توفر دراسة المعتقدات الشعبية، فهماً أعمق لطبيعة الهوية المصرية وخصوصيتها، وتمنع استغلال هذه المعتقدات وتوظيفها من أجل اختراق المجتمع. فتلك المعتقدات هى الدافع الخفى وراء احتفاظ الجماعات الشعبية بكثير من عاداتها وممارساتها الموروثة، وما تملكه من سلطة على العقلية الشعبية ينفى القول بأن نشأتها لدى الجماعات هو نتيجة للكشف أو الرؤية أو الإلهام، أو أنها مجرد معتقدات دينية تحولت لأشكال جديدة بفعل التراث القديم الكامن على مدى الأجيال. يجادل فارس خضر الباحث والشاعر المصري، في أطروحته للدكتوراة المعنونة ب"المدن المسحورة والمعتقدات الشعبية: دراسة ميدانية في بعض قري واحة الداخلة" والتي نوقشت مؤخراً بأكاديمية الفنون ومنح عنها درجة الدكتوراة في الفنون، بأن المعتقدات الشعبية، هى مجموعة من التصورات والأفكار التى تعتنقها الجماعة الشعبية نتيجة لخبراتها العمقية وتجاربها الإنسانية البعيدة. فإذا كان من غير الممكن الإمساك بالجذور العميقة النشأة لهذا المعتقد أو ذاك، فلا أقل من الكشف عن الآليات التى تستخدمها العقلية الشعبية لكى تتبنى؛ وتحافظ على استمرارية؛ وتعيد إنتاج وبث هذه المعتقدات الموروثة. من هذا الفهم المادى لطبيعة المعتقدات الشعبية وما تقوم به من وظائف (نفعية ونفسية وجمالية) قام الباحث برصد وتحليل المعتقدات المتصلة بفكرة المدن المسحورة وتجلياتها فى الإبداع الشعبى بالواحات، وذلك بإعادة قراءة الموروث السردى المدون والشفاهى حول هذه المدن، ورصد الأسس المنطقية التى تجعل الجماعة الشعبية تعتقد فى وجودها. وكذلك بالرجوع إلى التاريخين الواقعى والميثولوجى للمنطقة، وجمع نصوص هذه المدن من التراث العربى المدون فى الأدبيات الجغرافية والتاريخية وكتب الرحالة وغيرهم ممن أوردوا ذكر الواحات ومدنها المختفية أو المسحورة. المدن المسحورة أو المطلسمة أو المخفية أو المستورة أو الباطنة هى مترادفات يتكرر ذكرها بالمعنى نفسه في الرسالة، للدلالة على نصوص شعبية وردت فى بعض المدونات وذلك للإشارة إلى مدن لا تتبدى إلا لمن يضل الطريق فى الصحراء، فإذا ما تراءت للتائه ولجأ إليها فنجا من موته المحقق ورأى ما بها من خيّرات، دلَّه أحد ساكنيها على طريق العودة، غير أنه ما يلبث أن يفكر فى الرجوع إليها مصطحبا أهل بيته وذويه، لكنه لا يجد لها أثرا عند عودته. كان الباحث قد بدأ فى تتبع المعتقدات والنصوص المدونة التى يرد بها ذكر هذه الواحات المسحورة حتى اكتشف أن ثمة معتقدات ذائعة فى الواحات الداخلة حول مدينة مسحورة يطلق عليها إسم «زرزورة» وتكاد هذه المدينة تتطابق فى صفاتها مع تلك المدن التى تتحدث عنها النصوص المدونة من ناحية، ومع معتقدات المدن المختفية الطوافة الذهبية التى تظهر للبسطاء كمكافأة على أعمالهم الصالحة مثل «إرم»، تلك المدن المثقلة بماضيها الأسطورى والدينى. ولما كانت سورة الفجر، هى الوحيدة التى تخبرنا شيئاً محدداً عن هذه المدينة العجائبية، فإن هذه الإشارة حسب فاضل الربيعى كانت كافية لبعث نقاش قديم ومستفيض، سيجرى مع الإسلام بين طائفة من المفسرين وعلماء اللغة المسلمين، ثم ليزداد هذا النقاش بعد زعم الإخباريين أن «عبد الله بن قلابة» الإعرابى التائة فى الصحراء، عثر عن «إرم» فى بعض صحارى عدن من أرض اليمن، حيث قيل إن إبلاً لعبد الله بن قلابة ضلت فى بعض صحارى عدن، فخرج فى إثرها، ثم قادته المصادفة المحضة إلى المدينة الضائعة، وقد أوردت هذه القصة معظم المصادر الإخبارية واللغوية والجغرافية القديمة، وتكاد تكون منقولة حرفياً عن رواية أولى، أصل، رواها عبيد بن شريه الجرهمى فى «أخبار اليمن». رغم ذلك فإن الدراسة لم تهدف إلي الدخول في هذا الجدل الدينى والتاريخى، ولا الخروج بهذه المعتقدات عن حيزها الأسطوري، ولكنها سعت، لأن تضع على أساس منطقى ما لم يوضع على أسس منطقية أصلاً، وبالتالى فإن هذه الدراسة وهى تقوم برصد وتحليل معتقدات المدن المسحورة فى واحة الداخلة، سعت للكشف عن البنية المنطقية وراء وجودها وعن وظائفها ومبررات استمراريتها، أو بمعنى آخر، الكشف عن الضرورات المنطقية والجمالية التى جعلت هذه المعتقدات حيَّة تتوارثها الأجيال المتعاقبة. يذكر أن الدراسة جاءت فى مقدمةٍ وستة فصولٍ، وملاحقٌ بالتطبيقاتِ الميدانية. تناول الفصلُ الأولُ: الإطارَ النظرىَ والمنهجي. والفصلُ الثاني: الملامح العامة لمجتمعات الدراسة. والفصلُ الثالثُ: المدن المسحورة بين جغرافيا الوهم والتاريخ الميثولوجى.، وتناول فيه الباحث انتقال معتقدات المدن السحورة من الحيز الواقعى إلى الميثولوجى، و دور المأثور الجغرافى والتنوع العرقى فى ترسيخ هذه المعتقدات، ودلالات الإشارات التاريخية والجغرافية القديمة.وتناول الفصلُ الرابعُ : معتقدات المدن المسحورة وعناصرها. أما الفصلُ الخامسُ فتناولالمدينة المسحورة بالواحات الداخلة ورصد الباحث الرحلات الحديثة للبحث عن الواحة المفقودة. أما الفصلُ السادسُ فتناول معتقدات المدن المسحورة كما تعكسها الحكاية الشعبية.