يؤمن البسطاء بأن جنازتك هي ملخص حياتك، ولو تخيلنا تطبيق هذه المقولة على سمير القنطار لربما شهدت جنازته سجالاً وجدالاً لا ينتهي. سمير قنطار، أحد قادة حزب الله والذي أعلن الحزب مقتله البارحة، إثر قصف جوي لمحل إقامته في سوريا. ليثير الخبر عاصفة جدل جديدة، عن الرجل الذي صار مماته محل خلاف كما كانت حياته. ولد سمير القنطار في يوليو 1962 في قرية صغيرة بمقربة من بيروت، وقد قرر المراهق اللبناني الغاضب من الاحتلال الصهيوني الانضمام في سن الرابعة عشرة إلى جبهة التحريرالفلسطينية المقاومة، وفي الخامسة عشرة من عمره اعتقلته المخابرات الأردنية إثر اشتراكة في عملية عسكرية على الحدود الأردنية - الإسرائيلية، وقضى 11 شهرًا في السجن قبل أن يُخلى سبيله ويُرحل نهائيا من المملكة الهاشمية. لكن القنطار لم يغادر السجن في الأردن إلا ليدخلة مرة أخرى في إسرائيل، ففي أبريل 1979 وحين تجاوز السادسة عشرة نفذ مع عناصر من جبهة التحرير هجوما على مستوطنة "ﻧﻬﺎﺭﻳﺎ" لأسر ﺭﻫﺎﺋﻦ ومبادلتهم بمعتقلين ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺠﻮﻥ ﺍلإﺳﺮﺍﺋﻴﻠﻴﺔ. عملية "نهاريا" كانت بطاقة تعارف العالم على القنطار والخلاف حوله في ذات الوقت، فمن ناحية اعتبرناه -نحن- مناضلا واعتبروه -هم- إرهابيا سفاحا. الرواية العربية ركزت على أن العملية استهدفت اختطاف عالم الذرة الإسرائيلي "داني هارون" الذي كان يعد صيدًا ثمينا ثم مقايضة إسرائيل عليه بمعتقلين عرب في سجونها، أما وفاة طفلة "داني" فقد تجاهلها أغلب الأصوات العربية وإن كان القنطار نفسه قد أكد في أكثر من حوار أنه لم يقتل الطفلة، وأن وفاتها ووالدها ناجمة عن تبادل إطلاق النيران مع الشرطه الإسرائيلية، وهي الأحداث التي قتل فيها أيضا اثنان من رفاقه في جبهة التحرير. لكن الغرب تبني رواية أكثر دراماتيكية سوّقت لها إسرائيل بامتياز: القنطار يختطف أبًا وطفلته ذات الأربع سنوات من منزلهما ثم يقتلهما بدم بارد. هذه هي الصورة التى تعاملت بها تقريبًا كل وسائل الإعلام الغربي مع الحدث وهكذا تلوث اسم القنطار في العالم ونُعت بأنه "سفاح أثيم" وظلت الصحف الغربية لسنوات تعيد نشر رسالة زوجة "داني هارون" في ال" واشنطن بوست ": "على العالم أن يعرف ماذا فعل هذا الرجل بعائلتي" والتي تتحدث فيها عن القنطار وكيف قتل طفلتها وزوجها (للأسف الرواية العربية لم تُقرأ خارج محيطنا الجغرافي). أُلقى القبض على القنطار وأمضى في السجن قرابة ثلاثة عقود وهي الفترة التى استحق عليها لقب "عميد الأسرى" قبل أن يُطلق سراحه في 2008 في عملية تبادل للأسرى والرفات بين إسرائيل وحزب الله. وكالعادة كلا الطرفين استخدم خروج القنطار لصالحه، ففي حين اعتبر حزب الله والمقاومه الفلسطينية بشكل عام خروج القنطار نصرًا لهما في أعقاب الضغط على الكيان الصهيوني وأطلق على التبادل اسم صفقة الوفاء للأحرار ، استخدمت إسرائيل الحدث للتسويق لنفسها لدى الغرب بأنها "واحة الإنسانية في المنطقة"، وكانت الرسالة: "انظروا كيف نعامل السجناء، حتى السفاح قاتل الأب والطفلة؟.. وزنه الزائد أكبر دليل على حسن معاملتنا، ليس هذا فحسب بل إننا ساعدناه على إكمال تعليمه ليحصل على بكالوريوس العلوم الاجتماعية من الجامعة الإسرائيلية في تل أبيب". خرج القنطار من السجون الإسرائيلية لينضم إلى حزب الله في جنوبلبنان، وهو الانضمام الذي أثار كثيرًا من التساؤلات الطائفية حول علاقة الشيعة بالدروز (الدوروز: طائفة دينية يدور حولها لغط وانقسام، ففي حين يعتبرهم الأزهر مسلمين، يكفرهم كثير من رجال الدين) لكن القنطار كان دائم التركيز على أن المقاومة لا الطائفة هي ما تجمعنا، مشددًا على أن المقاومة الإسلامية هي الحصن الباقي في مواجهة العدو الصهيوني المغتصب. مع الوقت لمع اسم القنطار في حزب الله وصار من أبرز وجوهه، وحين اندلعت الثورة السورية انحاز إلى بشار الأسد، معتبرًا أن ما يحدث في سوريا ليس إلا عقابا لها على موقفها المساند للمقاومة، وقد أعلن موقفه هذا صراحة أكثر من مرة، وهو ما أغضب منه أغلب "الثوريين" في العالم العربي، والمنتمين لما يعرف باسم الربيع العربي. وفي خطوة مفاجئة أعلنت الخارجية الأمريكية في سبتمبر 2015 إدراج اسم "سمير القنطار" على قوائم الإرهابيين المطلوبين لديها، وهي الخطوة التي اعتبرها كثيرون إشارة لخطورة الرجل وأهمية ما يفعله على الأرض. وكما كانت حياة الرجل ومواقفه محل خلاف، فموته أيضا كان كذلك، ففي الوقت الذي أعلن فيه حزب الله والتليفزيون السوري الرسمي أن القنطار قتل جراء هجوم إسرائيلي صاروخي على مقر إقامته، وهو الإعلان الذي لم تحسمه إسرائيل، فحين سُئل "يؤوف غلانت" وزير البناء والإسكان الإسرائيلي عن علاقة إسرائيل بالحادث؟ أجاب بأنه لا يؤكد أو ينفي أي شيء له صلة بهذا الأمر. أما "يوفال شتاينتس" وزير الطاقة الإسرائيلي فقد رد ساخرًا: ربما تكون المخابرات الفنلندية قتلته. لكن الجيش الحر السوري ينفي تمامًا أن تكون إسرائيل هي الفاعلة، مؤكدين عبر مقطع فيديو لهم أن الجيش الحر هو من اغتال "القنطار" عقابا له على معاونة الديكتاتور بشار، لندخل في حلقة مفرغة جديده وسؤال آخر بلا جواب قاطع.. من قتل القنطار؟ وبعيدًا عن سؤال من قتل الرجل فإن تغطية خبر الوفاة تخبرنا بالكثير عن توازنات المنطقة. فعربيا أكثر الصحف اللبنانية تغطيةً للحادث كانت جريدة " الأخبار " اللبنانية (الموالية لحزب الله) والتى أفردت مساحات واسعة للحديث عن الرجل، تاريخه ونضاله واستشهاده، وهو نفس الموقف تقريبا الذي تبنته جريدة " السفير " ذات الخط القومي. أما باقى الجرائد فقد تعاملت مع الحادث بفتور إن جاز التعبير. الفضائيات كانت أوضح في مسألة التوازنات، فقناة "العربية" -المملوكة للسعودية والتي تناصب نظام بشار وحزب الله العداء- اتخذت خطا هجوميا على القنطار وأفردت مساحة لطليقته التي اعتبرت أن قتال القنطار في سوريا ليس موجها ضد إسرائيل، بل موجه ضد ثورة شعب واصفة طليقها بالقاتل. ولم تفوت "العربية" الفرصة بأن تتهكم على المخابرات الروسية التي فشلت في حماية القنطار، إضافة إلى عجز السلاح الروسي، تحديدا صواريخ S400 الروسية المنتشرة على الأراضي السورية عن مواجهة الطيران الإسرائيلي. أما " الجزيرة " فكان موقفها متسقا مع موقف قطر السياسي من سوريا، فحاولت القناة الوقوف في المنتصف فلم تمجد القنطار أو تصفه بالمناضل ولم تهاجمه، فقط نقلت وصف حزب الله له بالمقاتل الشهيد، لكنها أبرزت أيضا علاقته ببشار الأسد ونظامه. الصحافة الغربية لم تتوقف طويلا أمام من قتله أو سؤال: هل هو مناضل أم لا؟ بل ركزت على كونه "إرهابيا قاتلا" وأفردت مساحة لتذكير الناس بعملية "نهاريا" التي قتل فيها أبا وابنته الصغيرة، بدا ذلك جليا في تغطية ال" نيويورك تايمز " وال" واشنطن بوست " اللتين وضعتا تقريبا نفس الجملة في العنوان "مصرع المحارب اللبناني سيئ السمعة". سمير القنطار.. اتفق أو اختلف معه لكن المؤكد أن كلًّا يراه حسبما يريد، وكلًّا يصفه كيفما يراه.. فهو المناضل الأسير السفاح الدورزي الكافر الشهيد.. سمير القنطار ملخص لانقساماتنا وكيف نحكي حكاية لا يسمعها العالم للأسف.