منزل ديليسبس شاهد على التاريخ.. وقصر الخديو تحوّل إلى استراحة مميش تصوير: محمد عبدالوهاب السهيتى لا يعرف التاريخ سوى قناة واحدة للسويس، ما زالت الأولى تحمل دماء 120 ألف مصرى، كانت دماؤهم قربانا لوصل البحر الأحمر بالمتوسط، يتكرر التاريخ اليوم، مختصرا عشرة أعوام استغرقها شق القناة الأولى، لعام واحد للثانية، الذكرى التى عادت من جديد، تحمل عبق الماضى، مستبدلة بالثوب العثمانى جلبابا مصريا، وتلك الربوة التى استقرت عليها الإمبراطورة أوجينى، متأبطة ذراع الخديو إسماعيل، يسير بجانبها فرديناند ديليسبس، بمنصة أخرى ستحمل عما قريب الرئيس عبد الفتاح السيسى مزهوا بما حققه المصريون من إنجاز وسط زعماء العالم، إنجاز جديد سيخلده التاريخ، كما سبق وأن خلد خطى الفرنسيين على تراب الإسماعيلية. «ابتسم أنت فى الإسماعيلية»، تقابلك اللافتة، ترحب بك فى كل أنحاء المدينة التى سكنتها روح الفرنسيين حتى بعد رحيلهم، منذ عقود، هدوء يصل حد الصمت المطبق، صفة اكتسبها أهل المدينة من سنوات عشرتهم «للفرنساوية»، لم يتخلوا عن العادة الفرنسية، وكذلك لم تتخل عنهم الروح الباريسية، فسكنت تفاصيلهم اليومية، بكوب الشاى فى الخامسة عصرا، مدرسة فرنساوى لتعليم أبنائهم، كانت وقفا فى الماضى على أبناء العاملين فى قناة السويس من الأجانب، ما زالت الشوارع محتفظة بتخطيطها القديم، لا تشوهها عشوائيات بدأت فى الظهور مؤخرا، الكنيسة القديمة، الحى الأوروبى، كلها ما زالت شاهدة على تاريخ يحمل الذكرى لقناة السويس التى لم تحمل رقما إلا قريبا «الأولى». طريق «محمد على»، هكذا يشير أهالى الإسماعيلية إلى المكان الذى يحوى بين ضفتيه تاريخ المدينة القديم، فهنا تم أول بناء فى المدينة، حيث «سكن ديليسبس»، الرجل الفرنسى، الذى عرفه المصريون مهندسا لمشروع قناة السويس، وعرفه العالم بسليل الدبلوماسيين، تاريخ ممتد لديليسبس فى الإسماعيلية، ما زال باقيا حتى اليوم، يشهد عليه أول منزل شيد فى المدينة، منزل من غرفة واحدة فى البداية، أضيف إليه صالون للاستقبال فى ما بعد، ثم غرف متعددة فى طابق آخر، وصلت إلى اثنتى عشرة غرفة، كانت معدة لاستقبال واستضافة الخديو وضيوفه من القاهرة، «بلا أى لافتة» يقف منزل ديليسبس، لا يلتفت إليه أحد من زوار القناة، قديمها وجديدها «آخر حد جه هنا كان السادات، وكانت معظم زيارات الوفود الأجنبية لازم بتعدى زيارة للمنزل»، يتحدث سليمان، حارس المنزل، والذى خرج على المعاش من العمل فى قناة السويس، ليبدأ عمله الجديد منذ سنوات أمام منزل «المهندس الدبلوماسى»، منذ فترة ليست قريبة، باب خشبى قصير، يفتحه مقبض من الكريستال، يدل دلالة قاطعة على قصر قامة صاحبه، الذى كان من عادته اليومية الاستحمام فى ذلك «الطشت» الصغير، قبل أن يخرج من الغرفة ويطالع درجة الحرارة فى «الترمومتر» المعلق على مدخل البيت يقيس درجة الحرارة حتى اليوم، الحلم الذى وجده الشاب فرديناند ديليسبس فى كتاب «وصف مصر» على ظهر السفينة التى أقلته من فرنسا ليكون مساعدا للقنصل الفرنسى فى الإسكندرية حلما سبق وأن تمناه «بونابرت»، لكنه لم يستطع تنفيذه، ليعود الشاب العشرينى بعد عدة سنوات ليخوض التجربة من جديد، منزل وطشت ومكتبة، ودولاب قديم، وكذلك «نملية» تشبه إلى حد كبير تلك الموجودة فى البيوت المصرية القديمة، هى كل ما تبقى من ديليسبس فى الإسماعيلية، مع طربوشه القديم، وعربته الحنطور الخشبية، التى صمم لها مكانا خاصا من الزجاج ليقيها الشمس الحارقة فى حديقة المنزل، المنزل الذى احتفظ بطرازه الفرنسى، وتصميمه القديم لم ينج من التطوير الذى اقتصر على جهاز تكييف، و«طبق دش» معلق فى البلكونة الخشبية أعلى المنزل، محاولات التطوير، التى لاحقت المنزل لم تقف عند هذا الحد، فقد اختارت هيئة إرشاد قناة السويس مكانا ملاصقا للمنزل لتقيم به ملحقا مكونا من 20 غرفة منفصلة لإقامة الزائرين من ضيوف الهيئة، واختار الحزب الوطنى «الكوبانية القديمة» الملاصقة لمنزل ديليسبس لتكون مقرا له «لما الحزب الوطنى اتقفل جمعية أصدقاء فرديناند ديليسبس اشتروا المبنى وهيعملوا متحف مجاور للبيت ويجمعوا فيه كل مقتنياته». «مولد سنوى» يجتمع فيه مريدو المهندس الفرنسى فى شهر يوليو من كل عام، لكن هذا العام يبدو الأمر مختلفا «مافيش أى تنسيق من الجمعية لحد دلوقتى، وواضح أن الزيارة مؤجلة بسبب افتتاح القناة الجديدة». رحل «الفرنساوية» عن المدينة، وتركوا المدرسة الابتدائية، فى مكانها، تحمل شواهدهم على التمييز بين المصريين والأجانب فى التعليم، الذى ما زال يحمل اللغة الفرنسية حتى اليوم «ولاد المصريين وقتها ماكنوش بيتعلموا والمدرسة دى للأجانب»، لم تكن المدرسة الفرنسية هى المعلم الوحيد من معالم المكان الذى لم يتغير، فكذلك الكنيسة و«فيلات القباطين»، لم يزد عليهم شىء سوى ذلك السلك الشائك الذى يحمى معظم الفيلات «الفيلات دى ملك الهيئة وبتديها للقبطان لمدة اشتغاله بالهيئة وبعد خروجه على المعاش بيخير بين أن يمنح فيلا فى مكان آخر أو تصرف له مكافأة نهاية الخدمة»، يتحدث محمود حسام، أحد المقيمين بالقرب من سكن القباطين، مؤكدا أن تصميم الفيلات من الداخل والخارج لم يتغير منذ نشأتها فى عهد الفرنساويين «ماحدش هنا من السكان بيدفع ميه أو نور أو تليفونات كله على حساب الهيئة والساكن بيدخل بشنطة هدومه ويطلع بيها». لم تتوقع أنه بعد عشرة أشهر من اعتلائها أعلى ربوة فى مدينة الإسماعيلية، لتطل منها على جموع المدعوين فى افتتاح القناة، سيطيح بها الروس من فوق عرش فرنسا، ليكون مصيرها فى النهاية مجرد سائحة غريبة تأتى لاستعادة ذكرياتها فى القناة، «سراى الجزيرة»، القصر الذى بناه الخديو إسماعيل خصيصا لاستقبال إمبراطورة فرنسا الذى تحول بعد ذلك إلى «فندق ماريوت» الشهير بالزمالك، لم تستطع الإمبراطورة السابقة أن تدخله مرة أخرى فى زيارتها لمصر فى 1904، فاكتفت بزيارة لبورسعيد تستعيد فيها ذكريات استقبال الخديو إسماعيل لها والذى لم يختلف مصيره كثيرا عن مصيرها، لم تزل ربوة «نادى الجولف» والتى تطل على شاطئ بحيرة التمساح، فى أقرب نقطة لقناة السويس، تحمل أعمدتها شواهد الحفل الفخم الذى أقيم وقتها، كما تحمله تلك الجدارية التخيلية المعلقة فى مدخل الحى الأوروربى، والتى ستنافسها عما قريب جدارية جديدة تحاكى افتتاح قناة السويس الجديدة.
«نوادى الإسماعيلية»، باقى «التركة» الفرنسية فى مدن القناة، حيث خصص الفرنساويون ناديا لكل لعبة، خصوصا تلك التى لم يكن يعرف المصريون عنها شيئا، نادى التنس، ونادى الجولف، نادى التجديف، كلها ما زالت محتفظة بأسمائها كما تركها من بنوها «أى حاجة حلوة فى البلد دى عملوها الفرنسوية، واللى غير كده هيبقى من بعد ثورة يوليو»، لا يكره الحاج صبحى، صاحب أحد الأكشاك المجاورة لمنطقة الشاطئ فى الإسماعيلية، ثورة يوليو، فقد ردت الحق لأصحابه «واحنا صحابه» يقولها بقوة، متذكرا تلك القصص التى رويت له عن دماء جده التى تشربتها رمال القناة «جدى الكبير كان من الجيزة وجه حفر القناة وبعد إما مات فيها ولاده جم الإسماعيلية واستوطنوها»، انتهت أسطورة قناة السويس ومن حفروها، هكذا يظن الرجل الستينى، فقد حلت محلها القناة الثانية «يوم ما اتعمل تمثال فى البلد دى للى عمل القناة كان التمثال لديليسبس والخديو إسماعيل، واتنسى 120 ألف مصرى اتعذبوا وماتوا فى الأرض دى والنهارده برضو منسيين».