسطوريا، بخاصة فى ما يتعلق بالمدن المتخيلة أو المؤسطرة التى تميّزت تلك المدن الخياليّة بالغرائبية والمسحورة التى تأوى إليها الشياطين والجنّ ربما لتعرض الجماعة الشعبية من خلالها نظرتها إلى المجتمع الإنسانى المعاصر فتعرّض بمفاسده وتفضح نقائصه. الأمر الذى يدعونا إلى الاحتفاء بكتاب «المدن المسحورة» للشاعر والباحث النابه فارس خضر، وبتقديم سميح شعلان، الصادر منذ أيام عن سلسلة «الدراسات الشعبية» التى أسسها شيخ الحكائين العرب خيرى شلبى. فى الكتاب نتلمس أساطير الواحات المسحورة تلك التى نقلها لنا الرحالة والمؤرخون فى سياق حديثهم عن واحات مصر والواحات سواء أكانت هى التى تحدث عنها الجغرافيون والمؤرخون المسلمون تحتل موقعا على خريطة العالم الحقيقية، أو كان موقعها على خريطة من صنع الخيال الإنسانى، فإنها فى الحالتين تحتفظ بقدرتها العالية على الاستجابة للمستويات المختلفة للحلم والواقع، فهى فى أحد وجوهها تعبر عن حلم بمجتمع خيالى يطمح الإنسان إلى فك ألغازه التى تحول عوامل طبيعية دون معرفتها معرفة يقينية، فالواحات تمثل هامش عالم حضارى معروف لذلك تأخذ ملامحها الجغرافية والسيكولوجية من هذين العالمين. هذا هو بعينه ما نلمسه فى رواية المؤرخين فى أثناء حديثهم عن رحلات الذين قصدوا الواحات المصرية بقولهم: «بلاد الواحات كثيرة التمر والنخل وفيها مدن كثيرة مسوَّرة وغير مسوَّرة». المتابع لأساطير المدن المسحورة يجد أنها تُنسَب فى الأغلب إلى مجهول مُبهَم وغير محدد مثل «جماعة من أهل التاريخ»، الذين هم فى الحقيقة رواة التاريخ الشفاهى الفلكلورى، الذين تختلط فى رواياتهم بقايا المعرفة التاريخية الحقيقية ببقايا الأساطير، التى تحولت إلى مأثورات شعبية حيث تشكل هذه المأثورات الفلكلورية فى بعض جوانبها: «الحجرة الخاصة» للتاريخ، وهى الحجرة التى تضع فيها الطبقات الشعبية عواطفها، وتخْزن فيها موروثها التاريخى كما ينبغى أن يكون لا كما كان وتودع فيها تصوراتها ورؤاها وحكمتها العملية، والباحث المدقق فى كتاب فارس خضر عن المدن المسحورة سيجد فيها مزجًا أدبيًّا بين الحقائق التاريخية والمأثورات الشعبية أو أنه بتعبير آخر سيجد صياغة فلكلورية لبعض الحقائق التاريخية القليلة التى وصلت للمؤرخين والرحالة والرواة المحدثين الذين اعتمد عليهم فارس فى دراسته القيمة، وهى صياغة تحاول أن تملأ الفراغات التاريخية بالخيال الأدبى، وهو تقليد عرفه المؤرخون والجغرافيون والعلماء العرب منذ العصور الإسلامية، عندما انفتح أمام العرب عالم العجائب والغرائب والحقائق فى البر والبحر، فى البلدان الحقيقية والبلدان الأسطورية. ويمكن القول بقدر من المعقولية إن معتقدات هذه المدن هى محاكاة رمزية للمدينة الفاضلة المستحيلة أو لصورة الجنة كما تقدمها الديانات السماوية فيقدم الوجدان الشعبى توحُّدًا رمزيا بين الجنتين الأرضية والسماوية ليصيرا متماثلين فى حين تقف معتقدات المدن المسحورة فى منطقة وسطى بين الدنيوى والمقدس. من خلال إعادة قراءة الموروث السردى المدون والشفاهى حول هذه المدن، ورصد الأسس المنطقية التى تجعل الجماعة الشعبية تعتقد فى وجودها. الكتاب يمثل احتياجا ثقافيا وعلميا ملحًّا عبر كل سطر من سطوره المدهشة سواء بما يحتشد به من معلومات مثيرة، أم بأسلوبه الأدبى المشرق.