نعرف «عبدالمجيد الشرفى» أستاذا ومفكرا تونسيا , له قيمته الفكرية , لكن الأهم من ذلك أن الشرفى استثنائى فى أمر غاية فى الأهمية, انه ذلك المعلم الذى يضع نقاطا أساسية , ويطرح قضايا مهمة ويقدم افكارا ورؤى مبتكرة ثم يتيح الفرصة من خلال منهج ومساندة لابنائه من الباحثين ليقوموا بحفرهم المعرفى , نحن نتحدث عن مدرسة «الشرفى» التى أسسها فى تونس وانجبت كما من الباحثين والمتخصصين البارزين , نحن أمام نموذج من الايثارية حينما يكون الاستاذ قادرا على العطاء السخى فيقدم لبلده وأمته هذا الكم الزاخر من الافكار والاطروحات عبر تلاميذه خاصة فى مجالات الدراسات الاسلامية والفكر العربى والحداثة . «الشرفى »علامة على طريق البحث المعرفى بمنهجية وطرائق مبدعة له مدرسته الفكرية التى لا تنتمى لتيار معين ولا تاخذ مذهبا محددا , ولا تتحرك فى اطار ايديولوجى , يقولون فى تونس أن الشرفى أنجب فى كل مدينة وفى كل حى باحثا ومفكرا . فهو أستاذ محاضر بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بتونس ، بجامعة منوبة، أشرف على أكثر من 50 أطروحة ورسالة، وشارك في عدد مماثل [من لجان المناقشة)، تولى من قبل رئاسة اللجنة القطاعية لإصلاح برامج العربية بوزارة التربية,كلف بمهمة تنسيق الإصلاح الجامعي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي فى الثمانينات, عضو المجلس التنفيذي لمنظمة الإيسسكو ( الرباط ) ،عضو المجلس العلمي للأكاديمية المغاربية للعلوم بطرابلس ، أستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة بجامعة منوبة له العديد من المؤلفات التى اثرت المكتبة العربية وترجم معظمها الى اللغة الفرنسيه منها مقامع الصلبان ، للخزرجي ، الرسالة العسجدية في المعاني المؤيدية ، للصنعاني (تحقيق - نقد), الإسلام و الحداثة ,تحديث الفكر الإسلامي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، الإسلام واحدا ومتعددا , مستقبل الإسلام في الغرب والشرق، الثورة والحداثة والإسلام، , مرجعيات الإسلام السياسي.
علاقة الانسان بالدين علاقة وثيقة وقديمة ..كيف تشكلت هذه العلاقة وما هى أبعادها وتأثيراتها على الحياة الانسانية ؟ يعني الدين أساسا إجابة عن الأسئلة الوجودية المحيّرة المتعلقة بالمبدأ والمصير، وهو الذي يوفّر للإنسان معنى لوجوده على وجه هذه الأرض، لا يضاهيه أيّ مصدر آخر من المصادر التي تسعى إلى توفير هذا المعنى، وبخاصة العلوم الطبيعية والفلسفة. هذه هي الوظيفة الأولى للدين، ويمكن القول إنها ملازمة للمنزلة البشرية، إلا أن وظائف أخرى قد التصقت بها عبر التاريخ حتى كادت تعوّضها وتستأثر بوجدان الناس وعقولهم. ومن أبرز تلك الوظائف ما لازم سيرورة انخراط الأديان في التاريخ من مَأسسة. وهذه المأسسة هي التي اقتضت ان يكون لكل دين منظومة عقدية وأخلاقية وتشريعية وطقسية يتميّز بها عن غيره من الأديان. وهكذا اصطبغت تلك المنظومة بصبغة القداسة حتى أضحت بديهية في نفوس المؤمنين، بينما هي في حقيقتها منظومة بشرية تاريخية، إذن نسبية، متأثرة بقِيَم المجتمعات التي ظهرت فيها وبثقافتها الموروثة. وهذا ما يفسّر الصعوبة التي تجدها السُنن الدينية الكبرى، والتوحيدية منها على وجه الخصوص، في التأقلم مع القيم التي أفرزتها الحداثة، وهي قيم غير مسبوقة في تاريخ البشرية. ولئن كانت هذه القيم غير غائبة تماما في الحضارات القديمة فإنها اكتسبت، منذ أن اكتسحت الحداثة كل ميادين الحياة العصرية، أبعادا أخرى تجاوزت بها ما ينتمي إلى الماضي. ومن أهم هذه القيم التي تلخصها منظومة حقوق الإنسان قيمة الحرية التي كانت تعني إما خلاف العبودية أو مدى قدرة الإنسان على خلق أفعاله، وأصبحت دالة على أن كل ما يأتيه الإنسان من أفعال لا يخضع فيه لأية سلطة ولا تحدّه إلا حرية الآخرين، بما في ذلك ما يطلق عليه حرية الضمير، أي حرية الإنسان في الاعتقاد أو في اللااعتقاد وفي تغيير دينه. ومنها كذلك قيمة المساواة التي عصفت بالتراتبية التي كانت سائدة في المجتمعات القديمة على أساس الجنس أو الانتماء العرقي أو الديني أو غيره من أشكال الانتماء. وبما أن الدين هو الذي كان يبرّر ويُشَرْعِن النظام الاجتماعي القائم على الحد من الحرية ومن المساواة، فإنه مدعوّ إلى تجاوز مقولاته التقليدية لكي يحافظ على مصداقيته في نفوس كل الذين يتبنّون القيم الحديثة، لكن المؤسف أن القائمين عليه غير مؤهّلين في الأغلب بحكم تكوينهم للقيام بهذا التجاوز المؤلم. كيف يمكن تسويق الدين ايديولوجيا ؟ لا أظن أن تسويق الدين إيديولوجيا يختلف عن تسويق أية عقيدة إيديولوجيا، سواء كانت العقيدة دينية أو دنيوية. فالتسويق يخضع لنفس القواعد مهما كانت «البضاعة» المسوّقة، والدين المسوَّق إنما هو مجمل العقائد التي نشأت في صلبه وتأثرت بالظروف التاريخية العامة المحيطة بتلك العقائد والتي يمتزج فيها الديني الخالص بالثقافي والسياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي. ولنا في العقائد الإسلامية التاريخية خير مثال على ذلك. فالعقيدة الشيعية التي تتمحور حول الإمامة وتواصُل الوحي عبر الأئمة، والعقيدة السنية الأشعرية التي تدور حول الإقرار بالتأويل الذي كرّسه الفقهاء وعاضدتهم فيه السياسة القائمة، كلتاهما تسويق إيديولوجي للدين تستعمل فيه وسائل الدعاية والتعليم والرقابة والترغيب والترهيب المتاحة.لكن الإيمان، وهو البعد الأساسي في الدين، والذي هو – بخلاف العقيدة - ثمرة اختيار شخصي حرّ، غير قابل للتسويق إيديولوجيا. إن الإيمان لا ينتسب إلى التركيبات الفكرية بقدر ما هو منغرس في إحساس الإنسان ووجدانه منذ وجد على وجه الأرض، بصرف النظر عن السنن الدينية والعقائد التي ترمي إلى التعبير عنه بواسطة الخطاب اللغوي. هل تخدم الايديولوجيا الدين ؟ موقفي القطعي في هذا الصدد أن الإيديولوجيا لا تخدم الدين البتة، لأنها تنحطّ به من التوق إلى المطلق ومن كونه غذاء روحيا يحقق الطمأنينة والتوازن النفسي والسعادة في علاقة المؤمن بنفسه وبالآخر، نحو إضفاء نوع من القداسة الزائفة على النسبي المتغيّر بتغيّر الظروف. وبعبارة أخرى فإن الإيديولوجيات تتراوح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار فكيف يمكن لها أن تتفق على فهم واحد للدين؟ إنها لا تستطيع إلا توظيفه، وشتان بين خدمته واستغلاله لتمرير مواقف ليست من طبيعته ولا من غاياته. منذ أن وجد الدين كان هناك توظيف سياسى أو بمعنى أدق أيدلوجى .. الى أى مدى كان هذا التاثير الايدلوجى على معتنقيه ؟ تكون الأدلجة بتبرير اختيارات سياسية واجتماعية واقتصادية تبريرا دينيا، هو طبعا تبرير متعسف على الدين ومنزاح به عن مقاصده. وتكون هذه الأدلجة في أغلب الأحيان ذات صبغة محافظة، بل رجعية ماضوية نكوصية. وهذا بالضبط هو ما تقوم به المؤسسة الدينية الرسمية في الديار الإسلامية حين تبرر سياسات حكوماتها سواء كانت على حق أو على باطل. وكما يؤدلَج الدين لتبرير الأنظمة القائمة فإنه يؤدلَج كذلك لمعارضتها، وهو سلوك كل الحركات الإسلاموية على اختلاف تسمياتها متى لم تصل إلى سدة الحكم، وإذا ما وصلت إليه يكون الباب مفتوحا على مصراعيه للمزايدة على الدين، كل تيار في الحكم أو في المعارضة يريد أن يستأثر بالفهم الصحيح لنفس الدين، ممّا يفقده وظيفته الأصلية التي ذكرناها ومصداقيته. يقول التوسير حرك شفتيك واركع وعندئذ ستؤمن ..كيف يمكن من خلال هذه العبارة ربط الدين بالايديولوجيا؟ لا أرى شخصيا صلة بين قولة ألتوسير هذه والإيديولوجيا، فالأمر هنا متعلق بالعلاقة بين الطقوس وأشكال العبادة من جهة والعقائد المرتبطة بها من جهة أخرى، على أساس أن مأسسة الدين تمر عبر السيرورتين الراميتين إلى توحيد الطقوس وتوحيد العقيدة، فضلا عن توحيد مظاهر السلوك توحيدا يناى بأتباع كل دين عن الاندماح في غيرهم من أتباع الفرق والطوائف والأديان الأخرىن، ويجعلهم يتميزون عنهم في اللباس والأكل والشرب والسلوك الأخلاقي. وهذا بالذات هو المقصود بالقول المشهور – وبعضهم يرقى به إلى منزلة الحديث النبوي – المتعلق بدمج الأطفال في المجموعة، وهو «مُرُوهُمْ لِسبْع واضربوهم لعشر»، لأن الأطفال متى تعودوا على أداء الصلاة منذ الصغر يضحون قابلين لما استقر لدى المجموعة من قيم وعقائد. ثمة مقولات عن نهاية الايديولوجيا .. فهل يمكن أن تنطبق على الدين أم يظل الدين دائما جاهزا للاستيعاب والسيطرة على المستوى الانسانى ؟ إنني لست من القائلين بنهاية الإيديولوجيا، لأن هذه النهاية تعني في حقيقة الأمر اعتبار النظام الرأسمالي العالمي بعيدا عن الإيديولوجيا، بينما هو إيديولوجي بامتياز، ولكن إيديولوجيته خفية لا تفصح عن حقيقتها. أما نهاية الدين فمقولة سادت لمدة معيّنة في زمن العلموية والفلسفة الوضعية التي تعتبر أن الإنسان الحديث مرّ من مرحلة الأوهام والميتافيزيقا إلى مرحلة العلم، وأن العلم قادر على حل كل مشكلات الإنسان بما فيها المعضلة الوجودية. هناك خطاب دينى يتوجه الى معتنقى الدين وهناك ايديولوجيا توظف الدين لاغراض معينة ايهما اكثر تاثيرا على الشعور الانسانى الخطاب الدينى المباشر ام الايديولوجيا المختبئة وراء أقنعتها ؟ الإيديولوجيا هي كذلك تستعمل الخطاب لإثارة الشعور، ولهذا فالمقابلة لا تكون بين الخطاب والإيديولوجيا بل بين أنواع من الخطاب، بعضها يعمل على الإشباع النفسي والبعض الآخر يرمي إلى الإقناع العقلي. ومتى كان الشعور بلا برهان عقلي فإنه يولّد الوعي الزائف وقد يؤدي إلى السلوك المرَضي وحتى العنيف، كما هو حال المنساقين إلى اتّباع الحركات التكفيرية والجهادية والإرهابية. كيف يخدم الخطاب الدينى الايديولوجيا. وكيف تصنع الايديولوجيا صورة لخطاب معين؟ إذا ما اصطبغت الإيديولوجيا بالدين فإنها تستمد منه صبغته الإطلاقية وعمق تأثيره في النفوس. وإذا ما تمّت عملية الانصهار بين الدين والإيديولوجيا فإنه يصعب التمييز بين الخطاب الديني الخالص الموفّر للسموّ الروحي والراحة النفسية من جهة، والخطاب الإيديولوجي العامل على تجييش المشاعر والدافع إلى سلوك يخدم غايات فئوية ضيقة ليست لها رحابة الدين وسماحته من جهة ثانية. وبعبارة أخرى يأخذ التعصب الذي هو سمة الإيديولوجيا صبغة دينية يعسر الفكاك منها، ويمكن أن تؤدي في الآن نفسه إلى كره الذات وجعلها تتحمل كل أنواع الأذى والألم وحتى الموت، كما هو مشاهَد في عمليات التفجير بالأحزمة الناسفة، وإلى العنف تجاه المخالفين، سواء كان ذلك العنف في شكل إرهاب فكري أو في شكل عدوان مادي قد يصل إلى القتل. كيف استطاعت حركات الاسلام السياسى أدلجة الدين رغم انكارها المستمر لفكرة الايديولوجيا ؟ العبرة في هذا المجال ليست بالإقرار أو بالإنكار بل بواقع الإسلام السياسي، وهو واقع يشهد بهذه الأدلجة في كل ممارساته. وقد استطاعت الحركات الإسلاموية أدلجة الدين لعدة أسباب، لعل من أهمها أن زعماءها إما ذوو تكوين تقليدي هو من رواسب عصور الانحطاط والتحجّر الذهني، أو ذوو تكوين في العلوم الصلبة غابت فيه الأبعاد التاريخية النسبية، وقلّما تجد من بينهم متضلعين في علوم الإنسان والمجتمع الحديثة أو مبدعين في شتى أنواع الإبداع، في الأدب والفنون التشكيلية والمسرحية والسينمائية وغيرها. ثم هم معبّرون عن النزعة المحافظة في المجتمع، فيرفضون القِيَم التي تستهوي معاصرينا من أمثال الحرية والمساواة والديمقراطية. كما أنهم لا يقبلون ما يترتب على العلمنة التي تمسّ التشريع من نتائج تنسف المنظومة التشريعية الموروثة والتي تقدّم نفسها على أنها تطبيق للإرادة الإلهية ولا صلة لها بالزمان والمكان.وقد استطاع الإسلام السياسي أدلجة الدين لأن المجتمعات العربية والإسلامية عموما لم تنتج الحداثة، بل وجدت نفسها مضطرّة إلى قبولها دون أن تكون الأرضية العلمية والسياسية والاقتصادية فيها مهيّأة لقبولها، فلم تعرف التصنيع ولا تطوّر أنماط الإنتاج ولا الأنظمة السياسية الحديثة في الدول القومية التي قامت على أنقاض الامبراطوريات. والأدهى من ذلك أنها لم تعرف من الحداثة في البداية إلا انعكاساتها السلبية الكارثية من استغلال وسياسات امبريالية تقسّم البلدان المستعمَرة وتسعى إلى طمس هوياتها التاريخية اللغوية والدينية. هل تختلف ايديولوجيات بين حركات الاسلام السياسى .. بمعنى هل تتبنى كل حركة ايديولوجيا معينة أم أنها تتفق حول ايدلوجيا واحدة يتم التعبير عنها بخطابات متعددة؟ الاختلافات بين إيديولوجيات الإسلام السياسي موجودة، ولكنها تنويعات على الأصل. هي اختلافات تنافُس لا تنافُر، لأنّ كل حركة إسلاموية تعتقد أنها تمثل الإسلام الصحيح والفرقة الناجية في مقابل الفرق الأخرى الضالة. والدليل على نوعية هذه العلاقة أنك لم تسمع يوما تنديدا علنيا صريحا بعمل إرهابي قامت به مجموعة تنتمي إلى الإسلام السياسي، وتُلقى المسئولية كاملة على كاهل خصومه من الحداثيين والعلمانيين وأعداء الإسلام المتربصين به والمتآمرين عليه. ولذلك فقد تلتقي حركات الإسلام السياسي حينا ويسود بينها العداء حينا آخر، كما هو الشأن في الآونة الأخيرة بين الوهابية والإخوان المسلمين أو بين حزب التحرير والقاعدة أو غيرها من التنظيمات. وسواء وصلت هذه الحركات إلى الحكم أو ما زالت تسعى إليه فإن إقامة ما تعتبره خطأ ”شرع الله“ يربط بينها جميعا، إلا أن الاعتبارات السياسية الظرفية والمصالح المادية والمعنوية قد تؤدي بها إلى التقاتل فيما بينها، كما حصل في شبه الجزيرة العربية بين الحكم السعودي و”الإخوان“ أو بين حماس والجهاد الإسلامي في غزة. ما علاقة العنف بالايديولوجيا .. هل يمكن أدلجة العنف ؟ ليست كل إيديولوجيا عنيفة بطبيعتها، ولكن من الإيديولوجيات ما تتبنى العنف لتحقيق أهدافها، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الإيديولوجيا دينية، كما هو حال السلفية الجهادية، أو لادينية، كما كان شأن الخمير الحمر في كمبوديا مثلا. فلممارسة العنف أسباب عديدة ليست الإيديولوجيا هي الوحيدة المسئولة عنها. هل يحمل لنا المستقبل رؤى أيديولوجية جديدة بالنسبة لما هو دينى ..هل ثمة امكانية لايديولوجيا دينية جديدة؟ متى قبلنا أن تاريخ الأمم والشعوب يسير وفق سُنَن عامة بصرف النظر عن الإرادات الفردية المحدودة، فإن ظهور رؤى إيديولوجية جديدة متناغمة مع مقتضيات العصر إمكانية واردة، بل تكاد تكون ضرورية لمحافظة الدين على مصداقيته في ضمائر المؤمنين. هذا على كل حال هو ما حصل مع إيديولوجيا الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، وإلى حدّ ما مع حزب العدل والتنمية في تركيا. هل يعنى الربيع العربى موت الايديولوجيا أم انبعاث جديد لها يأخذ فى التشكل لكنه لم يتبلور بعد ؟ أمّا أنّ الربيع العربي يعني موت الإيديولوجيا فهذا في نظري غير صحيح البتة. وأمّا أنه يعني تشكلا جنينيا جديدا للإيديولوجيا باتجاهاتها المختلفة فهذا هو الملاحظ في ما يروج في أوساط الشباب وأصحاب المدوّنات منهم على وجه الخصوص. لكن ينبغي أن تراعَى في هذا المستوى الفروق الهامة الموجودة بين بلدان الربيع العربي، وبين درجات الوعي لدى جماهيرها، وبين صلابة تنظيمات المجتمع المدني فيها، وبين طبيعة اقتصادها – إن كان ريعيا أو لا -، وبين مدى رسوخ مفهوم الدولة فيها، وبين درجات تغلغل الحداثة في مؤسساتها المجتمعية، في نظام الأسرة على وجه الخصوص، وغير ذلك من العوامل الموضوعية المساعدة أو المعرقلة. ما هى الصورة التى يمكن تحديدها لايدولوجيا راديكالية كالتى تتبناها حركات الاسلام السياسى المتطرفة ومدى تأثيرها فى مستقبل العالم العربى والاسلامى ؟ هي مع الأسف صورة بَشِعة تنفّر من الإسلام عوض أن ترغّب فيه، ينساق فيها ضعاف النفوس والمغرورون والمُحبَطون لأسباب مختلفة. وأنا على يقين بأنّ مستقبلها ليس رهين الأوضاع الداخلية في كل بلاد عربية وإسلامية على حدة، بل رهين سياسات القوى العظمى النافذة من ناحية، ورهين ما يطرأ على النظام الاقتصادي العالمي من ناحية ثانية، هذا النظام الجائر الذي يجعل الآن ثمانين شخصا يملكون مقدار ما يملكه ملياران من البشر على وجه كوكبنا الأرضي. هل حمل الربيع العربى ايديولوجيا معينة، ام كان خريفا مكبلا لفكرة الايديولوجيا أصلا ؟ تبدو لي الخاصية المشتركة بين الإيديولوجيا التي حملها الربيع العربي هي رفض الاستبداد والسعي إلى الكرامة والتنمية. فلأول مرة في التاريخ تثور شعوبنا على الحكم المطلق ولا تكون فيها مجرد انقلابات عسكرية أو حركات تمرد تقوم بها مجموعة منظمة سلفا. ولا ينقص من أهمية هذه الجدّة ومن تأثيرها على المدى المتوسط أو البعيد ما آلت إليه الأمور في كل قطر بحسب معطياته الخاصة. إن التقدم لا يسير بحسب تطوّر خطيّ لا عوج فيه، ولذا فالنكسات واردة باستمرار ولكنها لا تستطيع أن تعيق تماما الأهداف المرجوّة. على ارض الواقع فى العالم العربى هل هناك ما يمكن تسميته بصراع الايديولوجيات ؟ طبعا، هذا الصراع من طبيعة الحياة، وهو صراع قائم أساسا بين قوى المحافظة والرجعية والماضوية باختلاف مبرراتها، وقوى التقدم والرقي والتحرر من كل أشكال القهر والغبن والتخلف، على تنوّع السبل والوسائل الموصلة إليها. هل يمثل الدين فى حد ذاته سلطة ..لا أقصد السلطة الروحية وانما سلطة سياسية أو اجتماعية ..بمعنى أخر هل يمكن استغلال الدين فى التسلط؟ نعم، من اليسير استغلال الدين للتسلط، إذ أنك تستطيع بسهولة معارضة من يتسلط بمبررات دنيوية ولكنك لا تستطيع بنفس السهولة معارضة من يتسلط عليك باسم الدين وباسم الإرادة الإلهية. لكنّ حبل التسلط، مهما كان، قصيرا، ولا بد أن ينكشف على حقيقته رغم وسائل التمويه التي يستعملها عن حسن نية أو عن سوء نية. الايديولوجيا كما الخطاب كلاهما منتشر وحاضر لكن لمن تكون السيطرة ؟ سبق أن بيّنت أن المقابلة لا تكون بين الخطاب والإيديولوجيا، بل بين خطابات مختلفة من جهة، وبين إيديولوجيات متصارعة تستعمل تلك الخطابات من جهة ثانية. أما السيطرة فيعسر التكهّن بلِمن ستكون في المستقبل، إذ أن تلك السيطرة مرتبطة بعوامل عديدة ومتغيرة باستمرار. كل ما يمكن قوله في هذا الصدد أنه لا خيار للعرب وللمسلمين إن كانوا يرغبون في أن تكون لهم مكانة في التاريخ إلا أن ينخرطوا انخراطا صريحا في الإيديولوجيات التي تؤمن بالحرية الشخصية وبالتعددية وخصوصا بأن الطريق السالك إلى الكرامة والمناعة واحترام الآخر لهم يمرّ حتما عبر امتلاك ناصية العلوم الحديثة، الإنسانية والاجتماعية منها، والصلبة والتكنولوجية على السواء. [email protected]