يضحك عمر حين يرى إشارة إلى مقالى فى الصفحة الأولى ويقول: «لم تشف من المطبوع». هل كان علينا أن نهيئ أنفسنا لعلاقات عابرة مع أماكن عملنا حتى لا نتورَّط مجددًا فى خيبات كالتى هشمتنا وتركت آثارها فى أرواحنا كل هذه السنوات؟ فى كل مرة أقترب من كوبرى الجامعة ينقبض قلبى وأتحاشى المرور بشارع أحمد نسيم، أتذكَّر المرة التى عدت فيها من الجرنال بعد يومين من التحاقى به وأنا أحمل العدد الذى بداخله اسمى بجوار كلمة «كتب» للمرة الأولى، وأستعيد كيف كانت الرحلة من قريتى إلى المركز لأشترى عدد ذات الجريدة، باحثًا بعينى سريعًا عن عناوين ترضى كل هذا الانتظار أو رسالة رآها محمد هشام عبيه، محرر بريد القراء، وقرر ضمّها إلى سطور العدد الأسبوعى. إلى قائمة خبراتنا المؤسفة من سقوط الأنظمة وعودتها وتبدُّد الأساطير وانهيار الرموز أمام الاختبارات الإنسانية والمواقف المركبة تضاف خبرة أشد حزنًا فنعايش انتهاء عصر الصحف المطبوعة تدريجيًّا، ونتوقَّف عن الذهاب فجر كل يوم إلى فرشة الجرايد، لأننا لا نطيق الانتظار حتى الصباح لنقفز بأعيننا على صفحات جريدة نحبّها لا أخرى تملأ أوراقها بالهراء وتستحق سخريتنا منها صباح اليوم التالى.. تجربة أخرى ثقيلة تضاف إلى رصيد هزائمنا وإحباطاتنا. فى أمسياتنا كان بلال يحكى عن إغلاقات الصحف التى عايشها، وتمر الحكايات سريعة، لكن الحكى غير المعايشة والتفاصيل. حين حدثت أزمات «الدستور» و«البديل»، كانت أحلام زملائى قبل أيام من الثورة مكانًا يكتبون فيه. مثلت الثورة ونشوة أيامها قربًا من إمساك كل أحلامهم. لهذا جاءت آلام الهزيمة عندهم مضاعفة. يحترفون الدومينو والانتظار وصياغة ما سيعودون به مرة أخرى إذا ما جاءت صحيفة كالتى رسموها فى أحلامهم. يصنعون ماكيتًّا أساسيًّا فى خيالهم بمساحات الصور والعناوين ونصيب الكاريكاتير وأنواع الخطوط وحجم التغطيات الإخبارية والتحقيقات. لم تكن الصحف يومًا محال أكل عيشنا فقط. فيها بدأت قصص حب ورحلات زواج وأطفال ينادوننا الآن ب«عمو»، ويطلبون أن نرقص معهم فى أفراح زملاء آخرين، وصداقات تعمَّقت واستمرت أمام عواصف عاتية من الإغلاق والفشل والخلافات السياسية. زميل يسلم لزميل. بالخجل دخلنا إلى استقبالات الصحف نتحسّس خطانا ونسأل عن فرص التدريب مرة أو العمل دون مقابل مرة أخرى. قابل كل مَن صد مرات كثيرة ثم ابتسمت الأمور واستقبلوه أخيرًا بود سائلينه عما يجيده. يكتشف فى اليوم الأول ما السبعينة، ويصحبه آخر إلى كوب شاى مختلس فى كافتيريا ضيقة ويشرح له الفارق بين سكرتارية التحرير والديسك. «مبروك» التى نقولها لبعضنا بعد خبر فى الصفحة الأولى أو الأخيرة، أو مكافأة وإشادة موقعة من رئيس التحرير فى المدخل، أو تحقيق يظهر ليلًا فى البرامج فيتعرَّف علينا لاحقًا رجل فى مطعم ويبتسم لأنه تذكَّر اسم أحدنا من صورته المنشورة إلى جوار مغامرة قام بها فى سيناء. كتغريدة بجعة جاءت «التحرير» فى شكلها الأخير لتؤكّد مرة أخرى أن فى الساحة صحفيين ومهنة، لكن هل تريد الدولة ورؤوس الأموال صحافة؟ تقول التشريعات لنا إن الصحف لا يجوز أن يمتلكها صحفيون. نشد أرواحنا معنا كل مرة إلى مبنى اشتراه رجل أعمال بهدف فى باله. نبدأ ونعيش ونفتح صدورنا لأحلام جديدة وتمضى بنا الحياة قبل أن نستيقظ فنجد الرجل قد اكتشف فجأة أن الصحف لا تربح بعد شهور. رغم أنه يعرف كما نعرف جميعًا أن مكاسب الصحف لصاحب رأس المال إذا كانت مادية واستثمارًا فى الصناعة فهى تحتاج إلى صبر وعزيمة وتعامل مختلف، لكنهم اكتفوا بوجود ونفوذ وظهر يحميهم فى مواجهة الخطر. نخرج وقد تركنا خلفنا جزءًا آخر منا لننتظر تجربة أخرى.. وخيبة أخرى.