يحدث الآن: تسريبات باتهامات حول مجرمى حادثة رفح. تسريبات؟ رغم أن التحقيق يتم بإدارة أعلى جهات أمنية.. أى أجهزة فخيمة يطلق اسمها مقرونًا بالسيادية.
والتحقيق أيضًا يتم وفق العملية الجبارة التى سمّيت «نسر».. ثم تغيّر اسمها، وبعد أن كان تحت قيادة الجيش.. قفز المرسى وقال أنا قائد العملية. كل هذا والناتج ليس سوى ترتيبات. مرة تدور حول عناصر من الجهاد.. (أفرج عنهم المرسى.. فى عفو رئاسى كل يوم نكتشف أن فيه من العجائب ما يفوق الأهرامات وبرج بيزا المائل). والتسريبات مرة أخرى تتحدّث عن «سلفية جهادية»، تسرّبت من القطاع.. لكن التسريبة الكبيرة هى عن حماس.. وبالتحديد أسماء 3 من قادتها. والموضوع لا يتعلّق بالجريمة وإنما فى الغالب بصراع داخل شركة الحكم. الشركاء (الإخوان والعسكر)، لم تعد ترضيهم الأنصبة القديمة (التى أشرف عليها الراعى الدولى).. جريمة رفح هى الموضوع الذى تتجسد عنده الصراعات.. ويصلح لأسباب كثيرة أن يكون مسرح إعادة توزيع الأنصبة كما كان أول مرة مسرح إعلان الشركة. ورغم أننى لست من أنصار مقولات من نوع: «ألم أقل لكم»، فإننى وقت الجريمة كتبت: إذا كنتم تبحثون عن الشياطين، فإنكم تريدون نفس النتيجة: جريمة الحدود ستنتهى فى المتاهة بعد أن يكون قد ثبت المسؤول أكثر فى موقعه.
مَن ارتكب الجريمة؟ هذا سؤال.
ومَن ساعد على نجاحها؟ هذا سؤال مختلف.
لكن هناك مَن يحاول خلط السؤالَين لإخفاء معالم الجريمة. هذا الخلط يؤدّى فى النهاية إلى شيطنة أهل سيناء باعتبارهم مشاريع خونة. أو شيطنة الفلسطينيين هكذا بالعموم على عادة نظام مبارك وصبيانه باعتبارهم طامعين فى احتلال سيناء. العقل يغيب هنا وتعلو المصالح ولا يُعلى عليها. هذه ليست جريمة عادية يمكنها أن توضع فى ماكينات الرد السريع عند الكتل السياسية. جريمة الحدود كاشفة كما كانت هزيمة يونيو.. لكن السلطة وباحترافها الكبير غطّت كل ما كشفته يونيو وتحاول الآن تغطية ما حدث فى رفح.
العملية يقصد بها إهانة الجيش المصرى وإظهار عدم كفاءته فى حماية الحدود أو مواجهة عصابة إرهابية. يقصد بها أيضا إعادة الاتهام القديم الذى قامت عليه جماعات معادية للدولة الحديثة باعتبارها دولة خيانة وكفر.. هذه الإعادة للخطاب ومن خلال صيحات الإرهابيين «الله إكبر»، و«ستموتون يا خونة»، على حد رواية الناجى الوحيد من المذبحة.. وهنا لا بد من التوقف عن علاقة المال والعقيدة فى الجريمة: إنها لم تكن بالتأكيد من أجل مال أو مجرد أداء وظيفة عادية لأن فى العملية شقًّا انتحاريًّا.. لا تحرّكه إلا عقيدة. هل هى عقيدة جهادية أو تكفيرية (كما قالت الجماعة)؟ أم عقيدة خدمة إسرائيل كما يمكن أن نفهم من طريقة تربية فرق المستعربين فى الجيش الإسرائيلى؟ ليس المال غالبًا ولا المؤامرة البسيطة. إنها عملية يمكن أن يتم توجيهها عبر اختراق المخابرات (الأمريكية أو الإسرائيلية أو حتى المصرية).. لتنظيمات تقوم على غسل دماغ عناصرها وتوجيههم إلى أن طريق الجنة يمر من رفح. هذه العقلية لم تعد خطرًا إلا بقدر ما هى خاضعة للاستخدام أو للتوجيه عن بعد. لم تعد قادرة على التغيير السياسى لكنها أقرب إلى عصابات «فرانشيز» تحت الطلب.. وفوقها اللافتة النبيلة للجهاد أو الموت فى سبيل نصرة الدين. وهذه أوهام لا يصح معها أن نبحث عن شياطين فى غزة أو سيناء لأنهما مساحات الفشل الكبير فى الإدارة المصرية قبل الثورة وبعدها. مَن الذى عزل سيناء وأقام أسوارًا غير مرئية بين أهلها وبين مصر؟ مَن الذى رسّخ شعور الغربة لديهم، وبدلًا من إقامة مشروع تنمية اصطاد مبارك أماكن لتقام فيها منتجعات ومدن يشعر أهلها أنهم خدمتها أو ضيوفها..؟ مَن الذى جعل غزة معزولة وأسيرة؟ أليست الأنانية المفرطة التى رسّخها نظام مبارك؟ لا تبحثوا عن الشياطين فى سيناء. ولا تنشروا خرافاتكم على جثة الشهداء. فلا هذا وقت الدفاع عن حماس. ولا تعليق الخيبات على شماعة إسرائيل. ولا بد من اعتراف: هناك شرائح واسعة فى مصر، والعالم العربى تحب هتلر. وما زالت تبحث عن «هتلر منتظَر» يلقى إسرائيل فى البحر أو المحرقة. البحث عن هتلر، وانتظاره، أضاع كل الطاقات الممكنة لبناء دول قوية لا تستهين بها إسرائيل أو أى دولة فى العالم. تأجل كل شىء فى مصر والعالم العربى من أجل الحرب مع إسرائيل، وتضخمت إسرائيل إلى حد أصبحت معه وحشا مرعبا، تنفلت قوته، ويمارس بلطجته يوميا، ولا أحد فى مواجهته سوى مظاهرات تنتظر هتلر، وتنادى بإعادة موقعة خيبر، وتتوعد اليهود بالموت.
لم يشعر أحد بالملل من هذه المسرحية الممتدة طوال أكثر من 60 سنة. لم يتوقف أحد ليُعيد النظر فى مقولات هذه «الحرب الكبرى».. وأبطالها المنتظَرين.
لماذا لم يفكر العرب فى صناعة دول محترمة بدلا من انتظار أبطال يتحولون إلى كوارث متحركة؟ البحث عن أبطال هو قَدَر الشعوب العاجزة والبائسة.
والشعوب العربية: عاجزة وبائسة. وصورتها ليست أكثر من: فلول ضحايا حرب كبرى. حرب لم تتم فقط على الجبهات العسكرية، ولكنها على مستويات نفسية ووجودية حوَّلت العرب إلى كائنات خرافية خارج التاريخ. الجريمة فرصة لإعادة ترتيب المواقف…، والتخلص من لعنة انتظار هتلر، والتفكير فى حل عادل للقضية وليس استعراض بطولات، ومفاخر بالشهداء. أبطال القضية أصبحوا أكبر من القضية. وفلسطين اختفت تحت رايات الفصائل والأحزاب وهتافات تستدعى الأبطال أكثر مما تسعى لاستعادة فلسطين… إلى هنا انتهى كلامى وقت الجريمة… وما زال الكلام وقت التسريبات له بقية.