حوار: أحمد عبد اللطيف من بين الأسماء المصرية والعربية التى تعمل على نشر اللغة والأدب والثقافة العربية فى الغرب يأتى اسم الدكتور وائل فاروق فى المقدمة، فمن خلال عمله كأستاذ بالجامعة الكاثوليكية بميلانو ومعهد الثقافة العربية الملحق بها، ثم عبر مجلة جسور المكتوبة بالإنجليزية، ويرأس تحريرها، أظهر الناقد المصرى على مدار سنوات وجهاً عربياً آخر للغرب، وجه العربى المثقف والمفكر والأديب، ووجه التسامح مع الثقافات الأخرى، فبنى بذلك جسرًا مع ثقافة ابتعدنا عنها وابتعدت عنا فى العقود الأخيرة، وباتت صورة العربى لديه مشوهة ومؤخرًا توّج هذا الجهد بجائزة كبرى هى «الامتياز للبحر المتوسط» ، التى تمنحها وزارة الثقافة الإيطالية بالتعاون مع اتحاد الصحفيين المتوسطيين. هنا حوار معه حول الجائزة ودوره الثقافى ورؤيته لأحوال العرب فى إيطاليا دعنا نبدأ من الحدث الأخير: فوزك بجائزة الامتياز للبحر المتوسط، وجاء فى الحيثيات: «لمساهمته الاستثنائية فى تعزيز اللغة والثقافة العربية فى أوروبا، والحوار بين الثقافات فى منطقة البحر المتوسط، يُمثل البروفيسور وائل فاروق مرجعًا بارزًا فى المشهد الأكاديمى والثقافى الدولى. وبصفته مديرًا للمعهد الثقافى العربى فى ميلانو، وأستاذًا فى الجامعة الكاثوليكية، كرّس حياته المهنية لنشر المعرفة، وتثمين التراث العربى، وبناء الجسور الثقافية بين الشعوب. كيف تلقيت الخبر خاصةً أنها عن نشاطك فى تلاقى الحضارات، وما آليات الترشح؟ - هذه جائزة لها مكانة خاصة جدًا وتختلف عن أى تقدير حصلت عليه من قبل، لأنها جائزة البحر الذى ليس كمثله بحر، فهى ليست محدودة جغرافيًا أو ثقافيًا بشمال وجنوب أو شرق وغرب، هى جائزة التعددية اللغوية والثقافية تعددية تعكسها أيضًا آلية منح الجائزة، حيث يقوم أعضاء اتحاد الصحفيين المتوسطيين الذين ينتمون لتسع دول مختلفة، باختيار المرشحين ثم يتم التصويت لاختيار الشخصية صاحبة الإسهام الثقافى الأكبر فى فضاءات المتوسط المختلفة، ثم تعرض النتيجة على لجنة علمية تشكلها وزارة الثقافة الإيطالية لفحص ملف الفائز قبل الإعلان عن فوزه. تعمل فى الجامعة الكاثوليكية بميلانو أستاذًا للغة والثقافة العربية، وهى وظيفة تسمح لك بالاحتكاك المباشر مع عقلية دارسى اللغة العربية ومستعربى المستقبل. كيف ترى من هذا المنظور مدى الاهتمام بالعالم العربى وقضاياه، خاصةً مع الحرب على غزة والموقف السلبى للحكومات الغربية؟ - أنا متفائل جدًا بمستقبل الاستعراب فى إيطاليا، فالجيل الجديد من الباحثين متحرر بشكل كبير من الانحيازات الأيديولوجية، والصور النمطية والأحكام المسبقة التى حكمت رؤية الغرب للشرق، فهذا الجيل الجديد لا يرى نفسه «إنديانا جونز» علمى وثقافى كالأجيال السابقة عليه، حيث الأوروبى هو «العقل» والشرقى هو «المعقول»، تمامًا كما فى أفلام إنديانا جونز حيث هناك دائمًا شخصية محلية خيرة تساعد البطل الغربى الذى يعرف عن تاريخها وثقافتها ومصلحتها أكثر منها، يشبه هذا ما نجد فى عالم كرة القدم حيث يمكن للاعب الأفريقى أن يكون نجم الفريق اللامع ولكن من النادر جدًا أن يتم قبوله مديرًا فنيًا لفريق أو منتخب أوروبى. لكن هذا لا يمنع من الإشارة أن هناك ظاهرة جديدة فى الفترة الأخيرة فى الإنتاج العلمى للمستعربين الإيطاليين وهو إصدار الموسوعات التى تتناول الأدب العربى القديم والمعاصر، وأشير هنا إلى مثالين؛ الأول موسوعة القصة العربية التى أصدرتها المستعربة الكبيرة إيزابيلا كاميرا دافليتو وترجع أهمية هذه الموسوعة إلى أنها تمد جسرا للقصة القصيرة تعبره لأول مرة إلى لغة أوروبية كفن ناضج، مكتمل، له جذور وتاريخ ممتد يتجاوز قرنا من الزمان، وليس مجرد شذرات محكومة بإطار يضيق أو يتسع لموضوعات اجتماعية أو سياسية تشغل الغرب أو تلهب خيالاته عن الشرق، فالأنطولوجيا تقدم بانوراما للقصة القصيرة العربية على مستوى الأسلوب الفنى والجيل الأدبى ولا تهمل خصوصية البلد العربى الذى يأتى منه الكاتب، فالعالم العربى إطار واسع تتناغم داخله الألوان المتعددة لموازييك ثقافى وعرقى ودينى، وهو ما جعلها تقسم الأنطولوجيا حسب التيمة وليس حسب الأجيال، فهى تريد أن تحتوى كل تيمة فى داخلها ذلك الموازييك وتلك التعددية التى تميز العالم العربى فتختار « قصص تقدم نفس الموضوع بعيون مختلفة، حيث تتجاور الاختلافات والتماثلات» وهى تقوم بذلك لأنهم فى الغرب يتحدثون عن العالم العربى كما لو أنه شىء واحد بدون اختلافات داخله، ما يجعل من السهل صبه فى قالب صورة نمطية، ويمكن مواجهة هذا فقط بمعرفة التعددية الجغرافية والتاريخية والثقافية التى تشكل هذا الموزاييك الضخم؛ والمثال الثانى موسوعة الشعر العربى للمستعربة فرانشيسكا كراو، وهى موسوعة ذات طبيعة بانورامية للشعر العربى منذ العصر الجاهلى وحتى نهاية القرن العشرين، لم تتوقف فيه عند تقديم تاريخ الشعر العربى وبعض نماذجه المبهرة فقط بل تجاوزت ذلك إلى البحث فى تأثيره فى الشعر الأوروبى، هذه الرؤية التى تقدمها الكاتبة مغايرة تماما للرأى السائد فى أوروبا الذى يعتبر أن الأدب العربى بعيد كل البعد عن الأدب الغربى، وقد لا يخطر ببال واحد من ألف من قراء الأدب الأوروبى أن لهذا الأدب علاقة بالأدب العربى، فقد استقر فى الأذهان أن الأدب الغربى ترجع أصوله إلى الأدبين اللاتينى والإغريقى، ترى الكاتبة أنه لكى يظهر هذا الأثر للشعر العربى بشكل كامل، ولكى يعلن عن قدرته على لمس قلب كل إنسان والاستمرار فى الانخراط فى الحوار مع تراث الشعر الأوروبى، كان من الضرورى مراجعة الترجمات الكلاسيكية لهذا الشعر وإعادة تقديمها بلغة تلائم الذوق المعاصر يسهل فهمها وتأمل جماليات هذا الشعر من خلالها. مع لغة متجددة أقرب إلى الحساسية الشعرية المعاصرة، تسترجع المؤلفة تاريخ الشعر العربى بأكمله من عصور ما قبل الإسلام حتى يومنا هذا، وتخصص فصلًا لكل عصر وتحافظ دائمًا على تقديم كل مرحلة شعرية تاريخية أو جمالية من منظور الحوار بين الآداب والثقافات والذى يمكن اعتباره المفتاح الحقيقى لقراءة الكتاب، حيث تحاول فرانشيسكا كراو فى هذه المختارات أن تجد، فى الأدب العربى عمومًا والشعر بشكل خاص، نقاط الالتقاء والإثراء المتبادل الذى كان حاضرًا فى جميع العصور بين الحضارتين. أسست العام الماضى معهدًا للدراسات العربية بميلانو يتبع الجامعة الكاثوليكية وهيئة الشارقة للكتاب، وهو بالتأكيد نافذة عربية فى إيطاليا. تبع ذلك تأسيس معهد فى البرتغال للغرض نفسه. حدثنا عن تجربة المعهد بميلانو وأثره على دارسى العربية والمهتمين بها، وما الخطة الطموحة المرجوة من وراء هذا التوسع؟ وهل تشعر بالتفاؤل من التلقى الغربى؟ - تجربة المعهد الثقافى العربى كانت ناجحة جدًا، فقد تفاعل مع مبادرات المعهد المختلفة عدة آلاف من الإيطاليين، وقد تنوعت هذه المبادرات من الخدمة الثقافية؛ مثل تأهيل المهنيين ثقافيًا للانفتاح على العالم العربى والثقافة العربية، فى مجالات التعليم، والسياحة، والعدالة، إلى تعزيز دراسة اللغة العربية فى التعليم قبل الجامعى، تنظيم محاضرات عن الأدب العربى فى المدارس الثانوية المتخصصة فى العلوم الإنسانية، عقد ورش عمل لتأهيل معلمى اللغة العربية للناطقين بغيرها، ورش عمل لتأهيل المترجمين من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية، إلى جانب الأنشطة الثقافية التقليدية مثل نادى الخط العربى، ونادى القراءة، ونادى السينما، إلى جانب عقد الندوات الفكرية، والأمسيات الشعرية، وحفلات الموسيقى العربية، قمنا العام الماضى فقط بتنظيم 58 فعالية ثقافية. هذا عن تجربة المعهد، أما عن مشروع صاحب السمو سلطان بن محمد القاسمى حاكم الشارقة، فأنا أقول دون أى مبالغة إنه أهم مشروع عربى فى الغرب على الإطلاق، لكل أمة صاحبة لغة وثقافة عريقة، فى كل دولة من دول العالم، بيت يطرق بابه أبناء هذه الدول ليتعرفوا على هذه الثقافة من أبنائها وبأعينهم، فللصين معهد كونفوشيوس، ولألمانيا جوته، ولأسبانيا ثرفانتس، ولإيطاليا دانتى أليجييرى، إلى جانب المركز الثقافى الفرنسى، والمجلس الثقافى البريطانى وغيرها كثير، الآن أصبح للثقافة العربية بيتان فى إيطالياوالبرتغال، وسيتم افتتاح بيت جديد كل عام فى دولة مختلفة من دول العالم، وأشهد وأنا أشرف بأن أكون مستشارًا علميًا لهذا المشروع أن هذه المعاهد العربية هى لكل العرب بدون أى تمييز، وأشهد أن صاحب السمو الدكتور سلطان القاسمى رفض بشدة عرض الجامعات الشريكة فى هذا المشروع إطلاق اسمه على هذه المعاهد التى كما أكد علينا لا ينبغى لها إلا أن تحمل صفة وحدة هى «العربية»، وربما تكون هذه المعاهد أول فضاء يعمل فيه المثقفون العرب على اختلاف انتماءاتهم على قلب رجل واحد، ولا يحكم عملهم إلا معايير النزاهة والكفاءة. من بين اللغات القليلة التى تُترجم إلى اللغات الأوروبية تُعد اللغة العربية على رأس القائمة، رغم أن الأحداث السياسية تؤثر إيجابًا على عملية الترجمة، ورغم النشاط الأدبى اللافت والمستمر فى العديد من الدول العربية، بل وضخامة النشر، وظهور أسماء مؤلفين يضيفون بكتابتهم للسرد والشعر العالمى. كيف تفسر هذا الغياب العربى وبقاءه خارج المنافسة العالمية؟ - الكتابة نوعان، هناك كتابة تنشغل بالعالم وتشتبك مع قضاياه الكبيرة وتفاصيله الدقيقة، تنسج من شظاياه سردية جديدة توسع من آفاق رؤيتنا له، وتزحزح قليلًا الجدران التى تحد وجودنا داخله، وهناك كتابة لا يمنعها انشغالها بكل هذا عن تأمل ذاتها، يضطرم العالم داخلها وخارجها لكنه لا يلهيها عن أسئلتها الكبرى، عن ماهيتها التى لا تتحقق فيما كانته وإنما فيما ستكونه، عن وعيها بعدم اكتمالها، عن إدراكها بأن هناك ما ينقصها ولا يمكنها إلا أن تستمر فى البحث عنه، هذه الكتابة لا توسع فقط آفاق حيواتنا المشروطة، لأنها بتغيير شروط الكتابة، لا تتركنا نهبًا لماضٍ تطاردنا أشباحه، لأنها تمنحنا ميلادًا جديدًا، مستقبلًا جديدًا نطارد فيه كينونتنا التى تأبى أن تلتئم. بتعبير آخر هناك كتابة توظف جماليات النوع الأدبى لمساءلة العالم وإعادة إنتاجه، وهناك كتابة فى اشتباكها مع عالمها تغير شروط الكتابة وجماليات النوع الأدبى، وعلى هذا الأساس يمكن أيضًا تقسيم الكُتَّاب إلى «أصحاب الموهبة» و«أصحاب الموهبتين»، وهو تقسيم فى رأيى تلتزم به كل الآداب العالمية، لن تجد من يقارن مثلًا جى كى رولينج مؤلفة هارى بوتر رغم موهبتها المشعة ونجاحها المذهل بتوكارتشوك أو بآنى أرنو، والأمر لا يتعلق على الإطلاق بطبيعة العالم الروائى فنصوص مثل الأمير الصغير وبينوكيو لعبت دورًا كبيرًا فى التحولات الجمالية لفن السرد. لا يلوم أحد دور النشر الكبرى على الترويج لكتاب مثل رولينج ودان براون، ولا ينزعج أحد من المساحة الهائلة التى يشغلونها فى الإعلام، فصناعة النشر، كأى صناعة تهتم بالمكسب وبتوسيع قاعدة الاستهلاك، وهو أمر محمود فى رأيى ويسعدنى أن أرى نجاح كثير من دور النشر العربية فيه، الأمر غير المحمود هو أن يسود هذا التيار وحده، هو أن يجد «أصحاب الموهبتين» أن مساحتهم، المحدودة بطبيعتها، يزاحمهم فيها من لا يستحق، وهو أمر خطير على صناعة النشر نفسها، فكل صناعة تكرس جزءاً من طاقتها لأبحاث التطوير والتجديد واستشراف المستقبل، وهو فى حالة الأدب استشراف وصياغة وعى الأجيال الجديدة جماليًا، لأنها بدون هذا ستجد نفسها خارج السوق تمامًا كما حدث مع شركة نوكيا مثلًا، لهذا لا أتفق مع من يرون أن مشكلة الأدب العربى اليوم هى غياب النقد، المشكلة الحقيقية فى طبيعة حضوره وفى وعيه بهذا الفارق الكبير بين هذين النوعين من الكتابة، لأن المتابعات الصحفية عادة ما تهدر هذا الفارق. المساحة التى يشغلها الأدب العربى تتسع باضطراد ولكن هذا لا يعنى أنه قد صار عالمياً، فالعالمية لها شروط أخرى تفصلها نادين جورديمر -نوبل عام 91- فى معرض حديثها عن التهميش الذى يتعرض له محفوظ وشينوا آتشيبي وعاموس أوز، تقول: «على الرغم من مواهبهم الاستثنائية، فالثلاثة من الرموز البارزة للأدب المعاصر فى اللحظة الراهنة، وعلى الرغم من حصول محفوظ على نوبل، وعلى الرغم من أن أعمال آتشيبي تدرس فى كل جامعات العالم، وعلى الرغم من أن أعمال عوز تقرأ بست وعشرين لغة مختلفة، فإن هؤلاء الكتاب الثلاثة لا يتم تناول أعمالهم أبدا من قبل الباحثين فى الأدب خارج قاعات الدرس وأطروحات التخرج، ونادرا ما يتم ذكرهم بين أهم الأدباء فى العالم اليوم، فهم لم يلهموا كتابا آخرين ليشكلوا ظاهرة جمالية جديدة، والتى يبدو أنها العلامة التى لا تقبل النقاش فى الغرب على الشهرة والقيمة الأدبية، وهى أن يكونوا موضع تقليد الكتاب الأصغر، هكذا ظل حضورهم فى أوروبا محصورا فى كونهم ممثلين لذلك العالم الذى يقع خارجها». العالمية إذن ليست أن نشغل المساحة المخصصة لنا فى العالم بوصفنا «الغرائبى» جغرافيا وعرقيا وثقافيا، العالمية هى أن نوسِّع مساحة العالم، وبقدر ما نزحزح حدوده الجمالية نكتسب وجودنا الأصلى فيه، لا نكون ضيوفا على الآخرين فيما ابتكروه ولكننا نفتح بابا جديدا للوعى بالذات والعالم، ليس انتشار الأدب العربى دليلا على عالميته، بوصفه خالقًا للعالم، الأدب العربى معولم لأن انتشاره خاضع بشكل أساسى لقواعد السوق والاستهلاك السريع، يتم استدعاء الأدب العربى لإشباع فضول لحظة «الحدث» الذى سرعان ما يفتر مع انشغال العالم بحدث فى مكان آخر، ثم يعود الاهتمام مع عودة العالم العربى إلى صدارة نشرات الأخبار، ليظل رهن الاستدعاء، وليتقزم وكاتبوه من منتجين للمعنى وللمعرفة الجمالية التى تدفع بالوعى الإنسانى نحو قيم الخير والحرية والعدالة إلى مجرد شاهد عيان على واقع غرائبى يتبرؤون منه. هل ترى هكذا أن ثمة تسليع فى التعامل مع الأدب وبالتالى الترجمة؟ - هناك توجه عولمى لتسليع الأدب فى كل مكان، يتجلى فى ظواهر مثل الأكثر مبيعا التى تتسق مع مجتمع ما بعد الحقيقة، المجتمع الأفقى، حيث احتل الانتشار المكانة التى كانت محفوظة لوقت طويل للعمق فى سلم القيم والمعايير، وعلى حين يوفر الجهد الأكاديمى والتنظير الجمالى نوعا من التوازن فى السياقات الأخرى بين العمق والانتشار فإننا فى حالة الأدب العربى نفتقد لهذا التوازن حيث دأب النقد العربى على اجترار المقولات النظرية للآخر دون إضافة حقيقية لها. كما دأب الأكاديميون الغربيون على إهمال ما هو جمالى فى الأدب العربى، والتركيز عليه كمادة للبحث الأنثروبولوجى، يكفى أن نلقى نظرة سريعة على الأطروحات العلمية فى أوروبا لندرك ذلك، فهى أطروحات تبحث فى الأدب العربى عن أى شىء إلا ما يجعله أدبا. عادة ما يقدم الإبداع نفسه بوصفه تجليا لوعى مؤرق بأسئلة الجمالى فى إطار اشتباكه مع الواقعى، وعى متمرد على كل الثوابت التى يمكن أن تحد من حريته فى اكتشاف آفاق الذات وعالمها، وعى ثائر على كل الحكايات الأيديولوجية الكبرى التى يمكن أن تعرقل قدرته على الاستجابة لعالم يتغير بسرعة فائقة، ويخلق شروطا فيزيائية واقتصادية واجتماعية وسياسية تفرض علينا يوميا أن نعيد اكتشاف الإنسان والإنسانية؛ هل يجد هذا الإبداع وهذا الوعى مساحة كافية فى إطار التلقى الغربى، أم أنه سيتعرض دائما للإقصاء كلما حاول التمرد على إطار الغرائبية التى يتم صبه فى قالبها. إن الانتشار الذى يعتقد الكثيرون أنه خروج من الهامش وانفتاح على العالم ليس إلا المظهر الأكبر – فى إطار هذه الشروط – للتهميش. انطلاقًا من الوعى بهذه الشروط، ما الذى يجب أن يفعله النقاد والأكاديميون العرب فى الغرب من وجهة نظرك؟ - من جانبى، حاولت تقديم وجه مغاير للأدب العربى فى الغرب فى إطار قدراتى المحدودة بالطبع، على المستوى الشخصى، أقوم بتقديم كاتب عربى باللغة الإيطالية، من خلال دراسة تشمل معظم إنتاجه الأدبى وتركز على شخصيته الجمالية، وإضافته للأدب العربى والأدب العالمى بشكل عام، فعلت هذا مع وديع سعادة، ومنتصر القفاش، وقريبًا جدًا تصدر دراسة عن أعمال أحمد يمانى، كما قدمت دراسة عن جماليات الأدب العراقى ما بعد التغيير، كذلك أشجع طلاب الماجستير والدكتوراه على ترجمة عمل أدبى عربى ودراسته جماليًا، وأسعى جاهدًا لنشر الترجمة فى إطار شروط شديدة الصعوبة للنشر فى إيطاليا. أما على المستوى المؤسسى، فأسعى من خلال مهرجان اللغة والثقافة العربية أن أختار موضوعات متحررة مما أسهبت فى وصفه سابقًا، كما أحاول اختيار كتاب يمثلون التيارات الجمالية المختلفة فى الأدب العربى، فى المؤتمر السابق حاولت تقديم الأدب العربى خارج الأطر التقليدية فى إطار واقع جديد، ففى العقدين الأخيرين ومع الهجرات الواسعة من العالم العربى باتجاه الغرب أصبحنا نقف على أعتاب تحول جديد فى العلاقة بين الثقافتين تلعب اللغة العربية وأدبها دورًا مركزيًا فيها، فبجانب ملايين المهاجرين الذين أصبحوا من أصحاب اللسانين، مع كل ما يترتب على ذلك من تفاعل لا شك له تأثير كبير على اللغة الأم لهؤلاء المهاجرين وأبنائهم، هناك كذلك عدد كبير من المبدعين والأدباء العرب الذين انتقلوا للحياة فى الغرب، ويكتب عدد لا بأس به منهم إبداعه بلغة من اللغات الأوروبية، لتتشكل تجربة جديدة من أدب المهجر التى تميزت بها بدايات القرن الماضى، ويتزامن مع ذلك اتساع كبير فى تدريس اللغة العربية المعاصرة، ودراسة أدبها الحديث والمعاصر فى الجامعات الغربية، نحن أمام «خروج» جديد للغة العربية من حدودها الجغرافية والثقافية استحق أن ندرسه ونتأمله ونستشرف مستقبله، أما المؤتمر القادم فسيكون مخصصاً بالكامل لمناقشة جيل الألفية الثالثة من الكتاب العرب من مواليد التسعينيات وما بعدها، حيث يهدف المؤتمر إلى استكناه الوعى الجمالى لمن ولدوا وتعلموا وكتبوا فى إطار الثقافة الرقمية. إن أهم ما يقوم به المؤتمر إلى جانب جمع أهم المبدعين والمفكرين العرب لمناقشة قضايا مبتكرة، هو صدمة التلقى الغربى حين يدرك حجم ما يجهله عن الثقافة العربية ومبدعيها وحجم ما يقدمه العرب من قراءات استثنائية للثقافة الغربية من خلال تفاعل مقولاتها وجمالياتها مع واقع الكتابة والأدب فى الغرب. يتصل بالسؤال السابق سؤال آخر عن رؤيتك لسوق الأدب العربى فى البلدان العربية، وكيف تقيمه كناقد فى المقام الأول؟ - كدارس للأدب وكناقد نشط أيضًا للأدب الإيطالى، أقول دون أى تردد الأدب العربى أكثر ثراءً وتنوعًا من كثير من الآداب العالمية، الأدب العربى لا يحتل المكانة التى يستحقها لأنه لا يؤمن باستحقاقها رغم انشغاله الشديد بها ما يجعله يقدم تنازلات تجعله يتخلى عما يمكن أن يميزه من أجل ما يضمن حضوره، ولكن كما أشرت سابقًا حضور فى إطار الغرائبى. لك العديد من الدراسات والأبحاث النقدية مكتوبة بالإيطالية والإنجليزية ولم تظهر بعد بالعربية، ألا تفكر فى ترجمتها ليستفيد منها القارئ العربى؟ - سأكون صريحًا وأقول بدون دبلوماسية، أفضل استثمار ما يتوفر لى من وقت وجهد للقيام ببحث جديد وليس ترجمة بحث قديم، ولا أعتقد أن هناك جمهوراً عربياً للنقد الأدبى، يشجع دار نشر عربية على تحمل تكاليف ترجمة كتاب نقدى يحمل اسم باحث عربى، ولا أستطيع للأسف أن أنشر فقط باللغة العربية لأن معظم المجلات ودور النشر تفتقد للشروط التى تجعل البحث مقبولًا فى المجتمع العلمى الغربى، لذلك ليس أمامى إلا محاولة خلق نوع من التوازن فى المستقبل بين ما أكتبه وأنشره بالعربية وباللغات الأخرى. من ضمن أنشطتك المثمرة للثقافة العربية يأتى تأسيسك لمجلة «جسور» الصادرة باللغة الإنجليزية، وهى مجلة معنية بالثقافة الشاملة ولا تنحصر فى الأدب وحده. حدثنى عن صعوبات التأسيس والاستمرار وعن تلقى المجلة فى الغرب؟ - تأسست المجلة فى إطار التعاون بين الجامعة الكاثوليكية بميلانو ورابطة العالم الإسلامى التى أحدث أمينها العام الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى تحولًا ثوريًا فى توجهاتها وآليات عملها، لا سيما فيما يتعلق بالحوار مع الأديان الأخرى، حيث ينطلق من حقيقة أن الأديان لا تتحاور وإنما المؤمنون مَن يتحاورون، وهؤلاء المؤمنون هم بشر يعيشون فى الواقع، والحوار يهدف إلى تحسين شروط الواقع الذى يعيشونه ويمارسون إيمانهم فيه، فينتقلون من شراكة وَهمَّية فى الإيمان إلى شراكة حقيقية فى الحياة. تسعى المجلة إلى استعادة الارتباط بين الجميل والحقيقى، فقد كان كل علم فنًا، وكذلك كل فن كان يوصف بأنه علم، فالفن إبداع وابتكار الجمال، والعلم إدراك الجمال ومعرفته، بمعنى القدرة على استيعابه بشكل يجعله خبرة عامة تتجاوز الفرد. كان من الصعب فى أى شكل من أشكال المعرفة فصل الجمال عن الحقيقة، فكما يقول القديس توماس، الجميل إشراق الحقيقى. هذه الوحدة الممتدة على مدى تاريخ الإنسانية بين العلم والفن، بين الجميل والحقيقى يبدو أنها انتهت فى الواقع العملى وفى الثقافة العامة، حيث صار العلم –وكذلك الدين– مرتبطًا بالبحث عن الحقيقة، بينما اقتصرت مهمة الفنون على إنتاج الجمال لأهداف متعددة تبدأ من التسلية وحتى إنتاج معنى –نسبي– للحياة. هذا الانفصال بين العلم والدين والفن أو بين الجميل والحقيقى يساهم بشكل أو بآخر فى أزمة المعنى التى تعيشها المجتمعات الإنسانية اليوم على اختلاف ثقافاتها. لقد انطلقت مجلة جسور فى الرابع عشر من يونيو 2023، من مقر الأممالمتحدة فى نيويورك خلال مؤتمر «بناء الجسور بين الشرق والغرب» والذى شارك فيه رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة تشابا كوروشى، ونائبة الأمين العام للأمم المتحدة الدكتورة أمينة محمد، والدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامى. وجسور مجلة فصلية تصدر بالإنجليزية، وتُعنى بالحوار الثقافى بين الشعوب، تُوزَّع مجانًا على الدبلوماسيين والمنظمات الدولية والأكاديميين، وكل الفاعلين فى الحوار الثقافى والدينى، فى ثلاثٍ وعشرين دولة حول العالم. أما الهدف الأسمى للمجلة فهو إبراز جمال التنوّع من خلال إتاحة منبر لمجموعة واسعة من الأصوات التى تتناول مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، من الفنون إلى العلوم، ومن الفلسفة إلى الأدب، ومن الاقتصاد إلى الدين، وما وراء ذلك. وقد حظيت المجلة بمساهمات نوعية من شخصيات عالمية مرموقة، منها باولو كويليو، والفيلسوف الكندى تشارلز تايلور، والاقتصادى الأميركى جوزيف ستيغليتز (الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد عام 2001)، والفيلسوف الإيطالى-البريطانى لوتشيانو فلوريدى، والمؤرخة الروسية إيرينا شيرباكوفا (الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2022)، والكاتب الفرنسى المرموق إيريك إيمانويل شميت، والمفكر الفرنسى أوليفيه روا، إلى جانب نخبة كبيرة ممتازة من كتاب ومبدعى العالم. صدر من المجلة حتى الآن ثمانية أعداد تناولت موضوعات: الدين والطعام، الوجه: الهوية والاختلاف، الدين والتكنولوجيا، الجمال بين العلم والدين، الإسلاموفيليا أو محبة الإسلام، الصوت فى عصر الصورة، أبناء السبيل: عن الرحلة والهجرة، وأخيرًا: الثقة. أخيرًا، وبما أننا فى أيام الإعلان عن نوبل وما تثيره من ضجة، هل ترى أن نوبل جائزة غربية بالأساس والغياب العربى عنها يخص هذا المنطلق؟ أم أن الأدب العربى بعد محفوظ خارج المنافسة؟ - لا هذا ولا ذاك، لا أندهش من عدم فوز الأدب العربى بنوبل، المدهش حقًا سيكون فوزه فى غياب أى نقد حقيقى له خارج اللغة العربية يكشف عن جمالياته والإضافة التى يمثلها للإبداع الإنسانى، من لهم حق الترشيح معرفتهم محدودة بالأدب العربى، وحتى إذا اتخذوا قرارًا من قبيل الصوابية السياسية لمنح الجائزة لكاتب عربى ربما لن يجدوا أى دراسة نقدية جادة فى لغة يقرؤونها عن أعماله. فالنقد العربى لا يجد من يترجمه، والنقد الاستشراقى يعامل الأدب العربى كتقرير أنثروبولوجى، فأنى له الفوز؟