لم أتشرف بمعرفته من زمن طويل، لكنه بسرعة صار صديقا عزيزا جدا.. فمنذ نحو عام وأنا فى ظهيرة أو عصر كل يوم أصافح وجهه الطيب البشوش الذى لوحه وزاد من سمرته طول الوقوف فى الشارع، حيث تتعاقب عليه سياط شمس الصيف الحارقة وزمهرير البرد فى الشتاء، بينما هو صامد يجابه معركة الحياة القاسية وشح الرزق بابتسامة رضا تقطر عزوبة ويهتز لها قلب الحجر.. هذه الابتسامة الرائعة لم أرها أبدا تغادر ثغره إلا فى حادثة واحدة هى التى دفعتنى إلى كتابة هذه السطور. وقبل أن أحكى حكاية الحادثة، دعونى أعرفكم أكثر بمن يكون صديقى «جرجس».. إنه مواطن مصرى غلبان يكافح للبقاء على قيد الحياة وكسب جنيهات قليلة من خلال بيع بضاعة رخيصة (لكنها مفيدة) للرائحين والغادين على إشارة مرور يعبرها العبد لله فى طريق الذهاب والعودة من وإلى البيت، وقد لفتنى إليه أنه على فقره وغُلبه يبدو حريصا جدا على أن لا ينال البؤس من تحضره ورقيه الإنسانى، لذلك فهو بعكس كثير من الغلابة أمثاله يتصرف مع زبائنه المحتملين ركاب السيارات المتوقفة فى الإشارة، بلطف واقتضاب شديدين، أظنهما يحرضان كثيرا منهم على ابتياع أى شىء من «سبوبته» البسيطة. طيب، متى ولماذا تجهم جرجس وتخلى عن ابتسامته الحلوة المعتادة؟! وقعت هذه الحادثة أول من أمس، فقد فوجئت عندما توقفت بسيارتى فى الإشارة التى صار هو من أبرز وربما أهم معالمها، أنه يأتينى كالعادة لكى يصافحنى ويتبادل معى بضع كلمات عن أحوال البلد التى لا تسر عدوا ولا حبيبا، غير أنه لم يكن هذه المرة متهللا بشوشا كما عودنى بل بدا وجهه عابسا كسيرا فسألته مداعبا: أرى اليوم مزاجك ليس رائقا ولا عنبا.. حد من الزباين خد منك بضاعة و«فلسع» قبل ما يدفع؟! ابتسم جرجس بصعوبة ورد سؤالى قائلا: لا أبدا يا أستاذ.. الناس كلها زى الفل والحمد لله، ويا ريت الحكاية حكاية فلوس.. اللى زينا واخد على الهم مافيش مشكلة (قالها بصوت خفيض كأنه يحدث نفسه) بس فيه حاجات تانية فى البلد بتزعل وبتقهر النفر مننا.. اتفضل حضرتك، طريق السلامة، الإشارة فتحت.. نظرت أمامى وجدت السيارات تتحرك، فتحركت بسيارتى أنا أيضا بضعة أمتار، غير أن شيئا فى نبرة صوت جرجس لا أستطيع وصفه، جعلنى ألوح وأشير له بيدى إشارة معناها أن يبقى فى مكانه حتى أجد مكانا ملائما للركن، وبالفعل ملت بالسيارة إلى يمين الطريق وأوقفتها ونزلت مهرولا إليه وهو ما زال واقفا وعلامة دهشة بادية على وجهه لمحتها مخلوطة بنوع من الارتباك والفرح.. ربما لأن «بيه» يمتطى سيارة اهتم بهمّ رجل غلبان مثله. المهم.. كنت أنا أيضا مرتبكا بعض الشىء، لكنى غالبت ارتباكى وهتفت فيه متصنعا الدعابة: قولى بقى يا سيدى إيه اللى حصل جديد فى البلد وزعلك قوى كده.. ما هى زى الزفت كل يوم إشمعنى يعنى النهاردة بالذات؟! دون مقدمات قال جرجس: يا أستاذ فلان هو إحنا مش كلنا مصريين زى بعض، ولّا فيه مصرى ممتاز ومصرى تانى «ترسو» ودرجة تانية؟! طبعا كلنا مصريين، وكلنا فى الهم سواسية.. لا، لمؤاخذة يا بيه، مش سواسية ولا حاجة.. ده الدنيا كلها مشغولة دلوقتى بحكاية حلال ولّا حرام، إن المصرى المسلم يهنئ المصرى المسيحى بعيد القيامة، يبقى فين بقى المساواة اللى بتتكلموا عنها؟ أنا واحد من الناس متحمل الهم والغلب وبقول أدينى عايش زى باقى خلق الله فى البلد، بس لما ابنى ييجى من المدرسة بيعيط ويسألنى: صحيح يا بابا إحنا كفار ومش مصريين واللى يقول لنا فى العيد كل سنة وإنتم طيبين يخش النار؟ لو سيادتك مكانى تعمل إيه؟ الناس اللى معاهم فلوس بيسافروا ويهاجروا بلاد تانية، لكن الغلابة اللى زيى يروحوا فين؟! قالها وأشاح بوجهه لئلا أرى دمعة غلبته فعلا وحفرت مجرى فى غبار الشارع المتراكم على خده.. لم أتمالك نفسى وهتفت: دى بلدك وستبقى فيها غصبا عن عين أى مجرم ابن كلب جاهل.. على فكرة، شوف إحنا أصدقاء من إمتى، ولغاية دلوقتى ما اعرفش اسمك إيه؟! اسمى جرجس فؤاد.. عاشت الأسامى يا عم جرجس.. سلامو عليكو.