إذا كنتم تبحثون عن الشياطين فإنكم تريدون نفس النتيجة: جريمة الحدود ستنتهى فى المتاهة بعد أن تكون قد ثبَّتت المسؤول أكثر فى موقعه. مَن ارتكب الجريمة؟ هذا سؤال. ومَن ساعد على نجاحها؟ هذا سؤال مختلف. لكن هناك من يحاول خلط السؤالين لإخفاء معالم الجريمة. هذا الخلط يؤدى فى النهاية إلى شيطنة أهل سيناء باعتبارهم مشاريع خونة، أو شيطنة الفلسطينيين هكذا بالعموم على عادة نظام مبارك وصبيانه باعتبارهم طامعين فى احتلال سيناء. العقل يغيب هنا وتعلو المصالح ولا يُعلا عليها. هذه ليست جريمة عادية يمكنها أن توضع فى ماكينات الرد السريع عند الكتل السياسية. جريمة الحدود كاشفة كما كانت هزيمة يونيو، لكن السلطة وباحترافها الكبير غطت كل ما كشفته يونيو، وتحاول الآن تغطية ما حدث فى رفح. العملية يُقصد بها إهانة الجيش المصرى وإظهار عدم كفاءته فى حماية الحدود أو مواجهة عصابة إرهابية. يُقصد بها أيضا إعادة الاتهام القديم الذى قامت عليه جماعات معادية للدولة الحديثة باعتبارها دولة خيانة وكُفر.. هذه الإعادة للخطاب ومن خلال صيحات الإرهابيين «الله أكبر..»، «ستموتون يا خونة..» على حد رواية الناجى الوحيد من المذبحة. وهنا لا بد من التوقف عند علاقة المال والعقيدة فى الجريمة: إنها لم تكن بالتأكيد من أجل مال أو مجرد أداء وظيفة عادية، لأن فى العملية شِقًّا انتحاريًّا، لا يحركه إلا عقيدة. هل هى عقيدة جهادية، أم تكفيرية (كما قالت الجماعة)..؟ أم عقيدة خدمة إسرائيل كما يمكن أن نفهم من طريقة تربية فرق المستعربين فى الجيش الإسرائيلى..؟ ليس المال غالبا ولا المؤامرة البسيطة. إنها عملية يمكن أن يتم توجيهها عبر اختراق المخابرات (الأمريكية أو الإسرائيلية أو حتى المصرية) تنظيمات تقوم على غسل دماغ عناصرها وتوجيههم إلى أن طريق الجنة يمر من رفح. هذه العقلية لم تعد خطرًا إلا بقدر ما هى خاضعة للاستخدام أو للتوجيه عن بُعد. لم تعد قادرة على التغيير السياسى لكنها أقرب إلى عصابات «فرانشيز» تحت الطلب، وفوقها اللافتة النبيلة للجهاد أو الموت فى سبيل نصرة الدين. وهذه أوهام لا يصح معها أن نبحث عن شياطين فى غزة أو سيناء لأنهما مساحات الفشل الكبير فى الإدارة المصرية قبل الثورة وبعدها. مَن الذى عزل سيناء وأقام أسوارًا غير مرئية بين أهلها وبين مصر؟ مَن الذى رسّخ شعور الغربة لديهم وبدلا من إقامة مشروع تنمية اصطاد مبارك أماكن لتقام فيها منتجعات ومدن يشعر أهلها بأنهم خَدَمتها أو ضيوفها..؟ مَن الذى جعل غزة معزولة وأسيرة؟ أليست هى الأنانية المفرطة التى رسّخها نظام مبارك؟ لا تبحثوا عن الشياطين فى سيناء. ولا تنشروا خرافاتكم على جثث الشهداء. فلا هذا وقت الدفاع عن حماس. ولا تعليق الخيبات على شماعة إسرائيل. ولا بد من اعتراف: هناك شرائح واسعة فى مصر، والعالم العربى، تحب هتلر. وما زالت تبحث عن «هتلر منتظر» يلقى إسرائيل فى البحر أو المحرقة. البحث عن هتلر، وانتظاره، أضاع كل الطاقات الممكنة لبناء دول قوية لا تستهين بها إسرائيل أو أى دولة فى العالم. تأجل كل شىء فى مصر والعالم العربى من أجل الحرب مع إسرائيل، وتضخمت إسرائيل إلى حد أصبحت معه وحشا مرعبا، تنفلت قوته، ويمارس بلطجته يوميًّا، ولا أحد فى مواجهته سوى مظاهرات تنتظر هتلر، وتنادى بإعادة موقعة خيبر، وتتوعد اليهود بالموت. لم يشعر أحد بالملل من هذه المسرحية الممتدة طوال أكثر من 60 سنة. لم يتوقف أحد ليعيد النظر فى مقولات هذه «الحرب الكبرى».. وأبطالها المنتظرين. لماذا لم يفكر العرب فى صناعة دول محترمة بدلا من انتظار أبطال يتحولون إلى كوارث متحركة؟ البحث عن أبطال هو قَدَر الشعوب العاجزة والبائسة. والشعوب العربية: عاجزة وبائسة. وصورتها ليست أكثر من: فلول ضحايا حرب كبرى. حرب لم تتم فقط على الجبهات العسكرية، ولكنها على مستويات نفسية ووجودية حوّلت العرب إلى كائنات خرافية خارج التاريخ. الجريمة فرصة لإعادة ترتيب المواقف، والتخلص من لعنة انتظار هتلر، والتفكير فى حل عادل للقضية لا استعراض بطولات ومفاخر بالشهداء. أبطال القضية أصبحوا أكبر من القضية. وفلسطين اختفت تحت رايات الفصائل والأحزاب وهتافات تستدعى الأبطال أكثر مما تسعى إلى استعادة فلسطين.