من هو هذا المناضل في جبهتين: جبهة الثقافة الإفريقية وجبهة السياسة، فقد كان أول رئيس لجمهورية السنيجال؟ أهم ما يميز نشأة سنجور هو أصوله العرقية، فقد ولد بقرية «جوال»، في 9 أكتوبر 1906، والقرية من القري الساحلية، تدفع من يتوق إلي معرفة العالم من سكانها إلي أن يتطلع إلي ما وراء البحر، ووالده من كبار التجار في المنطقة، غير أن هذا الثراء لم يؤثر علي الطفل ليوبولد، فقد كان يتساءل، في حيرة، عن الهوة الواسعة بين المزارعين وبين كبار الاقطاعيين، وخاصة من يدينون بالولاء للمستعمر الفرنسي. هذا التناقض سيظل محور اهتماماته حتي يصبح واحدًا من كبار مفكري إفريقيا. عامل آخر يلعب دورًا في حياة ليوبولد، هو «الأم» فالأم سليلة قبائل البول Peuls أو البولس، وهي قبائل وفدت إلي إفريقيا عابرة البحر الأبيض، ولا يدري أحد من أين جاءت، لكنها كانت تحمل معها ثقافة واسعة لا يصل إليها الإفريقي. ما هذه الثقافة؟ إنها نظريات في الفلك والرياضيات والموسيقي، ومع ذلك تفتت كلها باندماج قبائل البول في المجتمع الإفريقي. واستولي ذلك علي اهتمامات الصغير، وظل يبحث عن جذور البول وجذور سكان إفريقيا الأصليين، طوال فترة دراسته. وحصل علي البكالوريا (إتمام الثانوية) عام 1928 وفوجئ بأن السلطات الفرنسية المحتلة قد وضعته علي قائمة المبعوثين لإتمام دراستهم بباريس. ذلك أن الاستعمار الفرنسي لا يقوم علي وضع البلاد تحت سلطة جيش وقوات قمع بوليسية، وإنما يهدف إلي ما يسمونه بالتمثل Assimilation، أي «فرنسة» العقل الإفريقي، بحيث تصبح الإدارة التنفيذية لسياسة فرنسا وراء البحار (أي المستعمرات). في باريس، التحق بليسيه لوي لوجران، وهي الليسية التي تخرج فيها كبار سياسيي وعلماء فرنسا، وكان زميله في الدراسة جورج بومبيدو، ثم زميل آخر، أتي من المارتينيك، هو «إيميه سيزير» الشاعر والكاتب المسرحي الشهير. مع سيزير، كان ليوبولد يبحث عن تحديد علمي لسلوك الفرد الإفريقي، فقد كانت نظريات الأجناس، خاصة نظريات جبينو، تقسم العالم حسب ألوان البشرة لا حسب الفاعلية الحقيقة مع عناصر، الطبيعة، وتنتهي بأن الجنس الأبيض له خصائص تميزه عن سائر الأجناس الأخري، أهمها التفوق الذهني، علي عكس الجنس الأسود، فهو ينزع إلي اللهو والخمول. أهذا صحيح؟ من هذا السؤال بدأ عمل سنجور مع زميله ما هو واضح تمامًا، هو الفرق بين ممارسة الحياة في أوروبا وممارستها في إفريقيا ففي أوروبا، البيروقراطية، والتكنوقراطية، والإيقاع الآلي، والكل يعمل علي تطوير الإنتاج السلعي، بينما في إفريقيا، العمل في الحقول يظل مصحوبًا بالغناء، وكذلك العمل في الموانئ، ومع كل دورة من دورات الحياة، ميلاد، بلوغ، زواج، زيادة المحصول، إلخ، كلها تبدو وقد اتخذت شكل احتفال: رقص، وغناء، وكوميديا مرتجلة. بإيقاع التام تام ليس مجرد قرع طبول، بل «منظم» لزمن العمل ولزمن اللهو ولزمن الراحة، وكلها مظاهر حضارة عمرها أكثر من خمسة آلاف عام، بينما الحضارة الأوروبية لم تبدأ إلا مع عصر النهضة في القرن السادس عشر. وسنري، فيما بعد، كيف وصلا إلي صقل نظرية، أطلقا عليها: «الزنجية»، وهي تعني وعي الزنجي، سواء في أمريكا، أو في تايلاند أو في هايتي أو في فرنسا، تعني وعي الزنجي بمكتسبه النادر: الموسيقي التلقائية، الرقص، التمثيل الصامت (الميم) النحت. كيف يعامل كجنس أدني من قبل من لم يكن لهم تاريخ، كالبيض في الولاياتالمتحدة؟ وكانت نقطة البدء هي التحرك في الأوساط الطلابية، بحيث يحمل كل طالب أسود هذا المكتسب، ثم يقوم بنشره في الوسط المحيط به. واستتبع ذلك إصدار مجلة «الطالب الأسود». LصEtuetiant Norir (1928). نقطة التحول ثم بدأت نقطة تحول جذري في حياة ليوبولد، عندما أخذ يتردد علي الصالون الأدبي ببيت الشقيقات الثلاث: بوليت وجين وسوزان ماردال. كانت تقام أمسية مناظرة كل أحد، وقد استقرت الشقيقات الثلاث بباريس، بعد أن تركن موطنهن الأصلي: «المارتنيك». وفي هذا الصالون كان يتردد من كبار شعراء فرنسا، أندريه بريتون، رائد تيار السيريالية، وابستين منظر سينما الطليعة، وفرنان ليجيه، أما السود. فكانوا رواد حركة «نهضة هارلم» Harlem Renaissana، وعلي رأسهم كبير شعراء أمريكا وقتذاك، «لانجستون هوجز» والروائي ريتشارد رايت. كتابات هوجز كان لها تأثير كبير علي مفهوم: «الزنجية» لدي سنجور فهوجز وضع يده علي ما ينفرد به الزنجي من وسائل التعبير، ألا وهي موسيقي الجاز، ثم ما يتفرع منها من رقصات إفريقية. ما من ناد ليلي إلا ويرقص فيه البيض علي تلك الأنغام، خاصة الجيرك، وإلي يومنا هذا والجاز ليس مجرد موسيقي ولا هو لهو راقص، وإنما تجسيد صوتي لعناصر الطبيعة، ودعوة للزنجي (ثم إلي الإنسان بصفة عامة) إلي الاستحواذ علي قوي الطبيعة وفي عصور ازدهار الحضارة الإفريقية، إبان إمبراطورية غانا مثلاً، صيغت علوم الفيزياء والرياضيات علي أساس انتخاب ثم تحليل عناصر الطبيعة، صوتيًا. من كل هذا يخرج سنجور بمفهومه للإيقاع. وسنعود إليه. أما الآن، ما الذي يفعله هذا الشاب الأسود غير التردد علي صالون: «الشقيقات ماردال»؟ في مجال الدراسة الأكاديمية، ارتقي سنجور سلم التعليم الجامعي بخطي سريعة، لكنها ثابتة، حتي وصل إلي أعلي دبلوم، بعد الدكتوراه ألا وهو الأجريجاسيون ويمكن مقارنتها بالعالمية في الدراسات الأزهرية، وتخصص في فقه اللغة الفرنسية ونحوها، والمتخصصون من الفرنسيين في هذا المجال لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة بحصوله علي لقب أستاذ Professeur، اتجه سنجور إلي التدريس. ثم اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية وككل مثقفي فرنسا وقتذاك، كان عليه الالتحاق بإحدي وحدات الجيش، وبعد عدة معارك أسر سنجور وعومل كسجين حرب، وهي تجربة قادته إلي الوعي بميكانيزمات السياسة، وبضرورة تحول الإفريقي من مجرد ممارس لتقاليده، إلي مناضل من أجل استقلال بلاده، من أجل حرية السود في شتي أنحاء العالم. والتحق بالحزب الاشتراكي، وشدته الديبلوماسية الفرنسية فإذا به نائب السنجال في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) ثم وكيل وزارة، ثم في 1955 سكرتير دولة في رئاسة المجلس (ما يعادل وزير). وأفريقي يرتقي إلي هذه المناصب، علميًا وديبلوماسيًا، لابد وأن يتثبت بالعمل داخل المؤسسة الفرنسية الآم: «فرنسا ما وراء البحار». لكن لا، فليوبولد ابن فلاحة، وهو يعرف معاناة المزارعين وانتزاع ملكية الأراضي باغراق المزارع بالقروض البنكية، ثم الحجر علي ممتلكاته، ولابد من نظام جديد، يقوم علي فرض ضرائب علي المحصول، ولا شيء غير ذلك. ومن هنا انضمام سنجور إلي الحزب الاشتراكي، وحاول من 1946 إلي 1958 إصدار قوانين للإصلاح الزراعي، وأخري لمجانية التعليم، وخاصة التعليم الإجباري، فنسبة المتعلمين ولا أقول المثقفين لا تصل إلي واحد في المائة. ومن أجل ذلك خاض معارك عنيفة، سواء داخل الحزب بالسنجال أو داخل البرلمان الفرنسي (الجمعية العمومية) ووصل إلي هذه النتيجة «من العبث العمل داخل حزب رئيسه بوقف كل عمل وطني ولا يهتم إلا بمنصبه والولاء للسلطة الفرنسية». استقال سنجور من الحزب، وجمع أنصاره وتلامذته لتكوين حزب جديد، هو: «الكتلة الديمقراطية». وكانت انتخابات 1958 وتوجه حزب الكتلة الديمقراطية إلي الريف، إلي الأغلبية، بينما ظل الحزب الاشتراكي حزب موظفي الكوميون (البلدية) الفرنسية، حزب التجار وأصحاب البنوك. وكانت المفاجأة: فاز حزب الكتلة الديمقراطية بأغلبية الأصوات وبدأ عمل سنجور السياسي. هل طرح جانبًا ما كان يحلم به وهو في باريس، استخدام الشعر والسرد القصصي والموسيقي لرد السود في كل مكان إلي جذور حضارتهم، كي يسيروا مرفوعي الرأس، كلهم فخور بماضيه الحافل؟ حتي عندما أصبح أول رئيس لجمهورية السنغال؟ وحتي عندما أعيد انتخابه لمرات عديدة، رئيسًا في 1963 ثم في 1968 ثم في 1973؟ كلا. ها هو مع أصدقائه مؤسسي دار نشر ومجلة: «الحضور الإفريقي» (Présence A Africaine) يواصل الكتابة النظرية، كما يتحف المجلة بين الحين والآخر بقصيدة. نظرية سنجور تتلخص نظرية سنجور في هذه المفاهيم: 1- مفهوم الإيقاع وهو ليس المفهوم الساذج القائم علي توالي وتباين المقاطع الطويلة والمقاطع القصيرة، في الشعر أو الموسيقي، بل هو انتزاع مظاهر تعبير الطبيعة عن نفسها، بالهمس وحفيف الأشجار، بالبرق، بالرعد بالأمطار إلخ. فكلها تدخل في حياتنا وتشكل واقعنا: ألا يمكن قيام مجتمع زراعي بلا نهر أو أمطار؟ الاستحواذ عليها، علي قوتها، هذا النفاذ إلي ميكانزمات إيقاعها. فالفيزياء أعداد وعناصر، وكذلك الطبيعة. وكذلك الرياضيات. وكذلك الموسيقي يقول سنجور: «في المجتمع الإفريقي، ليست الموسيقي فنًا قائمًا بذاته، فقد ولدت، أصلاً لمصاحبة الأغاني والرقص في الطقوس أما في المجال الدنيوي، لم تستطع الموسيقي أن تكون فنًا مستقلاً، فهي تتخذ مكانها الطبيعي في الأنشطة الجماعية، كالمسرح. وأغاني العمل في الحقول، بل تصاحب أيضًا مباريات المصارعة وحتي قرع الطبول إيذانًا بحلول الليل، لم يكن هدف الموسيقي أن تكون تعبيرًا جماليًا لأنها تأخذ أتباعها لتقودهم إلي أقصي درجات المشاركة الجماعية، في حلبة الرقص. الواقع أن أغلب هذا التراث ما زال يحمله السود خارج القارة السوداء، في المستعمرات وفي الولاياتالمتحدة، فالموسيقي الإفريقية، مثلها مثل فن النحت، تضرب بجذورها في باطن الأم المرضعة، إنها إيقاع الأرض، ضوضاء الأرض أصواتها». 2- أما المفهوم الثاني، فهو : «التسمية»، فإن تحدد لي شيء أو ظاهرة فأنت تنتخب ما بها من عناصر، وتنزعها من «عمومية» الحياة، من إيقاع العمل الرتيب، لتبرزها، كي توصلني إلي إشراقة الوعي بدلالتها. إن أستاذ فقه اللغة وصاحب نظرية الإيقاع قد وصل إلي أن المقاطع الصوتية ليست مجرد مقاطع كلمات، بل هي إشارات إلي ما وراء الإدراك العام، هي حدس. 3- أما المفهوم الثالث: فهو الدعوة إلي عالمية السود في كل مكان يوجدوا فيه، وهو هنا يردد نفس المبدأ الذي نادت به جين ماردال في العشرينات، ولم يتبق من هذه الدعوة حاليًا، إلا الإطار الرسمي بما يسمي بالوحدة الإفريقية. هذه هي الملامح العامة لأحد صناع النهضة الإفريقية وأحب أن أضيف امتداد هذه الدعوة إلي تضامن الوحدة الإفريقية بالوحدة العربية. وهو المشروع الذي أدي إلي إنشاء المنتدي العربي- الإفريقي، وقد أقيم بقرية أصيلة، جنوب طنجة بالمغرب العربي، بناء علي دعوة السياسي والمفكر محمد بن عيسي. كان ذلك عام 1988، إن لم تخني الذاكرة، وكان عددنا كمؤسسين قد وصل إلي الأربعين، ووضع ميثاق لهذا المنتدي، ولو امتد بسنجور العمر، لحدث انصهار بين الأفارقة والعرب، لا علي المستوي الرسمي، بل علي مستوي الوعي. ولنرجع إلي سنجور الشاعر أنها قصيدة بعنوان : «الرقص» نسمعه يقول: «صوت له هفهفة القطيفة «وقرع الطبول «هذا الصوت اللاذع «إنه يقودك إلي أعماق، أعماق، العصور «أنه يستدعي صورة الساحل «بمراعيه النادرة «وصورة الرقص حول لهب النار «و.. تصفيق الأيدي، ودبدبة الأرجل «والصياح.. والصراخ، واليويو «والنساء وقد توشحن باليويو طرز بباقة من الألوان ها هن يرقصن بانسياب، برقة فائقة وفجأة تسكن أجسادهم أرواح طبول التام- تام إيقاعها يسرع، يسرع والأجساد تتحرر من قيودها مثلما يتحرر من العوارض الباحث عن الذهب مثل ممزق الأغلال هذا سيقان تنثني، وعضلات نافرة، تقفز مموجة للصدور دافعة إياها إلي الأمام بأذرعتها القوية إنه الرقص الوحشي القوة التي تتجدد «النار المقدسة وهي تبعث برسالتها.