لم تعد المشكلة في إبقاء أحمد ناجي خارج السجن، فهناك إصرار غريب من الجهة القضائية على الزج به خلف القضبان، متعة سادية، جعلتها تتجاهل كل مناشدات الجماعة الأدبية والصحفية والحقوقية للإفراج عنه، أو على الأقل عدم إدخاله خلف السجن، لم تستجب لكل هذه المناشدات وتم القبض عليه في قاعة المحكمة التي ظن أنها ستؤكد براءته، وأرغمته على ارتداء حلة السجن الزرقاء. المشكلة الحقيقية الآن هي كيفية الحفاظ على كرامته داخل السجن، كان لا بد من جمع مبلغ من المال حتى يتم دفعه للمخبرين وأمناء الشرطة الذين يشرفون على سجنه، إتاوة يعرفها كل من جرب السجن، لا بد من دفعها حتى لا تساء معاملته، في السجن كل شيء له ثمن حتى الكرامة، وأحمد ناجي بجسده الرهيف كما عرفته لا يبدو قادرًا على مواجهة المعاملة الخشنة، وهكذا بعد صراخ الرفاق والأصدقاء من أجل الإفراج عنه، خفتت كل الأصوات وبدؤوا يجمعون نقودهم القليلة ليقدموها قربانا للسجانين. فصل غريب من رواية أكثر غرابة، خاصة أن قضية ناجي قائمة على نشر فصل من رواية قديمة له بعنوان "استخدام الحياة" في جريدة "أخبار الأدب"، هذا هو كل ما حدث، مجرد نشر فصل في الجريدة التي يعمل بها، عملا من الخيال، مجرد رواية يمكن أن تقرأها أو لا، ويمكن أن تعجبك أم لا، مجرد كلمات، ليست سلاحا مشحونا، أو عبوة متفجرة، أو حتى شعارات محرضة، كلمات مهما كانت بلاغتها لا تستحق كل هذا الاحتدام ولا هذه العقوبة القاسية، ولا أعتقد أن هناك قضية في التاريخ قد أقيمت على مثل هذه الدعوى الواهية، فقد تقدم مواطن لا يستحق أن يذكر اسمه ببلاغ يقول فيه: "إنه بسبب هذا المقال قد حصل له اضطراب في دقات القلب وإعياء شديد وانخفاض حاد في الضغط، وقد خدش هذا المقال حياءه وحياء المجتمع"، بلاغ دون أي إثبات أو تقارير طبية تبين حالة هذا المواطن المرهف، ورغم ذلك أخذت النيابة البلاغ بجدية وحولته إلى قضية، واستدعت المحكمة الأدباء جابر عصفور و صنع الله إ براهيم ومحمد سلماوي ليشهدوا أن هذه ليست مقالة، لكنها عمل أدبي يستخدم الخيال والاستعارة والتشبيه، لا يجنح للإثارة بقدر ما يحاول محاكاة الواقع، واقتنعت المحكمة بذلك وحكمت بالبراءة، ولكن النيابة لم تقتنع، فأصرت على الاستئناف، كان وكيل النيابة أشد حنقًا من الشاكي الأصلي، فكتب في حيثيات حكمه: "الاتهام ثابت على المتهمين وكافٍ لتقديمهما إلى المحكمة الجنائية بسبب ما قام به المتهم (أحمد ناجي) ونشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجًا على عاطفة الحياء" إلى أن يقول: "إن المتهم خرج عن المثل العامة المصطلح عليها فولدت سفاحا مشاهد صورت اجتماع الجنسين جهرة وما لبث أن ينشر سموم قلمه برواية...". أسلوب ركيك، وكلام مرسل مفعم بالحنق، ربما بسبب نزوعه النفسي، وتحفظه الأخلاقي، ولكن هذا ليس مبررًا لسجن الآخرين، فهو لا يقدم أي دليل على فعل واقعي قام به المؤلف يستوجب إدانته أو عقابه، لم يقدم سوى كلمات داخل رواية، ويمكن عقابه بالزجر أو التأنيب أو حتى مصادرة الرواية، ولكن الذي حدث أنه تمت مصادرة المؤلف نفسه وما زالت الرواية موجودة ومتاحة. إغراء.. عهر.. إغواء.. كلمات بالغة الصعوبة، وآخر من يمكن أن تنطبق عليه هو أحمد ناجي، إنه كاتب متعدد المواهب، واحد من شباب هذا الجيل المحتشد بالفن والإلهام ولكنه لا يجد الأرض الخصبة التي تحتضن بذوره، طارق إمام، أحمد شافعي، أحمد عبد اللطيف، محمد ربيع، العديد من الأسماء، ومن بينها أحمد ناجي، ما تفعله هذه الأحكام القضائية المتعسفة أنها تخيفهم، تواجههم بعقول مغلقة، وتصدر ضدهم أحكاما مجنونة، وتترصدهم دون مناسبة. أذكر أنني تقابلت مع ناجي لمرة واحدة، كنت قد قرأت له قبل أن أراه، كنا نتحدث في الشارع، كان يحدثني عن اهتمامه بالموسيقى، هي عشقه الأول وليست الكتابة، كان أشبه بروح طليقة، والموسيقى هي الشيء الوحيد الذي كان يحتاج إليه ليهدئ من ذات نفسه، في هذه الأثناء جاءت فتاة شابة، كانت تعمل في وكالة أنباء أجنبية في بناية مجاورة، توقفت حين شاهدت ناجي، صافحته بحرارة واندفعت تتحدث بسرعة وبكلمات ناقصة الحروف، كعادة فتيات هذه الأيام، لم ترني تقريبًا، كانت تبدو مفتونة به، تشير إلى مكان مكتبها وتدعوه لزيارتها وتود أن تعرف إلى أين هو ذاهب، وكان رد فعله هو أنه أطرق خجلًا، كان حييًّا في مواجهة اندفاعها، كانت هي تتمنى لو الأرض انشقت وابتلعتني لتظفر به وحدها، وكل ما فعله أنه تبادل معها كلماتٍ خَجْلى، وأعطاها وعدًا غامضًا حتى تنصرف، ثم عاد ليتحدث معي عن الموسيقى، هذا هو الشاب الذي انهالت عليه النيابة بكل هذه الاتهامات البذيئة، والذي حكم عليه القاضي بالسجن عامين بتهم خدش الحياء. قضية ناجي لا تعبر فقط عن محنة الإبداع في مصر، ولكن عن محنة القضاء أيضًا، فهؤلاء القضاة لا يضعون القانون أمامهم وهم يتعامل مع قضايا الرأي، لم يسمعوا عن الحريات التي وهبها الدستور لحرية الإبداع ولا يبدو أنهم يعترفون بالدستور أصلا، يُعملون الظن والاجتهاد الشخصي بدلا من الاستناد إلى نصوص محددة، ونرى ازدواجية الأحكام في قضايا مثل ازدراء الأديان وخدش الحياء وحرية الفكر، ففي قضية المفكر الإسلامي إسلام بحيري حكم قاض بتبرئته، بينما أصدر قاض آخر في القضية نفسها الحكم بسجنه، الأمر نفسه حدث مع الكاتبة والشاعرة فاطمة ناعوت، فقد حصلت على حكمين متناقضين، إحدهما يبرئها وآخر يدينها، وما زال التهديد بالسجن سيفًا مسلطًا على عنقها، وكذلك الأمر مع أحمد ناجي الذي ذهب آمنًا لقاعة المحاكمة بعد أن تلقى حكم البراءة فإذا بالقاضي يقبل النقض دون أن يحدث تغير في وقائع القضية، ويصدر حكما بإيداعه السجن، لا نريد أن نبكي على حرية الإبداع في مصر، فهي غير موجودة، ولا نريد أن نتحسر على المساحة المخصصة للفكر والاجتهاد فالقيود على العقل المصري أقوى من أن نتحرر منها، ولكننا فقط نريد درجة من المنطق في هذه الأحكام، نريد فقط قاضيًا عادلا يعترف بالدستور وينفذ القانون.