«سكاي أبوظبي»: 240 مليار جنيه مبيعات مشروع «رأس الحكمة»    سعر الذهب في مصر اليوم الثلاثاء 17-6-2025 مع بداية التعاملات    ‌جروسي: أجهزة الطرد المركزي في نطنز ربما تضررت بشدة إن لم تدمر بالكامل    ترتيب المجموعة الرابعة في مونديال الأندية بعد الجولة الأولى    مواعيد مباريات اليوم في كأس العالم للأندية    شاهد المران الأول للأهلى فى نيوجيرسى استعدادا لمواجهة بالميراس    بعد أزمة الاستبعاد.. جلسة صلح بين ريبيرو ونجم الأهلي في أمريكا (تفاصيل)    "دعم متساوي".. وزير الرياضة يتحدث عن دور الدولة في دعم الأهلي والزمالك    وصول صناديق أسئلة امتحان مواد اللغة الأجنبية الثانية والاقتصاد والاحصاء لمراكز التوزيع    «أمطار في عز الحر».. الأرصاد عن حالة الطقس اليوم الثلاثاء: «احذروا الشبورة»    اليوم.. طلاب الثانوية الأزهرية يؤدون امتحان مادة الفقه    تركي آل الشيخ يطرح بوستر جديد لفيلم «7DOGS» ل أحمد عز وكريم عبدالعزيز    طريقة عمل كيكة الجزر، مغذية ومذاقها مميز وسهلة التحضير    8 أطعمة تصبح أكثر صحة عند تبريدها، والسر في النشا المقاوم    5 تعليمات من وزارة الصحة للوقاية من الجلطات    فاروق حسني يروي القصة الكاملة لميلاد المتحف المصري الكبير.. ويكشف رد فعل مبارك    إيران تشن هجوما جديدا الآن.. إسرائيل تتعرض لهجمات صاروخية متتالية    «غاضب ولا يبتسم».. أول ظهور ل تريزيجيه بعد عقوبة الأهلي القاسية (صور)    ترجمات| «ساراماجو» أول أديب برتغالي يفوز بجائزة نوبل أدان إسرائيل: «ما يحدث في فلسطين جريمة»    ما حقيقة مهاجمة الولايات المتحدة ل إيران؟    وزير الدفاع الأمريكي يوجه البنتاجون بنشر قدرات إضافية في الشرق الأوسط    بعد تصريحات نتنياهو.. هل يتم استهداف خامنئي الليلة؟ (مصادر تجيب)    3 أيام متتالية.. موعد إجازة المولد النبوي الشريف في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    سحر إمامي.. المذيعة الإيرانية التي تعرضت للقصف على الهواء    الدولار ب50.21 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء 17-6-2025    تفاصيل العملية الجراحية لإمام عاشور وفترة غيابه    وكالة إس إن إن: إيران تعتزم مهاجمة قاعدة جوية عسكرية إسرائيلية حساسة    خامنئي يغرد تزامنا مع بدء تنفيذ «الهجوم المزدوج» على إسرائيل    إغلاق جميع منشآت التكرير في حيفا بعد ضربة إيرانية    تفاصيل محاضرة ريبيرو للاعبي الأهلي    ما هي علامات قبول فريضة الحج؟    مصرع شاب غرقا فى مياه البحر المتوسط بكفر الشيخ وإنقاذ اثنين آخرين    رئيس مدينة دمنهور يقود حملة مكبرة لإزالة الإشغالات بشوارع عاصمة البحيرة| صور    بعد إنهاك إسرائيل.. عمرو أديب: «سؤال مرعب إيه اللي هيحصل لما إيران تستنفد صواريخها؟»    حرب إسرائيل وإيران.. البيئة والصحة في مرمى الصواريخ الفرط صوتية والنيران النووية    "حقوق الإنسان" بحزب مستقبل وطن تعقد اجتماعًا تنظيميًا بحضور أمنائها في المحافظات    تراجع أسعار الذهب العالمي رغم استمرار الحرب بين إسرائيل وإيران    إلهام شاهين تروي ل"كلمة أخيرة" كواليس رحلتها في العراق وإغلاق المجال الجوي    حدث بالفن | عودة إلهام شاهين وهالة سرحان من العراق والعرض الخاص لفيلم "في عز الضهر"    بسبب إغلاق مطار بغداد.. إلهام شاهين تكشف تفاصيل عودتها لمصر قادمة من العراق    "سقوط حر" يكشف لغز جثة سوداني بفيصل    مباحث الفيوم تتمكن من فك لغز العثور على جثة شاب مقتول بطلق ناري    محاكمة تشكيل عصابي متهم بسرقة المواطنين بالإكراه ببولاق أبو العلا اليوم    العثور على جثة مسنّة متحللة داخل شقتها في الزقازيق    أمريكا: حالات الإصابة بمرض الحصبة تقترب من 1200 حالة    مسئول بالغرف التجارية: التوترات الجيوسياسية تلقي بظلالها على أسعار الغذاء.. والمخزون الاستراتيجي مطمئن    قطع أثرية بمتحف الغردقة توضح براعة المصريين القدماء فى صناعة مستحضرات التجميل    مستشارة الاتحاد الأوروبي: استمرار تخصيب اليورانيوم داخل إيران يمثل مصدر قلق    أخبار 24 ساعة.. الوزراء: الحكومة ملتزمة بعدم رفع أسعار الوقود حتى أكتوبر    محافظ كفر الشيخ: إقبال كبير من المواطنين على حملة «من بدرى أمان»    ما الفرق بين الركن والشرط في الصلاة؟.. دار الإفتاء تُجيب    إيبارشية قنا تستقبل أسقفها الجديد بحضور كنسي    اتحاد المرأة بتحالف الأحزاب يعلن الدفع بمجموعة من المرشحات بانتخابات مجلسي النواب والشيوخ    وزير العمل والأكاديمية الوطنية للتدريب يبحثان تعزيز التعاون في الملفات المشتركة    لمست الكعبة أثناء الإحرام ويدي تعطرت فما الحكم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    ما هي علامات عدم قبول فريضة الحج؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    عضو ب«مركز الأزهر» عن قراءة القرآن من «الموبايل»: لها أجر عظيم    محافظ المنوفية: مليار و500 مليون جنيه حجم استثمارات قطاع التعليم خلال ال 6 سنوات الأخيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض الجوانب القانونية لانفصال جنوب السودان‏3‏

الخلافة في اتفاقيتي مياه النيل لعامي‏1929‏ و‏1959‏ 1‏ مدخل : نود في مستهل هذا المقال أن نؤكد حقيقتين
أولاهما‏:‏ أن قسما كبيرا من حوض النيل يجري في إقليم جنوب السودان‏.‏ فبعد نيل فكتوريا ونيل ألبرت وابتداء من نيمولي يطلق علي النهر اسم بحر الجبل‏.‏ شمالي منقلا يدخل بحر الجبل مستنقعات تعرف بمنطقة السدود‏.‏ وفي حوالي منتصف هذه المنطقة يتفرع بحر الزراف عن بحر الجبل ويتخذ مسارا مستقلا إلي أن يلتقي بالنيل الأبيض‏.‏ حري بالذكر أن بحر الجبل يفقد نصف إيراده السنوي في منطقة السدود‏.‏ ويجري كذلك في إقليم الجنوب حوض بحر الغزال الذي يتغذي من الأنهار الصغيرة التي تنبع في مرتفعات الكونغو وافريقيا الوسطي ومن الروافد الجنوبية لبحر العرب‏.‏ يلتقي بحر الغزال مع بحر الجبل عند بحيرة نو ويتكون منهما النيل الأبيض‏.‏ وجنوبي ملكال يلتقي النيل الأبيض بنهر سوباط القادم من الهضبة الاستوائية‏.‏
أما الحقيقة الثانية التي ينبغي أن نفهمها جيدا فهي أن كل مشاريع استرداد المياه الضائعة ذات الجدوي التي يمكن القيام بها مستقبلا موجودة في إقليم جنوب السودان‏.‏ فكميات كبيرة من المياه تضيع في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال ونهر سوباط عن طريق التبخر والنتح والتسرب والانتشار‏.‏ وقد ورد في خطة وزارة الري الرئيسية لعام‏1979‏ م أن حوالي‏42‏ مليار متر مكعب من المياه تفقد سنويا في إقليم جنوب السودان‏.‏ فحوالي‏14‏ مليارا تضيع في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف‏.‏ وتضيع في حوض بحر الغزال حوالي‏12‏ مليار متر مكعب‏.‏ وتقدر كمية الفاقد في حوض السوباط ومستنقعات مشار بحوالي‏19‏ مليار متر مكعب‏.‏
‏2‏ اتفاقية عام‏1929‏
إن لاتفاقية عام‏1929‏ تاريخا طويلا‏.‏ يكفي أن نذكر هنا أنها قد أبرمت في إطار مصالحة سياسية بين مصر وبريطانيا بعد أحداث ثورة‏1924‏ في السودان ومقتل سيرلي ستاك حاكم السودان العام وسردار الجيش المصري في القاهرة في‏19‏ نوفمبر‏1924.‏ بسبب هذه الأحداث وجه المندوب السامي البريطاني في مصر اللنبي في‏22‏ و‏23‏ نوفمبر‏1925‏ إنذارا إلي رئيس وزراء مصر سعد زغلول تضمن بندا بأن الحكومة البريطانية قد أصدرت تعليمات إلي حكومة السودان بأن لها مطلق الحرية في زيادة مساحات الأراضي المروية في الجزيرة من‏300,000‏ فدان إلي مقدار غير محدد وفقا للحاجة‏.‏ وكان اللنبي قد تعهد في سنة‏1920‏ للحكومة المصرية بأن مساحة الأراضي المروية في الجزيرة لن تزيد علي‏300,000‏ فدان‏.‏
علي كل حال‏,‏ بعد عودة العلاقات الودية بين مصر وبريطانيا‏,‏ طلب رئيس وزراء مصر في‏25‏ يناير‏1925‏ من الحكومة البريطانية إعادة النظر في تعليماتها إلي حكومة السودان بشأن توسيع نطاق الري في الجزيرة حتي لا يلحق ذلك أضرارا بالري في مصر‏.‏ وإثباتا لحسن نواياها ومراعاة منها لحقوق مصر التاريخية والطبيعية في مياه النيل‏,‏ أبدت الحكومة البريطانية في‏26‏ يناير‏1925‏ استعدادها لإصدار تعليمات جديدة إلي حكومة السودان بألا تنفذ ما سبق إرساله إليها من تعليمات بشأن توسيع نطاق الري في الجزيرة توسيعا لا حد له‏,‏ علي أن تشكل لجنة من ثلاثة خبراء لتدرس وتقترح القواعد التي يمكن إجراء الري بموجبها مع مراعاة مصالح مصر ومن غير الإضرار بمالها من الحقوق الطبيعية والتاريخية‏.‏ أصبحت تلك اللجنة تعرف بلجنة مياه النيل لعام‏1925.‏ قدمت اللجنة تقريرها في‏21‏ مارس‏1926,‏ ويعتبر هذا التقرير جزءا لا ينفصل عن الاتفاق بين مصر وبريطانيا بشأن استخدام مياه النيل لأغراض الري‏.‏ وقد ضمن هذا الاتفاق في المذكرات التي تبودلت في‏7‏ مايو‏1929‏ بين محمد محمود رئيس وزراء مصر والمندوب السامي البريطاني لويد‏.‏
اعترف محمد محمود في مذكرته بأن تعمير السودان يحتاج إلي مقدار من المياه أعظم من المقدار الذي كان يستخدمه آنذاك وأبدي استعداده لزيادة ذلك المقدار بحيث لا تضر تلك الزيادة بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية في مياه النيل‏,‏ ولا بما تحتاج إليه مصر في توسعها الزراعي‏.‏ وفي مذكرة الرد أكد لويد لمحمد محمود أن الحكومة البريطانية تعتبر المحافظة علي حقوق مصر الطبيعية والتاريخية في مياه النيل مبدأ أساسيا من مبادئ السياسة البريطانية‏.‏
واتفق الطرفان علي ألا تقام بغير اتفاق مع الحكومة المصرية أعمال ري أو توليد قوي‏,‏ ولا تتخذ إجراءات علي النيل وفروعه أو علي البحيرات التي ينبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية يكون من شأنها إنقاص مقدار الماء الذي يصل إلي مصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه علي أي وجه يلحق ضررا بمصالح مصر‏.‏
كفل اتفاق سنة‏1929‏ لمصر حق الرقابة علي النيل في السودان وفي البلدان الواقعة تحت النفوذ البريطاني‏.‏ فقد نص بين أمور أخري علي الآتي‏:‏
‏(‏أ‏)‏ إن المفتش العام لمصلحة الري المصرية في السودان أو معاونيه أو أي موظف آخر يعينه وزير الأشغال تكون لهم الحرية الكاملة في التعاون مع المهندس المقيم لخزان سنار لقياس التصرفات والأرصاد كي تتحق الحكومة المصرية من أن توزيع المياه وموازنات الخزان جارية طبقا لما تم الاتفاق عليه‏.‏
‏(‏ب‏)‏ تلقي الحكومة المصرية كل التسهيلات اللازمة للقيام بدراسة ورصد الأبحاث المائية‏(‏ هيدرولوجيا‏)‏ لنهر النيل في السودان دراسة ورصدا وافيين‏.‏
‏(‏ج‏)‏ إذا قررت الحكومة المصرية إقامة أعمال في السودان علي النيل أو فروعه أو اتخاذ أي إجراء لزيادة مياه النيل لمصلحة مصر تتفق مقدما مع السلطات المحلية علي ما يجب اتخاذه من الإجراءات للمحافظة علي المصالح المحلية‏.‏ ويكون إنشاء هذه الأعمال وصيانتها وإدارتها من شأن الحكومة المصرية وتحت رقابتها رأسا‏.‏
‏(‏د‏)‏ تستعمل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمي وشمال إيرلندا وساطتها لدي حكومات المناطق التي تحت نفوذها لكي تسهل للحكومة المصرية عمل المساحات والمقاييس والدراسات والأعمال من قبيل ما هو مبين في الفقرتين السابقتين‏.‏
وتشتمل ترتيبات اتفاق سنة‏1929‏ علي قواعد تفصيلية بشأن التخزين والسحب من مياه النيل‏.‏ ويمكن إجمال بعض ما ترتب علي هذه القواعد فيما يلي‏:‏
‏(‏أ‏)‏ يحفظ لمصر حق الانتفاع بجميع مياه النيل وفروعه في الفترة من‏19‏ يناير إلي‏15‏ يوليو‏(‏ بتاريخ سنار‏)‏ باستثناء ما تستهلكه طلمبات الري في السودان‏.‏
‏(‏ب‏)‏ يحق للسودان رفع منسوب التخزين بخزان سنار بحيث يسمح بري ترعة الجزيرة في ظرف‏10‏ أيام ابتداء من‏16‏ يوليو بشرط أن يكون متوسط مجموع تصرف المياه في ملكال والروصيرص قد بلغ‏160‏ مليون متر مكعب يوميا وذلك خلال الأيام الخمسة السابقة لهذا التاريخ مع مراعاة فترة انتقال من ملكال قدرها‏10‏ أيام‏.‏ ويعرف هذا بالملء الأول‏.‏
‏(‏ج‏)‏ يحق للسودان ملء خزان سنار في المدة من‏27‏ أكتوبر إلي‏30‏ نوفمبر‏.‏ ويعرف هذا بالملء الثاني‏.‏
‏3‏ السودان يرفض في عام‏1958‏ اتفاقية عام‏1929‏
ابان الفترة الانتقالية التي سبقت الاستقلال أجريت مفاوضات مصرية سودانية بشأن مياه النيل لا مجال هنا لتفصيلها‏.‏ يكفي أن نذكر أنها انتهت إلي فشل تام وأزمة سياسية بين مصر وحكومة الحزب الوطني الاتحادي التي كانت علي سدة الحكم آنذاك‏.‏
وتسببت مياه النيل في أزمة سودانية مصرية في عهد آخر حكومة ديمقراطية قبيل انقلاب‏17‏ نوفمبر‏1958.‏ كان يرأس تلك الحكومة التي كانت ائتلافية بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي‏,‏ عبد الله خليل‏.‏ وكان وزير الري فيها ميرغني حمزة‏.‏
ففي‏2‏ يوليو‏1958‏ بدأت سلطات الري في السودان في حجز المياه عند خزان سنار لملء القناة الرئيسية للامتداد الجديد لمشروع الجزيرة أي امتداد المناقل‏.‏ وكان ذلك قبل التاريخ المحدد في اتفاقية سنة‏1929‏ وهو‏16‏ يوليو من كل عام‏.‏ وفي‏9‏ يوليو بعثت الحكومة المصرية بمذكرة احتجاج لحكومة السودان علي الاجراء الذي قامت به سلطات الري السودانية‏.‏ جاء في المذكرة المصرية أن تغيير مواعيد الحجز عند خزان سنار يعد خرقا لاتفاقية عام‏1929‏ وطالبت بالايقاف الفوري له‏.‏ وجاء فيها أيضا أن التوسع في امتداد المناقل سيؤدي إلي سحب كميات من النهر تؤثر في ملء خزان أسوان وحرمان ربع مليون فدان من الزراعة الصيفية وتشريد مليون وربع من الأنفس‏.‏ وذلك فضلا عن تعذر ملء سبعمائة ألف فدان من أراضي الحياض وما سيترتب علي ذلك من نتائج اجتماعية واقتصادية‏.‏
ردت حكومة السودان علي الحكومة المصرية بمذكرة بتاريخ‏15‏ يوليو‏1958.‏ جاء في المذكرة السودانية أن رفع مستوي الماء في خزان سنار مسألة فنية كان ينبغي أن تترك لتعالج بين الدوائر الفنية في البلدين بنفس روح التعاون والثقة المتبادلة التي استقرت منذ استقلال السودان‏.‏ وأبدت حكومة السودان أسفها لأن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تترك هذه المسألة الفنية لتعالج في الإطار الفني‏,‏ بل آثرت تحويلها إلي نقاش حول ما يسمي اتفاق‏1929‏ الذي لم يكن السودان طرفا فيه‏.‏
وإزاء اتفاق‏1929‏ ذكرت حكومة السودان أنها لم تعترف في أي وقت بأنها ملزمة بهذا الاتفاق‏,‏ وأن الاتفاق قد أبرم بين الحكومتين المصرية والبريطانية كجزء من تسوية سياسة عامة دون اعتبار لمصالح السودان‏.‏ ثم أشارت المذكرة إلي أنه عند إعلان استقلال السودان طلبت دولتا الحكم الثنائي من حكومة السودان أن تبدي ما إذا كانت راغبة في إعطاء الأثر الكامل للاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها دولتا الحكم الثنائي نيابة عن السودان أو طبقتها عليه‏.‏ عندئذ طلبت حكومة السودان من دولتي الحكم الثنائي أن تحددا تلك الاتفاقيات والمعاهدات لتنظر فيها‏.‏ وبما أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تقدم اتفاق‏1929‏ كواحد من تلك الاتفاقيات فينبغي ألا تتوقع أن تعطي حكومة السودان أي اعتبار لذلك الاتفاق‏.‏
وفي فقرة تالية من المذكرة‏,‏ أكدت حكومة السودان أنها لن تقبل أحكام اتفاق‏1929‏ كأساس لما ينبغي أن تقوم به أو تمتنع عن القيام به‏.‏ وبالمثل فإن أي اتهام بخرق اتفاق دولي لن يكون مقبولا‏.‏ وقد ظلت حكومة السودان علي موقفها هذا إزاء اتفاق‏1929‏ حتي وقوع الانقلاب العسكري في‏17‏ نوفمبر‏1958.‏
‏4‏ موقف دول شرق أفريقيا الثلاث من اتفاقية عام‏1929‏
رفضت تنجانيقا عند استقلالها أن توقع مع المملكة المتحدة اتفاقية أيلوله‏.‏ وأصدر الرئيس نايريري في الجمعية الوطنية في‏30‏ نوفمبر‏1961‏ إعلانا حدد فيه موقف تنجانيقا من المعاهدات التي أبرمتها المملكة المتحدة نيابة عن تنجانيقا أو التي طبقتها عليها‏.‏ وأصبح ذلك الإعلان يعرف فيما بعد بمبدأ نايريري‏.‏ أبلغ نايريري الأمين العام للأمم المتحدة بالإعلان بمذكرة بتاريخ‏9‏ ديسمبر‏1961.‏ ورد في المذكرة أن تجانيقا ستستمر لمدة عامين‏,‏ وعلي أساس المعاملة بالمثل‏,‏ في تطبيق المعاهدات الثنائية التي أبرمتها المملكة المتحدة نيابة عن تنجانيقا أو التي طبقتها عليها‏.‏ وورد في المذكرة أيضا أن تنجانيقا تأمل أن تتمكن خلال فترة العامين وعبر المفاوضات من الوصول إلي اتفاق مرض مع الدول المعنية بشأن احتمال استمرار أو تعديل مثل هذه المعاهدات‏.‏ أما بعد انتهاء فترة العامين‏,‏ فإن تنجانيقا ستقرر أن المعاهدات التي لا يمكن اعتبارها باقية بتطبيق قواعد القانون الدولي العرفي‏,‏ قد انقضت‏.‏
وفي‏4‏ يوليو‏1962‏ أبلغت تنجانيقا السودان ومصر والسلطات الحاكمة في كينيا وأوغندا بمذكرات متماثلة بأن أحكام اتفاقية عام‏1929‏ والتي تنص علي أنها تنطبق علي البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية لا تلزم تنجانيقا بعد استقلالها‏.‏
ويبدو أنه كان من رأي تنجانيقا أن الاتفاقية التي ترمي إلي إلزام تنجانيقا دائما بالحصول علي موافقة الحكومة المصرية قبل القيام بأي أعمال ري أو توليد طاقة أو أي إجراءات أخري مماثلة في بحيرة فكتوريا‏,‏ أو في مستجمع مياهها‏,‏ لا تنسجم مع مركز تنجانيقا كدولة مستقلة ذات سيادة‏.‏
وبعد استقلالهما في عامي‏1962‏ و‏1963‏ علي التوالي‏,‏ اتبعت أوغندا وكينيا نهج تنجانيفا إزاء الاتفاقيات التي أبرمتها بريطانيا نيابة عن كل منهما أو التي طبقتها عليهما‏.‏ وقد تكرست مواقف هذه الدول الثلاث إزاء اتفاقية عام‏1929‏ بعد التوقيع في مايو‏2010‏ علي اتفاقية بشأن الإطار التعاوني لحوض نهر النيل‏.‏
‏5‏ تقييم الموقفين السوداني والافريقي
سبق لنا القول إن الاتفاقيات التي ترتب حقوق مياه أو ملاحة في نهر ما تعتبر اتفاقيات إقليمية لأنها ترتب حقوقا علي الإقليم نفسه فتدمغه بوضع دائم لا يتأثر بالتغيرات التي تطرأ علي شخصية الدولة التي تمارس السيادة علي الاقليم‏,‏ وحلول دولة محل أخري في السيادة علي الاقليم‏.‏ فهذا النوع من الحقوق لا يتأثر بحدوث حالة خلافة‏.‏ وقد دونت لجنة القانون الدولي هذه القاعدة في المادة‏12‏ من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام‏1978‏ التي تنص علي عدم تأثر النظم الاقليمية بخلافة الدول‏.‏
وقد طبقت محكمة العدل الدولية محتوي المادة‏12‏ من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام‏1978‏ في قضية مشروع جابتشيكوفو ناجيماروس بين هنجاريا وتشيكوسلوفاكيا‏.‏ نشأت وقائع هذه القضية من معاهدة أبرمت في عام‏1977‏ بين هنجاريا وتشيكوسلوفاكيا بغرض الدخول في استثمار مشترك لاستغلال قطاع معين من نهر الدانوب‏.‏ ولكن في‏31‏ ديسمبر‏1992‏ انتهي وجود تشيكوسلوفاكيا ككيان قانوني وظهرت جمهوريتا سلوفاكيا والتشيك‏.‏ علي هذا الأساس دفعت هنجاريا بأن سريان معاهدة‏1977‏ قد توقف بعد‏31‏ ديسمبر‏1992.‏ ولكن محكمة العدل الدولية استنتجت أن محتوي معاهدة‏1977‏ يشير إلي وجوب اعتبارها بمثابة تأسيسا لنظام إقليمي في إطار معني المادة‏12‏ من اتفاقية فيينا لسنة‏1978.‏ فقد أوجدت حقوقا وواجبات مرتبطة بأجزاء نهر الدانوب المتعلقة بها‏,‏ وبالتالي لا تتأثر المعاهدة نفسها بخلافة الدول‏.‏ واعتبرت المحكمة المادة‏12‏ من اتفاقية فيينا عاكسة لقاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي‏.‏
‏6‏ اتفاقية‏8‏ نوفمبر عام‏1959‏
‏(1)‏ تراجعت حكومة ابراهيم عبود العسكرية عن الموقف الذي اتخذته الحكومة الديمقراطية التي سبقتها بشأن اتفاقية عام‏1929,‏ إذ اعترف السودان في ديباجة الاتفاقية وفي الفقرتين‏1‏ و‏2‏ من البند‏(‏ أولا‏)‏ باستمرار سريان اتفاقية عام‏1929‏ وبالحقوق المكتسبة للبلدين بموجبها‏.‏ وكان مقدار تلك الحقوق‏48‏ مليارا من الأمتار المكعبة لمصر وبالنسبة للسودان‏4‏ مليارات مقدرة عن أسوان سنويا‏.‏
‏(2)‏ بموجد البند‏(‏ ثانيا‏)‏ من الاتفاقية أصبح ضبط النهر يتم في السد العالي داخل الأراضي المصرية‏.‏ قدر متوسط إيراد النهر في أسوان بنحو‏84‏ مليار سنويا‏,‏ وقدر فاقد التخزين بالتبخر في السد العالي بحوالي‏10‏ مليارات وهو من أعلي المعدلات عالميا‏.‏ بعد خصم الحقوق المكتسبة للطرفين وفاقد التخزين في السد العالي‏(84‏ 52‏ 10)‏ أصبح صافي فائدة السد العالي‏22‏ مليارا خصص منها للسودان‏14.5‏ مليار وأصبح نصيبه بعد إضافة الحق المكتسب‏18.5‏ مليار‏(14.5+4)‏ وخصص لمصر‏7.5‏ مليار وأصبح نصيبها بعد اضافة الحقوق المكتسبة‏55.5‏ مليار‏(7.5+48).‏
‏(3)‏ تناول البند‏(‏ ثالثا‏)‏ من الاتفاقية مسألة استغلال المياه الضائعة في حوض النيل‏.‏ إذ نصت الفقرة‏(1)‏ من هذا البند علي أن يتولي السودان بالاتفاق مع مصر إنشاء مشروعات زيادة إيراد النيل لمنع الضائع من مياهه في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وفروعه ونهر السوباط وفروعه وحوض النيل الأبيض‏.‏ ويكون صافي فائدة هذه المشروعات من نصيب الدولتين بحيث يوزع بينهما مناصفة ويساهم كل منهما في جملة التكاليف بهذه النسبة أيضا‏.‏
من المهم نذكر هنا أنه قد بدأ في منتصف عام‏1978‏ العمل في تنفيذ واحد من مشروعات استرداد المياه الضائعة وهو المرحلة الأولي من قناة جونقلي‏.‏ شملت هذه المرحلة حفر قناة من بور في بحر الجبل إلي نهر سوباط بطول يبلغ حوالي‏360‏ كيلو مترا‏.‏ ستتفادي القناة السدود وتحول جزءا من تصريف بحر الجبل مباشرة إلي نهر سوباط‏.‏ وقد تم تنفيذ أكثر من ثلثي المشروع وكان من المقرر أن ينتهي العمل فيه في عام‏1985‏ ولكن الحرب الأهلية حالت دون ذلك‏.‏ وإذا قدر للمشروع أن يكتمل فإنه كان سيرفد إيراد النيل بحوالي‏4.75‏ مليار متر مكعب عند ملكال وتقدر بنحو‏3.85‏ مليار في أسوان‏.‏
نعيد إلي الأذهان أن الحكومة الاقليمية لجنوب السودان التي كان يرأسها ابيل الير قد وافقت علي مشروع قناة جونقلي‏.‏ ولكن دوائر جنوبية أخري من بينها الحركة الشعبية رفضته لاسباب مختلفة سياسية واقتصادية وبيئية‏.‏ وقد كان من أبرزها أن المشروع سيدمر بيئة المنطقة ويغير أنماط حياة السكان المحليين‏.‏
‏(4)‏ أنشأ البند‏(‏ رابعا‏)‏ من اتفاقية‏1959‏ هيئة فنية مشتركة تتكون من عدد متساو من كل طرف‏.‏ وقد أسندت إلي الهيئة عدة اختصاصات من بينها رسم الخطوط الرئيسية للمشروعات التي تهدف إلي زيادة إيراد النيل والاشراف علي البحوث اللازمة وعلي تنفيذ المشروعات التي تقرها الحكومتان‏.‏
‏(5)‏ اعترفت الفقرة‏2‏ من البند‏(‏ خامسا‏)‏ بحق الدول الأخري المشاطئة للنيل في حصص من مياهه‏.‏ تنص هذه الفقرة علي أن يبحث السودان ومصر معا مطالب الدول الواقعة علي النيل بنصيب من مياهه‏,‏ ويتفقان علي رأي موحد بشأن هذه المطالب‏,‏ وإذا أسفر البحث عن تخصيص أي قدر من إيراد النهر لأي من هذه الدول‏,‏ فإن هذا القدر يقتطع مناصفة من حصة الدولتين‏.‏
‏(6)‏ إن اتفاقية مياه النيل لعام‏1959‏ اتفاقية ثنائية ولا تلزم غير أطرافها أي مصر والسودان‏.‏ ولكن فيما يتعلق بحقوق المياه التي نص عليها‏,‏ فإن اتفاقية عام‏1959‏ وقبلها اتفاقية عام‏1929‏ قد أنشأتا نظاما اقليميا وفقا للقانون الدولي العرفي الذي دونته المادة‏12‏ من اتفاقية فيينا لخلافة الدول في المعاهدات لعام‏1978.‏ وستكون الدولة التي ربما تقام في الجنوب إذا رجح خيار الانفصال‏,‏ ملزمة بهذا النظام‏.‏ يترتب علي ذلك أن هذه الدولة تستحق حصة في مياه النيل خصما علي حصة السودان بموجب اتفاقية عام‏1959.‏ ولكن هذه الدولة لن تكون ملزمة ببنود الاتفاقية المتعلقة بتنفيذ مشروعات استرداد الضائع من مياه النيل في اقليم جنوب السودان‏.‏ ولا مجال لعضوية تلقائية لدولة الجنوب في الهيئة الفنية المشتركة لمياه النيل‏.‏ ففي واقع الأمر إن الهيئة عبارة عن حلف مائي ثنائي مغلق‏.‏ إذ لا يوجد في اتفاقية عام‏1959‏ نص يسمح باستيعاب إقليم جنوب السودان وأي دولة أخري من دول حوض النيل في الهيئة الا اذا عدلت الاتفاقية‏.‏ فانفصال الجنوب وإنشاء مبادرة حوض النيل لم يكونا في الحسبان عندما أبرمت اتفاقية عام‏1959.‏
في الختام نعيد القول بأن هناك التزاما علي طرفي اتفاقية السلام بالتفاوض بحسن نية لتسوية جميع مسائل الخلافة‏.‏ ولهما أن يسترشدا في ذلك بالاتفاقيات التي سقنا أطرافا منها‏.‏ غير أن الأساس يبقي دائما اتفاق الطرفين‏.‏ ومن الحكمة الاستعانة بالخبرة القانونية التي عملت في مجال خلافة الدول في العقدين الماضيين‏.‏ وكذلك بالبنك الدولي وصندوق النقد في الشأن المتصل بالدين الخارجي‏.‏ وإذا أخفق الطرفان في التوصل إلي تسوية عبر التفاوض‏,‏ فلن يكون أمامهما سوي استدعاء وسائل التسوية عن طريق طرف ثالث‏.‏ وقد يكون ذلك بعرض الخلاف علي التوفيق أو التحكيم أو التسوية القضائية‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.