أدان وحشية الغرب وأعاد للأسود إنسانيته باريس تؤبن رسمياً الشاعر الزنجي إيمي سيزير محيط - شيماء عيسى سيزير بالقارة السمراء "لا نخلق سوداً ، بل هذا ما نصبحه " كلمة تلخص فلسفة أحد الشعراء الزنوج العالميين ، والذي أقامت الجمعية الوطنية الفرنسية أول أمس الثلاثاء تأبينا رسميا له ، هو إيمي سيزير الذي توفي يوم 17 أبريل الماضي في مسقط رأسه بجزيرة المارتينيك الفرنسية في البحر الكاريبي عن عمر ناهز 94 عاما ، وحضر المناسبة رئيس الوزراء فرانسوا فيون وعدد من أعضاء حكومته. واعتبر رئيس البرلمان برنار أكويير ، وفق عبدالله بن عالي بفضائية "الجزيرة" القطرية ، أن الراحل كان "شاعرا عملاقا ومثقفا ملتزما"، مشيرا إلى أنه كان أبا مؤسسا لتيار الزنجية في الأدب الفرنكفوني و"رجل عزة السود وأحد الضمائر الحية الكبرى في القرن العشرين".
بينما أكد رئيس البرلمان أن الأديب لم يهادن قط في معركته من أجل انتزاع حقوق السود الفرنسيين في المساواة والكرامة، وتابع قائلا "كان لدى إيمي سيزير إيمان لا يتزعزع بالآخر حتى وإن كان هذا الآخر هو من يقمع ومن يخطئ". واعتبر أكويير الذي أشار إلى تمكن الكاتب من اللغة الفرنسية وحبه لها، أن مكانة سيزير الرفيعة في مصاف عظماء فرنسا تقوم على ما أعطاه للبلد كسياسي ذكي ونقي وعلى ما قدمه ككاتب كبير لفرنسا "التي دأبت منذ الأزل على أن تخص كبار مبدعيها بأسمى التكريم".
من جانبه أشار رئيس الوزراء فرانسوا فيون إلى أن سيزير حينما وضع عام 1934 مفهوم "الزنجية" مع الشاعر والرئيس السينغالي الراحل ليبولد سدار سينغور، أراد أن يجعل منه نبراسا يمكن أحفاد ضحايا الرق من استعادة هويتهم وكرامتهم واعتزازهم بأنفسهم. سنوات سيزير مع الكفاح ملصق تابين سيزير بباريس كتب د. عبدالملك مرتاض بصحيفة "الاتحاد" الإماراتية عن سيزير " .. وهو من أصل إفريقيّ ممّن أُخِذوا قهراً بالسلاسل ليكونوا عبيداً للأمريكيّين في محنة إنسانيّة رهيبة، ولذلك لا تزال إفريقيّته تتنازعه على الرغم من أنّ دانيال ماكسيمي الذي كتب عنه مقالة في الموسوعة العالميّة يجعله غيرَ منتمٍ لأيّ قارّة فيزعم أنّه ليس إفريقيّاً، ولكنّه ليس أيضاً أروبياً! وقد كان صديقاً لفرانس فانون الذي ناضل في الثورة الجزائريّة" . ولد إيميه سيزير في العام 1913 في الباس بوانت في المارتينيك ، في عائلة تتكون من سبعة أطفال ، كان والده معلما ووالدته خياطة ، وكان جده هو المعلم الأسود الأول في المارتينيك ، وكانت جدته تعرف القراءة والكتابة على خلاف بنات جيلها من المارتينيكيات ، وقد علمت أحفادها القراءة والكتابة . من العام 1919 إلى العام 1924 أنهى دراسته الإبتدائية في الباس بوانت ، وبعد ذلك درس الثانوية في شولشر في مركز المارتينيك ، وفي العام 1931 وصل إلى باريس في زمالة منحته له الحكومة الفرنسية في مدرسة ثانوية لويس لو الكبيرة ، وهناك قابل ليبولد سنغور الذي استمر معه بصداقة استمرت حتى نهاية حياة الأول. ،، ابتكر سيزير مفهوم الزنوجة رداً على القمع الفرنسي ،، وهناك عاش كطالب أفريقي شاب في باريس ، وقد اكتشف بشكل تدريجي الثقافة العنصرية وطرد المكون الإفريقي من الهوية العالمية ، وفهم بشكل كامل ضحايا العزل الثقافي في المجتمعات الإستعمارية ، هناك أيضا أدرك إيميه سيزير فكرة النضال من أجل الحرية والانعتاق من العزل الثقافي ومن الهيمنة الاستعمارية ، فأسس في أيلول من العام 1934 مع ليوبولد سنغور منظمة صحيفة الطالب الأسود ، والتي تبنى من خلالها مجموعة من المثقفين الأفارقة مبدأ الزنوجة "La Nژgritude" ، وهو مفهوم ابتكر من قبل أيمي سيزير كرد فعل على الظلم الثقافي للنظام الإستعماري الفرنسي ، ويستبنى على رفض شامل للثقافة الفرنسية ويروّج لأفريقيا وثقافتها. وهو رد فعل صارخ على القمع الثقافي الذي مارسه النظام الاستعماري الفرنسي آنذاك على المارتينيك بشكل خاص ، طامساً هويتها الأفريقية الأصليّة . كتب "دفتر العودة إلى الأرض الأم Cahier d'un retour au pays natal"في العام 1939 ، ومن خلال هذا الكتاب أعاد الاعتبار إلى أصوله الزنجية ، وفق مقالة الناقد العراقي علي بدر بشبكة الجيران ، فقد ضمت جزر الأنتيل في الكاريبي ولا سيما المارتينيك إلى فرنسا كواحدة من محافظاتها ، وما استطاع إنجازه هو تحقيق نظام مساواة الولايات ، فلم تستقل جزر الانتيل ، بل بقيت فرنسيّة كما هي منذ أكثر من ثلاثة قرون. سيزير : "الغرب قابع على كومة جثث إنسانية" عمل إيميه سيزير عمدة للفوردو فرونس ، ونائبا للمارتينيك ، وأصبح فيما بعد رئيسا للمجلس الإقليمي للمارتينيك ، ثم الجنرال العام على فردي فرونس. وأصدر خلال حياته مجلته الشهيرة مدارات Tropiques التي خلقت صراعا شهيرا مع إدارة حكومة فيشي التي هيمنت على فرنسا أثناء الاحتلال ، وكانت تنشر على العموم كتابات معادية للنازية ، واعتبر الكاتب عبده وازن بصحيفة "الحياة" اللندنية ، أنه وعلى الرغم من انتمائه للحزب الشيوعي الفرنسي عام 1945 فإنه لم يلبث أن استقال منه بعدما اجتاح الجيش الروسي المجر عام 1956 ، وكأنه لمس في الشيوعية ضرباً آخر من "الكولونيالية" التي ناضل ضدها طوال حياته. بل كأنه رأى فيها صلافة الغرب أيضاً، " الغرب القابع على كومة من جثث الإنسانية" بحسب تعبيره. ثم أسس سيزير الحزب التقدمي المارتينيكي وهو حزب قريب من الإشتراكيين ولكنه يؤمن إلى حد بعيد بقيم الديمقراطية والحرية. ،، رفض استقبال ساركوزي حينما رأى أن للإستعمار إيجابيات !،، كتب هاشم صالح بصحيفة " الأوان" الثقافية بعد وفاة سيزير يقول : " كان عند سيزير رفض عنيف للاستعمار إلى درجة انه رفض أن يستقبل نيكولا ساركوزي عام 2005 عندما كان وزيرا للداخلية في وقت صوت فيه البرلمان الفرنسي على نص يقول بان للاستعمار جوانب ايجابية! وجن جنون الرجل ورفض أن يستقبل وزير داخلية فرنسا على الرغم انه رئيسه بصفته عمدة لمدينة فور دوفرانس عاصمة المارتينيك. ثم عاد واستقبله عام 2007 بعد أن تراجعت الحكومة الفرنسية عن القرار الشائن وبعد أن أصبح ساركوزي مرشحا لرئاسة الجمهورية. ولكن تأييده ذهب إلى المرشحة الاشتراكية سيغولين رويال بسبب جذوره اليسارية السابقة. هذا وقد رفضت عائلته أن يلقي ساركوزي أي خطاب على قبره لكيلا يحصل أي استغلال سياسي للموضوع من قبل السلطة. فتخيلوا الأمر: رئيس جمهورية فرنسا لا يتجرأ على مواجهة عائلة الفقيد! عندنا كان سيقتله ويمشي في نعشه ويلقي خطابا طويلا على قبره ويمسح بعائلته الأرض.." الأسود يصبح لوناً للحرية من إصدارته أصدر سيزير مجموعة من الأعمال الشعرية منها : "الأسلحة العجائبيّة "في العام 1946 ، "شمس قطعت عنقها "في العام 1947 ، و"جسد ضائع ، "تخمر " في العام 1960 ، سجل الأرض في العام 1961 ، أنا الرق ، والمسرحيات التالية: "وخرست الكلاب " في العام 1958 ، "موسم في الكونغو" في العام 1966 ، "مأساة الملك كريستوف " في العام ,1963 العاصفة طبقا إلى شكسبير في العام 1986 كما كتب الكتب التالية: العبودية والإستعمار ، إعادة التوزيع: فيكتور شيولشر وإلغاء العبودية ، خطاب الاستعمار ، 1950 ، الثورة الفرنسية والمشكلة الاستعمارية في العام 1962 ، خطاب الزنوجة 1968. سيزير وصف الزنوج في قصيدته الشهيرة قائلاً: " أولئك الذين لم يخترعوا البارود والبوصلة، أولئك الذين لم يسيطروا على البخار والكهرباء، أولئك الذين لم يكتشفوا البحار ولا السماء، أولئك الذين لم يعرفوا من السفر إلا الاقتلاع... " . إنها ، وفق الكاتب عبده وازن ، صورة جارحة تعبّر عن حال الفقر والتخلف اللذين يحاصران عالم الزنوج من جراء الظلم الذي ألحقه بهم المستعمر الأبيض. ويقول عن زنوجته: " زنوجتي ليست حجراً، زنوجتي ليست برجاً ولا كاتدرائية، زنوجتي تغوص في الجسد الأحمر للأرض، تغوص في الجسد المتّقد للسماء" . هذا الأسود يريد الكرامة وفي قصيدة منشورة للشاعر ترجمها للعربية عبداللّطيف الوراري يقول فيها : هُنا حيْثُ الْمُغامرةُ ترْعى الْعُيونَ المُشعّة هُنا حيْثُ النّسْوةُ يتلأْلَأْنَ باللّغة هُنا حيْثُ الْمَوْتُ رائِعٌ في الْيَد مثْل عُصْفور وقْت الْحَليب هُنا حيْثُ السّرْدابُ يقْطف منْ تِلْقاء ركْعتِه تَرَفاً مِن الْحَدقاتِ جامِحاً أكْثر من دُوداتِ الْقزّ هُنا حيْثُ الأُعْجوبةُ الرّشيقة لمْ تترُكْ باباً إلّا طرقَتْه وأضْرمَتْه هُنا حيْثُ اللّيْلُ الشّديد ينْزف السُّرْعةَ مِنْ نباتاتٍ نقيّة هُنا حيْثُ نحْلُ النّجْمات يلْسع السّماء بقفيرٍ أكْثر توقُّداً من اللّيْل هُنا حيْثُ وقْعُ أعْقابي يمْلأُ الْفَضاء ويكْشفُ وجْه الزّمن مقْلوباً هُنا حيْثُ قوْسُ قُزَح كَلامي يتعهّدُ بِضمِّ الْغَد إِلى الْأَمل،والطّفْل إلى الْمَلِكة حَصَل أنْ شَتمْتُ أسْيادي، وعَضضْتُ جُنْد السّلطان حَصَل أنْ تأوّهْتُ في الصّحْراء حَصَل أنْ صرخْتُ في حُرّاسي حَصَل أنْ توسّلْتُ إِلى بناتِ آوى والضّباعِ رُعاةِ الْقَوافل أَرى الدُّخانَ ينْدفِع في فرَسٍ متوحّشة إِلى واجِهة الْمَشْهد يكفّ،لِلَحْظةٍ، طرَفَ ذنَب طاوُوسِه الرّقيق سُرْعان مايَنْشَقّ الْقَميصُ فجْأةً عَن الصّدْر إرباً إِرباً وَأَراهُ في الْجُزُر البريطانيّة،في الجزُر المُنْتثِرة في الصُّخور المفتّتة رويْداً رويْداً يذُوب في البحْر الرّائِق لِلْهَواء حيْثُ يغْتسِلُ في نُبوءَتِه فَمي وَعِصْياني وَاسْمِي.