بعد مرور خمس سنوات من ثورة 25 يناير 2011 التي كان شعارها الأساسي الحرية والعدالة الاجتماعية، يبدو المشهد العام شديد القتامة في كافة المجالات، فبعد نجاح السلطة الحاكمة في تأميم الممارسات السياسية وتكميم الأفواه المعارضة وقمع كل محاولات الحراك الاجتماعي، تنتقل السلطة لمرحلة جديدة من القمع والهيمنة عبر محاكمة الخيال ومطاردة الفكر والإبداع. فخلال الشهور الماضية ألقي القبض على العديد من الكتاب والمبدعين وقدموا للمحاكمة، بداية من قضية الإعلامي والباحث إسلام البحيري، الذي حكم عليه بالسجن لمدة عام بتهمة ازدراء الإسلام، مرورًا بقضية الكاتبة فاطمة ناعوت، التي حكم عليها بالسجن ثلاث سنوات بتهمة ازدراء الإسلام أيضًا، ثم القبض على رسام الكاريكاتير إسلام جاويش بتهمة إهانة رئيس الجمهورية، ووصولًا لقضية الراوئي الشاب أحمد ناجي الصحفي بجريدة أخبار الأدب الذي حُكم عليه فيها بالسجن لمدة عامين بتهمة خدش الحياء العام. الغريب في هذه القضايا أن إسلام البحيري وفاطمة ناعوت من داعمي السلطة الحاكمة ورغم ذلك حُكم عليهم بالسجن واتسعت دائرة القمع لتشملهم، وهذا يطرح سؤالًا هامًا حول البنية التشريعية ومدى حمايتها لحرية الفكر والتعبير فضلاً عن تحقيقها للعدل، لكن يبقى السؤال الأهم لماذا لم تتدخل السلطة على الأقل لتحمي داعميها فإذا كان إسلام جاويش وأحمد ناجي من المعارضين فالبحيري وناعوت من أشد داعمي النظام، وهنا تكمن القضية الرئيسية فالبنية القمعية للنظام من المستحيل أن تسعى لإيجاد منظومة تشريع عادلة وحرة وبالتالي فكل حديث عن عفو رئاسي حتى وإن حدث، لن يحل الأزمة وسيبقى المبدعين والمثقفين والأشخاص العاديين أيضًا تحت رحمة السلطة الحاكمة. قضايا الحسبة رغم الاحتفاء الكبير من قبل الكثير من المثقفين بالنسخة الأخيرة من الدستور المصري وحديثهم عن مساحة حرية الرأي والتعبير والإعتقاد غير المسبوقة التي أقرها، لكن الواقع يثبت عكس ذلك فالمادة 67 التي ظن المبدعين أنها تحميهم من قضايا الحسبة، فتحت باب الجحيم عليهم من خلال إعطاءها الحق للنيابة العامة لممارسة هذا الدور وتنص المادة على " حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك، ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها". محاكمة الخيال بدأت قضية ناجي عندما نشرت جريدة أخبار الأدب، فصل من روايته الأخيرة "أستخدام الحياة" فيعددها رقم 1097 الصادر في شهر أغسطس لعام 2014، وبناء عليه تقدم المواطن هانى صالح توفيق ببلاغ للنيابة العام يتهم فيه ناجي وجريدة أخبار الأدب بخدش حياء المجتمع والدعوة للإنحلال والفجور، ولأن الدستور لا يخول للمواطن العادي رفع مثل هذه القضايا ويعطى هذا الحق للنيابة العامة فقط ، فقد قام المستشار أحمد فاروق رئيس نيابة بولاق أبو العلا، بإحالة أحمد ناجي، وطارق الطاهر رئيس تحرير الجريدة لمحكمة الجنايات، بتهمة نشر وكتابة مقال جنسي خادش للحياء. وكشفت مذكرة الإحالة التي كتبتها النيابة عن مدى ضحالة كاتبها وركاكة أسلوبه، فبداية من الخلط بين المقال الصحفي والنص الأدبي مرورًا بالعقلية السلفية التي تنصب نفسها حامي للأخلاق ، وصولاً لاقتطاع جمل محددة ووضعها خارج السياق، وجاء في نص قرار الإحالة ما يلي "الاتهام ثابت على المتهمين وكافٍ لتقديمهما إلى المحكمة الجنائية بسبب ما قام به المتهم (أحمد ناجي) ونشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجا على عاطفة الحياء". ورغم قيام المحكمة منذ عدة أسابيع بتبرئة أحمد ناجي وطارق الطاهر رئيس تحرير الجريدة ، وجاء في حيثيات الحكم " المحكمة ترى أن تقييم الألفاظ و العبارات الخادشة للحياء أمر يصعب وضع معيار ثابت له، فما يراه الإنسان البسيط خدش للحياء تراه الإنسان المثقف أو المختص غير ذلك وما يراه صاحب الفكر المتشدد خدشا للحياء لا يراه صاحب الفكر المستنير،وكذالك ما يطرح في مجالات البحث العلمي في الطب مثلا يكون بالنسبة للغير خدشا للحياء إلا أنه لا يكون كذلك بالنسبة للأطباء مثلا فان العبرة في عقلية المتلقي وتقديره للأمور، فالعبارات التي حوت تلك القصة محل الاتهام رأت النيابة العامة أنها تخدش الحياء لم يراها الأدباء و الروائيون خدشا للحياء طالما أنها كانت في سياق ومضمون عمل أدبي فني، إذاً فان المعيار في ذلك يختلف من شخص إلي آخر حسبما لثقافته وأفكاره وتعليمه فما أتاه العلماء والمثقفين قديما من أفكار وآراء واجتهادات كانت محل رفض ونقد لهم من مجتماعتهم ان ذاك أصبحت اليوم من الثوابت العلمية والابداعات الأدبية التي تثري مجتمعنا". لكن النيابة لم تقتنع بهذا الحكم واتخذت موقفا متشددا، وتقدمت بطلب لاستئناف الحكم ونظر القضية من جديد، وبناء على المادة 67 من الدستور التي أشرنا لها قررت محكمة مستأنف بولاق أبو العلا، قبول استئناف النيابة العامة على حكم براءة ناجي وطارق الطاهر رئيس تحرير جريدة "أخبار الأدب"، لاتهامهما بنشر مواد أدبية "تخدش الحياء العام"، وقضت بحبس ناجي عامين، وتغريم الطاهر 10 آلاف جنيه. وبما أن الحكم قد صدر حضورياً، فقد تم ترحيل ناجي إلى السجن. المدينة الكابوسية المدهش في قضية أحمد ناجي أن روايته "استخدام الحياة" استشرفت هذا الواقع الكابوسي الذي نعيشه، فمن خلال بطله "باسم بهجت" قدم ناجي صورة مريعة عن القاهرة المتوحشة التي تلتهم الماضي والحاضر والمستقبل، وتسحق كل قيمة جمالية، وتحول البشر لفئران تجارب تمارس عليهم شتى أساليب القهر والقمع، "القاهرة التي نعرفها، انتهت. لم يعد لها مستقبل، خسارة فادحة وفاضحة للحضارة والتاريخ الإنساني. والأكثر ألمًا ملايين البشر الذين فقدوا حياتهم، والملايين الأخرى الذين عاشوا في ألم الفقدان بقية حياتهم"، بهذه الكلمات يصف ناجي القاهرة في روايته وينتقل عبر فصولها ليعكس مدى العبث والجنون السلطوى الذي يحكم المدينة ويدمرها بوتيرة متسارعة لتتحول لمدينة كابوسية.