كان فضاء المسرح يهتز من وقع أقدام عازفى ومغنى الفرقة، من أصواتهم التى تردد الغناء بشكله الصافى الخشن، وأيضًا بتلك اللغات غير المفهومة بالنسبة لى وللجمهور، باستثناء العربية، حيث ولد الصوت قويًا فى فضاء الغابة، أو حزينا مع قوافل العبيد فى طريقها من إفريقيا إلى أوروبا، أو متفائلا بجوار الأرض فى انتظار شهور الإزهار والإنبات، أو متصوفًا بجوار الحركة البندولية المنتظمة لنهر النيل. الطبيعة كانت حاضرة، تحتضن الموسيقى والرقص والغناء. الدقات السخيّة بأذرع مفرودة عن آخرها على الطبول والدفوف، ذبذبات الآلات الوترية، صوت اهتزازات الرمال، أو البذور، فى الآلات الرجَّاجة shakers، والتجشؤ الحزين للساكسفون، وهدوء ونيلية الناى والفلوت. آلات مُخلَّقة من الطبيعة ونباتاتها وجلود حيواناتها، وربما كذلك مستلهِمة شكلها العضوى. أغلب الحاضرين، وأغلبهم من الشباب والنوبيين والجاليات السودانية، قاموا من مقاعدههم، أو بمعنى أصح تحرروا منها، ودخلوا مع هذه الإيقاعات، وتحولت قاعة المسرح، إلى دائرة راقصة مثل تلك المنصوبة دائمًا فى أفراح النوبيين، تبدأ من خشبة المسرح وتنتهى بنهاية آخر صف من الكراسى.
على الرغم من قلة عدد الحاضرين، فإن هذا الزخم الحسى عوّض هذه الكراسى الحمراء الفارغة. جارى كان شابًا فى بداية العشرينيات، جلس مع صديقته، التى وصلت قبله، وحجزت له مكانًا بجانبنا فى الصف الثالث ليكونا قريبين من خشبة المسرح. يبدو أنه فى بداية طريقه لاحتراف التصوير، فلم يتوقف طوال الحفلة عن التصوير والتصفيق. كان تصفيقه وانفعاله مع الفرقة يفوق الحد، يهتز هزًا فى كرسيه، بكامل جسمه وعمره النحيفين، وملامحه الحادة المشدودة بالإيقاع، وربما بجيشان طبيعى داخل صدره لا يعرف كنهه أو مصدره، الذى بدوره يأخذنا، نحن من نجلس معه فى نفس صف الكراسى، فى موجة من الاهتزازات كأننا نرقص فى أماكننا من الوضع جلوسًا. دبيب الأقدام كخطونا المرح والواثق والمطمئن على أمنا الأرض، أصوات الآلات الوترية البسيطة واهتزازاتها الحادة التى تخلف ذبذبات الخطر فى القاعة، دقات الطبول المنذرة بحدث ما، رنين الكلمات غير المفهمومة، جميعها حوّلت القاعة إلى وسيط رمزى حى يتشكل فى الحال، لا يهم فيه المعنى، إنما الذبذبات، لغة الطبيعة. تسير وراء الموسيقى، وتترك لها أن تقودك لذلك المكان العميق الذى تحتفظ به داخلك لمثل هذا النوع من الارتجال الصوتى. هناك، فى هذا المكان، يحدث التفسير وترتد الذبذبات، والكلمات غير المفهومة، لأصولها كلغة صديقة، لكنها منسية، مثل غيرها من اللغات القديمة. قديما كانوا يتكلمون بلسان الطبيعة، أو أن الطبيعة كانت تتكلم عبر لسانهم. الانتقال بين اللغات كان هناك انتقال بين عدة لغات، لكن الموسيقى، والجو الجماعى للفرقة، ألغيا هذه الفوارق الصوتية. يخال لك أنك تعرف هذه اللغة التى يغنون بها. أو تداخلك فى الإيقاع منحك شفرة حل الرموز اللغوية حتى ولو لم تعرف معناها المباشر. من اللغة العربية إلى القبطية القديمة إلى الأمهرية إلى السواحيلة، إلى النوبية. عدم معرفتى باللغة يجعلنى أسير وراء الإيقاع، ما يقف وراء الصوت. ربما اللغات إحدى خدع العالم، لتسحب الحياة والطاقة من الأشياء وتجمدها عبر الرمز. كانت هذه أحاسيسى أثناء مشاهدتى عرض "مشروع النيل"* فى مكتبة الإسكندرية بالقاعة الكبرى يوم الخميس الماضى 11 فبراير. الفرقة مكوّنة من أعضاء من كل دول إفريقيا التى يجمعها هذا الخيط المائى للنيل: إثيوبيا، السودان، أريتريا، كينيا، رواندا، أوغندا، بروندى، تنزانيا، الكونغو، مصر. ربما هناك مشروعية فى هذا الاجتماع، أو المظاهرة الإفريقية، والذى لا يدعى انسجامًا ظاهريًا بين عناصره، مثل اجتماع الشمال والجنوب على سبيل المثال، بكل ما يحتويه هذا الاجتماع، الأخير، من محاولة للتطهر من عقدة الذنب الاستعمارية من طرف الشمال تجاه الجنوب، والتى ما زالت لها ترددات فى عصرنا هذا بعد زوال حقبة الاستعمار. ترددات كامنة كالمرض المزمن داخل الثقافة الإفريقية المُستعمَرة، وبالأصالة داخل الثقافة الأوروبية نفسها وداخل نظريات تسامحها، وداخل خيالها المُكفِّر عن هذه الذنوب القديمة. لهذا النوع من المزج الإفريقى مشروعية لعدم وجود أى خلفية استعمارية، تجمع هذه الدول، يراد تذويبها. ربما هناك مناوشات، بين ألوان البشرة المختلفة، وربما كذلك هناك عنصرية داخلية ورفض كامن بين دوله تبعًا للون البشرة، ولكن هذه الاختلافات ليست جذرية، ليس وراءها عقدة ذنب، أو استغلال، ليس وراءها رحلة عبيد، لذا يظل الجدل فيما بينها يمكن أن يؤتى ثماره، وليس جدلا عدميا مثل حوار الشمال والجنوب، بأمراضه المزمنة وأناقته أيضًا المزمنة. هذه الصورة الجماعية ليست مصنوعة لإرضاء أحد، خارج القاعة، أو للتكفير عن ذنبه. لا تخفى وراءها صورة أخرى، أو رسالة أخرى. هى صورة مصنوعة لتثبيت وضع أو للتثبُّت منه. حتى ولو كانت هذه الوحدة فى اللون موجهة ضد لون آخر مضمر، غير ظاهر للعيان. فى إحدى المرات حضرت عرضًا للأزياء الإفريقية فى محطة قطار قديمة فى إحدى المدن الألمانية. أثناء العرض وسير الفتيات الإفريقيات على إيقاع الموسيقى والطبول، ظهر ثدى إحداهن كاملا وهى تتحرك بقوة راقصة، وخرج عن الثوب الفضفاض، الذى هو أساسا رمزى. أثار هذا موجة من صيحات الاندهاش وسط الحضور الألمانى الكثيف. عُرى من نوع آخر. على الرغم من أن العُرى الأوروبى أكثر وضوحًا فى حياتهم اليومية، لكنه عُرى محمل بالذنب، وبتاريخ ضد الكنيسة، والسلطة، وبقتل الأب. أما العُرى الإفريقى فهو عُرى طبيعى، ليس وراءه شيئا، أو أب مقتول، أو سلطة، سوى التفاعل مع الطبيعة، أو هو سلاح أنثوى ذاتى وطبيعى ليس منحازا مع أو ضد أحد. تقاطعات سوداء كان وراء هذا الحضور المكثف للبشرة الإفريقية التى يغلب عليها اللون الأسود، تقاطعات وإحداثيات سياسية وصراعات وصور كثيرة أخذت تتداعى على مخيلتى طوال مدة مشاهدتى عرض فريق "مشروع النيل" الذى امتد لساعتين من الزمن. تنتصب أسئلة عن العنصرية التى مورست تجاه هذا اللون، وأيضا عن العنصرية المضادة التى مارسها اصحاب هذا اللون، لكن لها مشروعيتها هنا كونها تدافع عن نفسها. أسماء وأشخاص يمرون على شاشة ذاكرتى، الشعراء والمفكرون والمناضلون السياسيون: إيميه سيزار، ليوبولد سينجور، فرانز فانون، والذين أسسوا مفهوم "الزنوجة" فى الأربعينيات من القرن الماضى، فى عز استعمار بلادهم. هذا المفهوم الذى يشير ببساطة إلى أن "الأصل هو اللون الأسود". ربما هناك طاقة عنصرية تحرك هذ الكلام وهذا الاتجاه، لكنها عنصرية مضادة، لا يمكن أن تتسامح لأن وراءها ألم، لا يمكن نسيانه. "الأبيض لا يمكن أن يكون أسود البتة"، أو كما قال ليوبولد سينجور أيضًا "أنت أسود، أى أنت جميل". كان سينجور يرى أن العاطفة والحدس والإبداع الفنى الإفريقى يعتبر نشاطًا معارضًا للعقلانية الغربية أو "الهيلينية". بالتأكيد كان يرجح كفة هذا الإبداع كونه موقعة اختلاف أصيلة بين إفريقيا والغرب الهيلينى. أيضا يعرِّف إيميه سيزار «الزنوجة هى أن يتقبل الأسود ببساطة واقعه وتاريخه"، ويكتب فى أحد أشعار ديوانه "العودة إلى الوطن الأم": "زنوجتى ليست حجرا/ زنوجتى ليست برجا ولا كاتدرائية/ زنوجتى تغوص فى الجسد الأحمر للأرض/ تغوص فى الجسد المتقد للسماء". ويبرر المفكر والفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر فى مقدمة له عن الشعر الإفريقى، معضدا هذا النوع من "العنصرية المضادة"، لو صحت التسمية: "هذه العنصرية هى السبيل الوحيد لتجاوز الفروق العرقية". ربما هناك لون محدد يلون هذا المركز من العنصرية المضادة، وهو اللون الأسود، لكن هناك أمل بأن هذا المركز المضطهد به من الحيوية ما يعينه على الاستمرار وتجاوز مأزق الاضطهاد ذاته، لأنه بلا ذنب، ووجوده يسبق أى ذنب حديث. لكن ربما هذا لن يتحقق إلا داخل حركة وصيرورة أخرى للتاريخ غير موجودة الآن، لكنها متوقعة. لكن أهمية الموسيقى، بوصفها خطابا مجردا، أو الفن بشكل عام، أنه يصفى أى دعاوى عنصرية، ويحول الأزمة إلى مجموعة أصوات، ليمتص منها الجزء المهزوم أو المُضطهد، فالمضطهد لا يتعرف على نفسه داخل هذه الموسيقى إلا وهو حر. هى موسيقى ما قبل عصور الاضطهاد والاستعباد. أنت لا ترد على الموسيقى بجدل مباشر، وهى أيضا لا تسألك، أو تستجوبك أو تستثير عطفك، لكن تترك لها أن تطرق كل الأفكار التى تحوط مركزها داخلك. كتب الشاعر الغانى ليون داماس عام 1956 قصيدة جميلة بعنوان "البطاقة السوداء"، وفى رأيى تعتبر من أجمل القصائد التى تعبر عن عمق عاطفة اللون الأسود: "لا يكون الأبيض زنجيا قط/ لأن الجمال أسود/ والحكمة سوداء/ ولأن التحمل أسود/ والشجاعة سوداء/ لأن الصبر أسود/ والحديد أسود/ ولأن الجاذبية سوداء/ ولأن الفن أسود/ والحركة سوداء/ لأن الضحك أسود/ لأن السلام أسود/ والحياة سوداء". بالتأكيد هذا التصور القومى كان وليد عصور التحرر. لكن الآن بعد عقود من عصور الديكتاتورية الذاتية التى تلت عصور التحرر التى عبرت بها قارة إفريقيا بعد خروج الاستعمار عام 61، اختفى مصطلح "زنوجة" من الأدبيات الحديثة، فقد كان الاستعمار، وعملية التحرر ذاتها، هما ما منحا المصطلح قديما حيويته وبقاءه. ظهر الآن تيار فكرى جديد بدا للوهلة الأولى أكثر قوة، لأنه نشط فى إفريقيا وليس فى المنفى، واحتلت مكانها كلمات أخرى مثل "الأفريقانية" أو "وحدة الشعوب الإفريقية". لم تعد الكلمة مناسبة خاصة بين المفكرين الشباب أو أبناء تلك الشعوب، فالكل يبحث عن حلول عملية لمشاكله، لا عن نظريات، والجميع مقتنع أيضًا أنه لا تقدم لإفريقيا إلا بالعلم والتقدم التكونولوجى، وليس بالنظريات أو الشعارات. الطبيعة الصوت الآخر الحى إذا كانت إفريقيا، كما يقولون، أرض النزاعات والحروب الأهلية والمرض، وأنهار الدم، والفقر، والاضطهاد، والعبودية، والتخلف، فهى ما زالت قادرة على تصدير هذه القوة الطبيعية الكامنة فى تاريخها، فى أشكال حياتها غير المعتادة. ما زالت أشكال الحياة هذه تضخ ألوانًا وإيقاعات وأصواتًا وذبذبات غير مألوفة ليس لها علاقة بالطرب بمعناه الجدلى "الهيلينى"، لكن له علاقة بالطبيعة، بالصوت الآخر الحى، بالوجه الآخر للعقل الأوروبى. ما زالت لأشكال الحياة فى إفريقيا علاقة بالثورة بالاحتجاج، بالصراخ. هناك شىء لم يُستنفد بعد فى إفريقيا. ربما سببه هذه الصداقة مع، وليس التغلب على، الطبيعة. تلك العلاقة الأوروبية مع الطبيعة التى صنعت طفرة فى الفكر ومعها خلقت أشكال عنيفة من الجدل، والتطور. أما هنا فى إفريقيا، فلم تكن هناك نفس المعركة. ليس هناك سعى من أجل الفردانية بمفهومها: البطل فى مواجهة الطبيعة. لذا تكثر الإيقاعات الجماعية، صوت الطبيعة ما زال حيًا داخل أصوات الجماعة، ولم تتحول بعد لمنظر طبيعى مفتوح كما فى أوروبا. هذه الحيوية ربما آتية من مقاومة ذاتية لتاريخ الاضطهاد والعنصرية، وربما لها مرجع أقدم قبل حقب الاستعمار وقبل تكون العنصرية المضادة، مرجع بلا ذنب. كتبت مرة فى كتاب لى اسمه "خطوط الضعف": "لا بد لكل منا أن تكون له قاعدة اضطهاد لينطلق منها ويعيد التوازن المفقود من حوله وفى العالم". * تأسست فرقة مشروع النيل أو The Nile Project فى أغسطس عام 2011 على يد عالم الموسيقى الأعراقى مينا جرجس والمغنية الأمريكية إثيوبية الأصل ميكليت هاديرو. هدف الفرقة هو أن يصلوا للعالم حضارة وطبيعة مواطنى حوض النيل والتحديات التى تواجههم عن طريق الموسيقى والتعليم. ويكيبديا الموسوعة الحرة. قراءات واقتباسات: *من قضايا الأدب الإفريقى وتحدياته، قضية الزنوجة- الهادى محمد آدم. موقع سودانيل. نشر فى 8-8- 201. http://www.sudaress.com/sudanile/43412 *ويكيبديا. الموسوعة الحرة. *مقال" مفهوم الزنوجة" بموقع جهة الشعر. http://www.jehat.com/Jehaat/ar/Sha3er/Aime_cesaire.htm *مقال "نمو حركة وتيار الزنوجة" نك نيسبيت. ترجمة صالح الرزوق. جريدة العالم. فبراير 2016. العدد 1435 http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=18101 *الموسوعةالعربية. http://www.arab-ency.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D9%88%D8%AB/%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%86%D9%88%D8%AC%D8%A9 *مقال "إيمى سيزير أبو «الزنوجة»... وأيقونة الإنسانية". ياسين التملالى. جريدة الأخبار اللبنانية. العدد ٢٠٥٥ الثلاثاء 16 تموز. http://al-akhbar.com/node/187097 - فوتوغرافيا سلوى رشاد.