هناك رسم توضيحى شائع على الإنترنت، يقول متى تأتى الأفكار. هذا الرسم الشائع يقول ضمنيًّا أيضًا كيف تأتى الأفكار. الرسم (وهو نقلًا عن موقع business opportunities، ترجمة رامى با عطيه، وتصميم أحمد با على) لم يقل لنا كيف وصل إلى هذه النتيجة، لكنه لا يخلو عمومًا من وجاهة، وفى كل الأحوال عندى بخصوصه كلام . النسبة التى تظهر فى أثناء النوم هى الأقل. النوم بالنسبة لى مغامرة. يصعب توقع ما سأصادفه بعد قليل. تشغلنى المسألة فعلًا قبل النوم، وأحاول أن أتحاشى كل ما سيقودنى إلى كوابيس تنتهى بمطاردة كلاب ضالة فى شارع نصف مظلم، أو أشخاص راحلون يعانون من مأساة ما، أو ضياع مفاجئ للصوت أو القدرة على الحركة. لا تظهر لى أفكار فى أثناء النوم، المرة الوحيدة التى خرجت بها بفكرة كانت أن أكتب أحلامى، كتبتها كما هى، اعتبرها كثيرون عملًا عديم المعنى، وآخرون اعتبروها عملًا مهمًّا، فى الحقيقة الأهمية أو غياب المعنى أمر يخص الأحلام، فلا أستطيع أن أدعى تأليف سطر واحد فى هذا الموضوع. ليست كوابيس التى تطاردنى، ولكن مشاهد مركبة شديدة التعقيد، أصحو مشغولًا بالبحث عن معناها، لا أجد فى الماضى عادة أمرًا له علاقة بالحلم، لذلك أظل طوال الوقت فى انتظار ترجمة المستقبل لما رأيته فى أثناء النوم. كان خالى فى العناية المركزة، ونمت، حلمت أننا فى ملعب كرة قدم كبير، هو يلعب دور الجناح الأيمن وأنا رأس الحربة، لا أحد غيرنا فى الملعب، كل مرة يرفع الكرة عرضية وأقفز لأسددها برأسى فأفشل، يكرر اللعبة ثم أفشل، يطلب منى ألا أتوقف، يكرر العرضية فأفشل فى إحراز هدف، وهكذا حتى وجدت خالى ينسحب محبطًا قائلًا مافيش فايدة. كانوا يحاولون إفاقته فى الوقت نفسه، مرة ثم أخرى، ثم أخرى، ثم مافيش فايدة، رحل فى اللحظة نفسها التى أفقت فيها أفكر فى معنى الحلم. 3% من الأفكار تظهر فى أثناء الطعام.. الطعام بالنسبة إلىَّ هو العائلة. نصف ما تعلمته صغيرًا تعلمته فى جلسة الطعام، على الطبلية ذات الطبقة الفورميكا الحمراء، أو على السفرة التى شغل النجار نهاية قوائمها على هيئة مخالب حتى يربط بينها وبين وجه الأسد المنحوت على باب البوفيه، لم يكن هناك فرق، كانت الدروس المستفادة هى الموضوع، العدل، الإيثار، الرضا، المجاملة، الشكر، الاستطعام على مهل، كان كل هذا يحدث بشكل تلقائى، لا تقُل "أنا مابحبش السبانخ"، ولكن قل "السبانخ مابتحبنيش"، هذا نصيب الغائب يقتطع تمامًا كأنه موجود، تهادوا تحابوا تكبر المحبة بهدية ليست أكثر من جناح دجاجة أو قطعة من كبدها الصغير، لا تغادر قبل أن تمدح من تعب وتشكر من خلق، الحمد لله، مع التأكيد أنه (يستاهل الحمد). بعد أن كبرت ضاق خلقى وصارت أفكارى حول الطعام تدور حول ملاحظاتى السلبية على ما تقديمه لى، أحاول أن أدفنها تحت الشكر والحمد، لكننى أدفنها حية فتفضحنى. 5% فى أثناء قيادة السيارة.. هذا صحيح لكن النسبة قد تصل إلى 50% إذا كنت فى السيارة ولا تقودها، شباك السيارة هو أحد الأماكن السحرية، المدى بلا هدف هو كلمة السر، فتنة يصعب أن ينجو منها أحد، حتى الكلاب، إحدى الكاتبات الأمريكيات كانت تعرف قيمة الموضوع فقالت "لا تنجب أطفالًا عددهم أكبر من عدد الشبابيك المتاحة فى سيارتك"،أصدق ما قالته، وأعتقد أن الطفل الذى يجلس فى منتصف الكنبة الخلفية لا شىء فى مدى بصره سوى تابلوه السيارة سيشب بلا خيال. 7% فى أثناء غسل الملابس.. ربما لو أن الواحد يغسل ملابسه على ضفة نهر لحصل على بعض الأفكار، لكن ميكانيكية (الغسالة)، تليق بمحاسب تكاليف، خطوات واضحة وثابتة، لا مغامرة، لا مفاجآت، لا إبداع، لا معاناة، من أيت ستأتى الأفكار إذن؟ حالة وحيدة ربما يلهمك فيها غسيل الملابس بعض الأفكار، أن تغسلها وأنت ترتديها، أن تأخذ دورة كاملة غسيل وشطف وعصر، ستخرج مرشحًا لجائزة نوبل فى الآداب، لعنة الكاتب أنه يجتر معاناته وأخطاءه وآلامه ليصنع منها لعبة تؤنس الناس، الغسل والعصر يمنح الملابس حياة جديدة ويمنح الكاتب فكرة غالية الثمن. 9% فى أثناء القيام بأعمال البستان.. عندى أحواض صغيرة فى الشرفة مزروعة ياسمين وريحان ومسك الليل، الفكرة التى ظهرت على هامش رعاية هذه النباتات، هى تلك الفروع الصغيرة التى تطل من تربة الحوض بعد فترة، ينمو بالقرب من جذور فرع الياسمين نبات ليس بياسمين لكنه محسوب عليه، يشاركه المشهد والغذاء، نبات متطفل لولا الياسمين ما كان ليظهر، يستسهل الواحد دائمًا أن ينزعه من جذوره ويلقيه بعيدًا، يؤمن الواحد أن هذا النبات المتطفل مؤذٍ بلا شك فيتخلص منه. أفكر لماذا أعتقد أن هذا النبات يعيش على قفا الياسمين؟ وليس العكس؟ أتأمل ضعفه، لو كان متطفلًا لأصبح أقوى من ذلك، لكنه ضعيف، قليل من العدل سيجعله ندًّا للياسمين، لكن حتى مجتمع النباتات به عبيد وأسياد، كان هناك بذرتين فى التربة، حصل الياسمين على نصيب الأسد فى كل شىء، ورأى صاحب الزرع بعد فترة أن من انتصر هو الأحق بالاستمرار، الفرص الكاملة لا يحصل عليها الأقوياء. أفكر أنه فى تربة أخرى ثمة نبات آخر أقوى يتقاسم التربة مع الياسمين سيجعل الأخير فى عينى صاحب الزرع متطفلًا فيقتلعه، ربما قبل أن يعرف أنه ياسمين. 10% فى أثناء شرب القهوة.. إن كل اختراعات البشرية مجتمعة لا توازي عبقرية اللحظة التي اخترع الله فيها شجرتي الكاكاو والبن، بل إن البشرية يمكنها أن تكتفي بهما فتخرج منهما الطاقة والطعام، وتبني بخشب أشجار الكاكاو بيوتًا عظيمة وتصنع من زبدته ما يكفي من دهن لإشعال مئات آلاف القناديل، وتداوي بالكافيين الموجود في البن أرق الروح وحزنها، سيكون حساء الكاكاو رفيقًا مدهشًا في عشاء الأيام الباردة، وستكون حبات البن الخضراء شهية عندما تنضج على النار مع لحم الطيور، سيغرق العالم في يقظة البن وبهجة الشيكولاتة، وهكذا يمكن أن يتفرغ على أكمل وجه للمهمة الأصلية له على الأرض.. العبادة. 14% فى أثناء القراءة.. المعرفة تمنح نسبة أكبر، المعرفة تعنى القراءة والسينما وحكايات الجد ومأساة جارك فى كرسى القطار وحكايات الأصدقاء المتداولة على المقهى، كل هذا أشبه بعملية مساج للعقل، هناك فى أقصى نقطة فى مخك أشياء لا تعرف الطريق إليها، كان أول أمر إلهيًّا أن (اقرأ) حتى تعرف الطريقة التى ستصل بها الكهرباء إلى فصوص جيلاتينة رخوة داخل جمجمتك، اقرأ الكتب والأشخاص والحكايات واللوحات وخرائط البلاد وعروق يديك وابتسامة من تحبهم وموهبة لاعب الكرة الذى تحبه، القراءة كلمة أكبر من الكتب، هى طريقة للتعامل مع التجربة، القراءة مفيدة جدًّا لمخك، بشرط واحد أن يكون عندك مخ أصلًا وإلا أصبحت قراءتك خطرًا علينا جميعًا. 39% فى أثناء الاستحمام.. ليست الفكرة فى الاستحمام، ولكنها فى كونك عدت إلى فطرتك، العرى هو الفطرة، وكان أول ما ترتب على الخروج من الجنة أن موضوع العرى لم يعد من حقك، فى أوقات الاستحمام لا شىء هناك سوى جسدك، أنت الآن حر تمامًا، حر لدرجة أنك تنطلق فى الغناء لا إراديًّا، لقد انفتح الباب أمامك، ليس هناك ما يجب أن تخافه، والخوف قيد، والأفكار تكره القيود، بالذات إذا كان الماء دافئًا. 14% فى أثناء الجرى.. ربما لأن الأفكار لها أجنحة.