فليسمح لى القارئ المحترم أن أشاركه جزءا من حديث مطول بين أحد طلبة الدكتوراه من جامعة نوتردام الأمريكية وبينى على الواقع السياسى المصرى منذ ثورة يناير وإلى وقتنا كجزء من استكمال رسالته العلمية، وفى هذا الصدد سوف أتوقف عند النقطة، التى حاول فيها الشاب الباحث أن يتفهمها بحياد كباحث ذى عين غريبة، وذهن يريد أن ينقل عن أصحاب الشأن أدق شؤونهم، وهى مسألة التيارات الدينية المختلفة، واختلافهم -حسب رؤيته- من حيث التشدد أو عدمه، وكيف يمكننا احتواء بعضهم فى الحياة السياسية المصرية!؟ لا أنكر أننى لم أعط الشاب الباحث الوقت الكافى لاستكمال هذه السلسلة المحفوظة من التساؤلات، ورأيت أن أستخدم علم الطبيعة فى تطبيق سياسى، ووجدتنى أستعير مثلا مهما جدا من العلوم التطبيقية أراه معبرا عن هذه المسألة بشكل حاد وواضح ومباشر، وهو مثال التيار الكهربائى والقاعدة المهمة فى ذلك، أى قانون (الكل أو لا شىء) The all or none law، ومعناه فى علم الطبيعة أنه إما أن هناك تيارا كهربائيا، وإما لا تيار على الإطلاق، أى أنه ليس هناك «بين بين» فى حالة الكهرباء، كما أننى لا أجد «بين بين» فى حالة التيارات الدينية، وهذا يفسر أنه لا فوارق جوهرية بين كل هذه التيارات إلا فى بعض التسميات وفروق الزى والسمت، لأنهم يأكلون من نفس الوعاء، ويشربون من نفس المنهل، ويفرق بينهم فوارق دقيقة جدا فى طريقة الهضم والفهم، بينما تتساوى كل المخرجات والأهداف بين من يرتدى الجلباب القصير ومن يرتدى الحلة الإفرنجية، وبين من يحف شاربه ويطلق للحيته العنان و«بين بين» يهذبهما معا أو لا يطلقهما من الأصل. أتصور أن مبدأ «الكل أو لا شىء» فى حالة التيارات الدينية عموما وفى حالة تيارات الإسلام السياسى خصوصا من المبادئ المفسرة أحيانا ومن المبادئ المنشأة أحيانا أخرى، مما لا يجعلنا نعجب من النهايات المرجوة لديهم، وهو نظام الحكم الدينى (الثيوقراطى)، ونجده أكثر أشكال الحكم غير الديمقراطية صعوبة فى الشرح والتحليل، على الرغم من أنه ربما من أقدم أشكال الحكم على الإطلاق، ومع أنه يمكن تعريف نظام الحكم الدينى حرفيا بأنه «الحكم بواسطة الله»، حيث الدين هو الأساس للنظام السياسى، ويمكن تأسيس مثل هذا النظام على أى مجموعة من المعتقدات، وعلى أشكال مختلفة داخلها، ويتأتى ذلك مما نراه من صعود الأصولية وتهديدها للأيديولوجيات السياسية بمحاولة دمج الدين مع الدولة، بحيث يكون الإيمان هو المصدر الوحيد للنظام، مما يجعل بالطبع المؤسسات الديمقراطية فى وضع ثانوى أحيانا، وفى وضع مناقض لما يدعون أنه إرادة الله، دون الاعتبار بكم الدماء المسفوكة على هذا الطريق، أو إهدار كل أنواع المشاركة والمنافسة أو الحرية، لأنه حكم يقوم على فكر يقينى لا يسمح بالاختلاف مطلقا، لا مع المناصرين له ولا المعارضين لسياساته بأى حال. إن قانون «الكل أو لا شىء» فى حالة تيارات الإسلام السياسى لا يجب أن تكون فقط تفسيرًا لاتخاذ مواقف سياسية وقتية من أجل ظرف سياسى فى تاريخ محدد، إنما يجب أن تكون قاعدة تستنفر أيديولوجيا سياسية دائمة للحفاظ على إنجازات البشرية وعدم إهدار كل القيم الإنسانية العليا، ومحاولة اللحاق بعصر المعرفة، والتمسك بل والمحاربة فى صف التعددية والنسبية والتاريخية ضد كل من يدعى أنه يمتلك الحقيقة المطلقة.