عندما قامت ثورة1952 في مصر كنت أدرس للدكتوراه بمعهد الأنثربولوجيا الاجتماعية بجامعة اكسفورد. وكان جميع أعضاء وأساتذة المعهد قاموا ببحوث أنثربولوجية متعمقة في بعض القبائل الكبري في جنوب السودان وبعض دول شرق القارة وبخاصة دول حوض النيل اعتبارا من أوغندا وما كان يعرف في ذلك الحين باسم تنجانيقا ومرورا بالقبائل الكبري الواقعة في حوض بحر الجبل. ومع أن دراستي كانت عن الواحات الخارجة في مصر كمثال للمجتمع المحلي القابل للتنمية إلا أن الرسالة الممهدة لرسالة الدكتوراه كانت عن بعض النظم السياسية التقليدية لعدد من القبائل في شرق القارة مثل الماساي والكبسجي والناندي وغيرها وهو مالم أندم عليه أبدا فقد أهلتني هذه الدراسة المكتيبة للدخول في مجتمعات شرق إفريقيا حين عملت مع مكتب العمل الدولي بجنيف في أوائل الستينات فأوفدني لدراسة مشروعات التنمية المتحملة في عدد من الدول الواقعة في حوض النيل وعرفت عن كثب مدي اعتزاز الأفارقة بتاريخهم وتراثهم الحضاري. كذلك كان المعهد يتولي إعداد الموظفين الجدد الذين يتوجهون إلي العمل في المستعمرات الأفريقية فيقوم بتنظيم محاضرات لمدة عام عن النظم القبلية التقليدية وبخاصة نظام الحكم عن طريق زعماء العشائر ونظام القرابة المساند لهولاء الزعماء ونظام الزعاء الدينيين باعتبار أن الدين مصدر القيم وان الزعماء الروحانيين لانقل مكانتهم عن مكانة الزعماء السياسيين. ولم بكن البريطانيون يشعرون بالاطئنان لعبد الناصر ويرون فيه أكبر من مجرد ثائر وطني يعمل علي استقلال وطنه فحسب وإنما هو زعيم يدعو إلي استقلال الشعوب المضطهدة وأن المد الثوري الذي بدأ في مصر سوف يجتاح إفريقيا بأسرها وهذا ماحدث بالفعل. ثم وقعت حادثة أقضت مضاجع البريطانيين وبالذات من أعضاء المعهد الذين كانوا يراهنون علي مستقبل السودان الجنوبي ويعملون علي فصله عن الشمال وهي حادثة الصاغ صلاح سالم ورقصته الشهيرة مع أبناء قبيلة الشيلوك وقد تجرد من معظم ملابسه. وقامت قائمة الصحافة والرأي العام في بريطانيا وأحسوا بخطورة هذه السياسة الجديدة التي تنزل إلي مستوي الشعب العادي, وتعرض لهجوم عنيف وسخرية قاتلةعلي اعتبار أنه سلوك دبلوماسي شائن لا يمكن أن يصدر عن رجال الإمبراطوية المحترمين وأطلقوا عليه اسم( الميجور) الصاغ الراقص. ولكنهم كانوا في قرارة أنفسهم يشعرون ببداية عهد دبلوماسية جديدة هي ديبلوماسية الشعوب العريضة التي تتهاوي أمامها الديبلوماسيات الرسمية الزائفة حتي وإن كان مصطلح الديبلوماسية الشعبية غير شائع قي ذلك الوقت. وعلي أي حال فإن أعضاء وفد الدييلوماسية الشعبية الذي تألف في مصر من عدد من المثقفين لزياة دول حوض النيل وإصلاح ما أفسدته الدبلوماسية الرسمية أدركوا أن مخاطبة الدول عن طريق مخاطبة الجماهير العريضة هو المفتاح للتفاهم والتقارب وهدم الحواجز وإعادة بناء الثقة ودليل علي الاحترام المتبادل. والواقع أن العقل الأفريقي عقل شديد الخصوصية كما يظهر في كتابات المثقفين الأفارقة الكبار وفي سير زعماء الاستقلال الذين زاملوا عبدالناصر وما يبدو من اعتزازهم بإفريقيا. وتبدو هذه الخصوصية في الشعور بالفخر والكبرياء إزاء الترث الأفريقي وبالتاريخ الإفريقي والاعتداد بالمقومات الشخصية إلي حد الحساسية المفرطة وتمسك المثقفين باللغات الوطنية ليس فقط في الكلام اليومي العادي بل وأيضا في الكتابات الأدبية والعلمية والفكرية بدلا من استخدام اللغات الأجنبية علي ماكان يحدث وقت الاستعمار وربما كان من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الدبلوماسية الغربية هي اعتبار إفريقيا قارة بغير تاريخ وأن مايعتبر تجاوزا تاريخ أفريقيا هو تاريخ الاستعمار الأوربي لإفريقيا وفي ذلك هدم للشخصية الأفريقية لأن التاريخ هو حياة الشعوب ومصدر كبريائها. ولأستاذ السياسة علي المزروعي وهو من امريكي أصل كيني عبارة ذات مدلول عميق يقول فيها: إن إفريقيا( اخترعت) الإنسان بينما الساميون( اخترعوا) الأديان و(اخترعت) أوروبا فكرة العالم, وذلك علي اعتبار أن إفريقيا هي مهد الإنسان الأول وثقافته المبكرة التي تطورت عبر العصور ودخلت فيها افكار جديدة من الديانات السماوية بالإضافة إلي معتقداتها التقليدية ثم أدركتها الحضارة الحديثة فانفتحت علي العالم. بل إن بعض الكتابات تري ان الحضارة المصرية ذات أصول إفريقية. وللعالم السنغالي الكبير( شيخ أآنتا ديوب) كتابات كثيرة في هذا الموضوع. ولسنا هنا في مجال تحقيق هذه المقولة إنما ذكرناها لكي ندلل علي أن الأفارقة يفخرون بتاريخهم ويغارون عليه ولذا فإن جماعة المثقفين المصريين من وفد الديبلوماسية الشعبية لرأب الصدع الذي أحدثته الدبلوماسية الرسمية المتشنجة خطوة جديرة بالإكبار والتقدير لأنها تعيد الأمور إلي الطريق الصحيح وتسترجع العلاقات الدافئة بين مصر وشعوب القارة علي اسس من التفاهم والاحترام المتبادل. ولكن حتي لا تكون تحركات وفد الديبلوماسية الشعبية مجرد خطوة فرضتها ظروف طارئة نتيجة سوء فهم أو سوء تقدير فلا بد من اتخذ خطوات عملية تتفق مع تاريخ العلاقات بين مصر وإفريقيا وبخاصة دول حوض النيل. فالعلاقة بين إفريقيا ومصر علاقة إزلية سبقها مراحل مختلفة ولا بد من اتخاذ خطوات تؤيد هذا التوجه وتحمل رسالة قوية تستحق كل تعزيز ولابد أن يكون لها مرود دائم وحتي مصلحة دائمة تقوم علي أرضية مشتركة صلبة من التعاون في مختلف الميادين, ويكفي أن هذه اللجنة الشعبية حققت ما فشلت فيه الدييلوماسية الرسمية خلال بضعة عقود بحيث بات كما لو كان من الطييعي قطع ماأمر الله به أن يوصل وهو النيل شريان الحياة لكل البلاد التي في حوضه والتي ترتبط بروابط أزلية هي رابط الحياة. وأول وأبسط مايتبادر إلي الذهن هو أن تنشأ لجان للديبلوماسية الشعبية علي غرار اللجنة المصرية من مثقفي الدول المختلفة وحتي لايكون التواصل من ناحية واحدة بل وقد يمكن تطوير هذه اللجان لتصيح مؤسسة غير رسمية تهدف إلي مناقشة المشكلات المشتركة وتقم مشورتها للحكومات. وللدول الأفريقية رصيد هائل من هؤلاء المثقفين الذين لايشغلون مناصب حكومية ومنهم من حاز علي جائزة نوبل ويؤمنون بأهمية التعاون في تنفيذ مشروعات مشتركة للتنمية الشاملة كخطوة أولي للقضاء علي التخلف والفقر الذي تعاني منه أفريقيا. ودول حوض النيل مؤهلة لذلك بشكل غير عادي إذا خلصت النيات وابتعدت عن تعقيدات العلاقات الرسمية لأن الدبلوماسية الآن هي دبلوماسية الشعوب بعد أن توارت دبلوماسية الصفوة. وحتي تؤتي البعثة التي زارت البلاد الإفريقية ثمارها لايد من نشر الثقافة الإفريقية علي نطاق واسع ونقضي علي العزلة الثقافية التي فرضناها علي أنفسنا حين اتجهنا بكليتنا نحو الغرب ونسينا أن الثقافة الأفريقية من آداب وفنون تشكيلية وموسيقي بل وفلسفة يمكن أن تصبح رافدا يثري ثقافتنا ويعتبر حلقة وصل بيننا وبين الشعوب الأفريقية ليس في حوض النيل وحده بل في القارة بشكل عام. فمهمة اللجنة الشعبية للدبلوماسية لم تنته بعد, وإنما قد بدأت وأن عليها أن تواصل الجهود في بعثات لبقية دول القارة التي كانت تربطنا بها روابط قوية أيام زعماء الاستقلال العظام. إنما المهم قبل كل شئ أن يصدر مانعمله وما نهدف إليه وأن يتصف سلوكتا بنظرة إجلال واحترام لشعوب أفريقيا المعتزة بتاريخها وكرامتها وأن نتمثل قي ذلك بقصيدة الشاعر المارتنيكي إيميه سيزير الذي أسس مع الفيلسوف الشاعر والسياسي السنغالي ليوبولد سنغور حركة الزنوجة وهو يتغني بإفريقيا المجاهدة: الذين لم يخترعوا البارود أو البوصلة والذين لم يذللوا الغاز أو الكهرباء والذين لم يكتشفوا البخار أو الفضاء إن زنوجتي ليست صخرة تصدم بصمتها صخب النهار إن زنوجتي ليست نقطة ماء عطنة علي عين الأرض الميتة إن زنوجتي ليست برجا ولا هي كتدرائية ترتفع نحو السماء إنما هي تغوص عميقا في لحم الأرض الأحمر القاني. المزيد من مقالات د.أحمد ابوزيد