لعل القارئ الكريم يذكر أننى كتبت فى هذا المكان قبل أسابيع مقالين عن ظاهرة اغتصاب اللغة ومرمطتها وبهدلتها على يد عصابة الشر الفاشية الفاشلة التى تحكمنا حاليا بالعافية والبلطجة والبطلان، وقد استعنت فى سطورهما بنظرية «اللغة الأورولية» المنسوبة إلى الكاتب البريطانى الأشهر جورج أورويل باعتباره أبرز من كرّس إنتاجه الأدبى والفكرى لفضح ظاهرة توسل نظم الحكم القمعية والديكتاتوريات الفاشية بلغة مشوهة ومنتهكة معانيها عمدًا لكى تدلّس على الشعب وتستلب عقله ووعيه، فيسهل على هذه النظم تسويغ احتلال مجتمعاتها واغتصاب السلطة والثروة معا. غير أننى فى المقالَين المذكورين لم أستحضر سوى أمثلة من شعارات ومفردات الكذب والخداع السياسى التى تستخدمها «الجماعة» وأذرعها وتوابعها الأذلاء بكثافة وإفراط مضحك، بينما هى تمارس فى الواقع العكس التام لمعانيها المعروفة والمستقرة.. وقتها لم أقترب من اختراعات و«منحوتات» وفتوحات لغوية بعضها يحلِّق فى أعلى سماوات الضِّعة والبذاءة، والبعض الآخر يحلِّق بعيدا أيضا، لكن فى أعلى سماوات الخَرَف والجنان الرسمى، من شاكلة تلك «التحف» التعبيرية الخرافية التى لا يملّ ولا يكلّ فضيلة الدكتور «الذراع الرئاسية» للجماعة من إتحافنا بها يوميا (تقريبا)، ربما أشهرها تلك العبارة التى كتبها فضيلة الدكتور بيده الكريمة وتمنى فيها «التوفيق لأبنائه الشهداء» الميتين (!!) أما أحدث التحف فقد وردت فى خطابيه الأخيرين (أحدهما قاله فى قصر الحكم بالقاهرة والثانى فى قاعة قمة الدوحة العربية حيث مقر الكفيل القطرى)!! فى الخطاب الأول أهدانا فضيلته عبارتين عبقريتين أظنهما سيرقدان ويستقران إلى الأبد فى متحف اللغة الكوميدية السوداء، الأولى بشرَّنا فيها جنابه بأننا والحمد لله أصبحنا الآن (بفضله هو وجماعته السرية) نعيش ونتمتع بثمار مرحلة كلها خير وسعادة وصفها سيادته بأنها «منحدر الصعود»!! أما العبارة الثانية فقد بدت منزوعة ومنقولة من تراث أدب الإثارة الخالد، وتحديدا من مذكرات السيدة الفاضلة «إيفا اللعوب»، فقد قال فضيلته متحديا وبمنتهى الفخر والحماس إنه كشف ويعرف حكاية «الصباعين تلاتة اللى بتلعب جوه»!! هذان «الصباعين تلاتة» اختصرهما وتكرم معالى الأخ الدكتور وخفضهما فى الدوحة إلى «صباع» واحد فقط، إذ فجأة هتف فى وجوه الحكام العرب حضور القمة، مهددا بأن هذا «الصباع اللى بيلعب فى مصر» سوف يتصدى له فضيلته بكل «حسم وحزم»!!! فى الحقيقة ليس عندى تعليق أو بالأحرى لم أجد تعليقا مهذبا، لهذا سأترك ما تبقى من المساحة لسطور واحد من المقالين القديمين اللذين تصديت فيهما للدفاع عن حياض «اللغة» فى مواجهة أشد وأبشع صور العدوان الفاشى الغاشم عليها: أشك كثيرا جدا أن الست «جماعة الشر» السرية الراقدة بالغصب فوق قلوبنا هذه الأيام، وكذلك قطعان توابعها ومنافقيها المساكين يعرفون أو حتى سمعوا مجرد سَمَع باسم الروائى البريطانى ذائع الصيت جورج أورويل صاحب روايتى «مزرعة الحيوانات» و«1984» المصنفتين ضمن أهم وأكثر منتجات الأدب فى القرن العشرين شهرة وانتشارا، فضلا عن كونهما تحفتين إبداعيتين تفوقتا فى تشريح وتحليل نظم القمع والديكتاتورية وتتبع آلياتها ووسائلها الشريرة للهيمنة على الناس وتدجينهم وتزييف وعيهم، خصوصا استخدام ترسانة لغوية متخمة بمصطلحات وشعارات وعبارات مبهمة أو مخاتلة ومشوهة عمدا ليس لها من هدف إلا سحق أفهام المواطنين وتشويش أفكارهم وتسويغ الظلم وتبرير القهر. لقد أعطى أورويل قضية «اغتصاب اللغة» وتحويل الخطاب السياسى الكذوب إلى سلاح دمار عقلى شامل وأداة للسطو على أدمغة الناس من أجل «التكمين» للنظم الفاشية والديكتاتورية وضمان استمرارها، أهمية قصوى ومركزية، حتى إنه لم يكتفِ بالتركيز الشديد على هذه القضية فى روايتيه المذكورتين وإنما جعلها موضوع بحث معمق وخطير عنوانه «السياسة واللغة» نشره فى عام 1946، أوضح فيه المعانى التى سربها بنعومة وبطريقة غير مباشرة فى دراما «مزرعة الحيوانات» حيث سرق الخنازير وتوابعهم الكلاب الثورة من الباقين، وفى «1984» عندما فرض «الأخ الأكبر» ديكتاتوريته العاتية وزيّنها بركام هائل من الشعارات التى لا ينافس بريقها إلا غموضها وإبهامها وكذبها أيضا.. وكرس أورويل بهذا البحث مصطلح «اللغة السياسية الأورولية» المستخدم بغزارة حتى الساعة فى وصف خطاب الديكتاتوريين والفاشيين. ورغم أن شكوكى تلامس حدود اليقين أن تعليم وثقافة جماعة الشر وتوابعها وقطعان منافقيها لا تسمح لهم بمعرفة جورج أورويل وإبداعاته واجتهاداته، ومع ذلك فإن عندى قائمة طويلة من الأدلة التى تثبت أنهم توصلوا ب«الغريزة»، لا العقل إلى نوع بدائى من «اللغة الأورولية»، ربما تضيق هذه الزاوية عن رصدها ورصها وتتبعها جميعا، لهذا سأكتفى بذكر بضعة أمثلة ونماذج من أشهرها (شهرة تماثل الفضيحة تماما) وأدعوك عزيزى القارئ إلى تأملها وسوف تكتشف بنفسك حجم النصب والكذب الراقد فيها، ومستوى العدوان الإجرامى على معانيها الأصلية. يعنى مثلا، تعمدت الست «الجماعة» السرية عندما اختارت للحزب الذى فبركته وجعلته مجرد «ذراع» بائسة تحركها من مغارتها المظلمة بالريموت كنترول، اسم «الحرية والعدالة» بينما حضرتها لا تكاد تخفى كراهيتها وعداءها لكل معانى وتجليات «الحرية» ولا تطيق أى تطبيق ل«العدالة» خصوصا، وباقى الحقوق الإنسانية عموما!!