الهدية هى ثروة عبد الوهاب، الحقيقة أنها ليست فقط ثروة عبد الوهاب ولا حتى مصر، إنها ثروة قومية عربية أحدّثكم عن هذا التراث الضائع والنادر الذى سجّله محمد عبد الوهاب فى النصف الأول من الستينيات بصوته، وهى المرحلة التى كانت فيها إمكانياته الغنائية فى كامل القوة والعنفوان. هذا التراث الغنائى كشف عنه الشاعر الكبير فاروق جويدة.. بعد رحيل عبد الوهاب قبل 22 عاما فى سلسلة الحوارات التى سجلها معه وقال إنه كان يذهب إلى منزل شمس بدران وزير الحربية المصرى الأسبق والرجل القوى فى تلك السنوات، حيث كان يسجل بصوته ألحانًا لقصائد من شعر أحمد شوقى وعزيز أباظة وكامل الشناوى.. بل إن حلم عبد الوهاب بتقديم أوبريت مجنون ليلى «لأمير الشعراء» أحمد شوقى، هذا الحلم سجله عبد الوهاب لدى شمس بدران، حيث غنّى تلك القصائد بصوته وبألحانه التى لم تُذَع حتى الآن.. لقد حوكم شمس عسكريا بعد نكسة 67 وصدر بحقه حكم وغادر البلاد ويقيم حاليا فى لندن منذ أكثر من 40 عامًا.. وتفاصيل القضية والحكم ثم الهجرة خارج الحدود هى موضوع شائك آخر، كل هذه التفاصيل أيضًا ينبغى أن نقفز فوقها لنصل إلى شمس بدران.. هو إنسان مصرى عربى الانتماء ويحتفظ بهذا التراث النادر لموسيقار الأجيال وأنه طوال هذه السنوات لم يتعاقد على صفقات تجارية يبيع بمقتضاها هذه الألحان التى لا تقدَّر بثمن وهذا التراث وتداوُله هو حق مشروع لكل إنسان عربى وليس مصريا فقط ولهذا فإن على الأجهزة الرسمية التدخل لاستعادة هذه الكنوز.. وإذا كانت لدى شمس حقوق مادية أو أدبية لتسجيله واحتفاظه كل هذه السنوات بتلك الألحان فلا بأس من الاتفاق عليها وإن كنت أعتقد أن من يحتفظ بهذه الألحان طوال هذه السنوات ولا يفكر فى بيعها لأى محطة فضائية وليست لديه مطالب مادية وإلا كان فعلها بعد رحيل عبد الوهاب مباشرة، كان شمس بدران قد صور جانبًا من حياته مؤخرًا وأكد فيها صحة هذه الوقائع!!
هذه الأغنيات لا تقلّ أهمية عن القطع الأثرية الفرعونية المصرية التى تسعى كل أجهزة الدولة لاستعادتها، إنه واجب وطنى تجاه هذا الجيل والأجيال القادمة ولا أدرى لماذا لم يستشعر أحد أننا نفرّط فى جزء من تاريخنا.
السيدة نهلة القدسى أرملة محمد عبد الوهاب قالت فى أكثر من حوار صحفى إنها أحرقت الرسائل الغرامية المتبادَلة بينهما بحجة أنه لا يجوز أن تطّلع الأجيال القادمة على مثل هذه الخطابات، غمرتها فى البداية بماء الكولونيا ثم أضرمت فيها النيران وكأن إحراقها بماء العطر أقل وطأة ووحشية من إحراقها بالبنزين.. إن كل متعلقات كبار الفنانين ينبغى الاحتفاظ بها وخطابات عبد الوهاب مثل ألحانه هى جزء عزيز علينا كان من الممكن أن يكشف عن جوانب عديدة فى شخصية عبد الوهاب بما فيها الموسيقار المبدع لو أنه تم تحليل علمى لهذه الخطابات إلا أننا فى كل الأحوال لن نبكى على اللبن المسكوب ولا على الخطابات المحروقة.. ولكن الألحان والأغنيات التى يحتفظ بها شمس بدران هى التى تستحق من الأجهزة الرسمية فى مصر بل وكل الدول العربية السعى لاسترجاعها. البعض يقول إن عبد الوهاب قد أبدع هذه الألحان وهو واقع تحت سطوة شمس بدران فهى ألحان قدمها ويده ترتعش على الأوتار فهى متواضعة فنيا ونسى هؤلاء أن رائعة «أنت عمرى» التى لحنها عبد الوهاب لأم كلثوم قدمها بناء على أوامر مباشرة من الرئيس جمال عبد الناصر. وعبد الوهاب طوال تاريخه كان حريصًا على أن يقترب من السلطة ولهذا أطلقوا عليه مطرب الملوك والأمراء وغنّى للملك وعندما قامت الثورة غنّى لجمال عبد الناصر. ولهذا أعتقد أنه ليس فقط شمس بدران هو الذى سعى لمحمد عبد الوهاب ولكن عبد الوهاب بمجرد أن استمع إلى طَرقات شمس سارع بفتح الباب وهو سعيد بالاقتراب من السلطة.
أتمنى أن نسعى لاستعادة تراثنا الغنائى الضائع قبل أن نكتشف أن إسرائيل قد سبقتنا بوسيلة أو بأخرى واستحوذت على هذه الأغنيات ونحن آخِر من يعلم وآخِر من يسمع وآخر أيضًا من يشعر بفداحة هذه الخسارة، أقول قولى هذا ونحن نستعد بعد يومين للاحتفال بعيد ميلاد عبد الوهاب ال112 فهل نقدم له هذه الهدية؟