لا أستطيع أن أفهم لماذا يفشل عقلى المرة بعد الأخرى فى الربط ما بين مكافحة الإرهاب والتعديلات التشريعية التى يراد من ورائها مكافحة الإرهاب! هل سيمنع القانون رصاصات الغدر من الخروج من فوهات بنادقها؟ هل سيمنع قنبلة من الانفجار؟ لا أظن أن قانونا لمكافحة الإرهاب سوف ينجح فى مكافحة الإرهاب، والدليل بكل بساطة أنه وحتى الآن لم تكشف أية جهة أمنية مَن اغتال النائب العام. وإذا افترضنا جدلا أن هناك ثغرات فى الكفاءة الأمنية فماذا سيفعل لنا القانون؟ لا داعى إذن لدرجات التقاضى، ولا داعى لأى ضمانات جنائية، وهيا بنا نعطل الدستور ونغتال الحريات ونفتح أبواب السجون فى اتجاه الدخول فقط. المشكلة أن هذه القوانين تنقل عدة رسائل إلى العالم، كلها تمس مصر بالسوء، الرسالة الأولى هى التعريض بسمعة مصر الدولية فى العالم دون مبرر، وخصوصا أن كثيرا من الجهد ما زلنا نحتاج إلى بذله لنرفع عن مصر وصف الدولة القمعية التى لا تحترم لا إنسانية ولا حقوق مواطنيها ولا تحترم حتى دستورها ذاته الذى سطرته بيدها! الرسالة الثانية هى أن الحكومة ضعيفة مضطرة، وأن مصر وهى أول دولة فى التاريخ تتجرد اليوم واحدة واحدة وبالتدريج من وصفها كدولة من الأساس، فهى تهدم مؤسساتها وأنظمتها بيدها لتحول نفسها إلى طرف فى معركة تريد هى الأخرى أن تريق فيها الدماء بسرعة وتنفذ أحكام الإعدام فورا وترى فى القوانين والضمانات عائقا يحول بينها وبين ما تريد. وللمرة الثانية فأنا أخشى على القضاء، على مظهره المحايد وهو أثمن وأعز ما يملك، أرى إرهاصات استدراج للقضاء لمعركة هو ليس طرفا فيها ولا يجب أن يكون، لا هذه المعركة ولا أية معركة، وإذ لا يصح أن يكون خصما وحكما فى ذات الوقت مهما تعرض رجاله لاعتداءات أو حتى اغتيالات. ما زلت أذكر أيام إصدار قانون التظاهر الجائر بعقوباته القاسية وكيف تعالت الأصوات وقتها أن البلد يواجه الإرهاب ولذلك فالقانون مبرر، قلت ساعتها إن قانونا لن يمنع إرهابا، وإنما الكفاءة الأمنية والمعلوماتية فقط هى القادرة على منعه، واليوم أقول الكلام عينه لأنى أرى رد الفعل عينه، قوانين جديدة! ماكانش حد غلب، ولكان أصبح الموضوع فى غاية السهولة! إن جانبا كبيرا من معركتنا هو أن ننجح فى رفع كفاءة أجهزة الأمن من ناحية، دون أن نخسر فى ذات الوقت إنسانيتنا وتقديسنا لقيمة الإنسان وحياته وحريته وكرامته من ناحية أخرى، ودون أن نهدر الضمانات القانونية. هذا هو جوهر المعركة الحقيقية وضمانة النصر الأولى فيها. لقد عاشت مصر فى ظل قوانين الطوارئ بصلاحيات الوجود كله لثلاثين عاما متصلة، ولم تسقط الخسارة على رأس هذا الشعب فحسب، بل سقطت وبشكل أعنف على رأس وزارة الداخلية ذاتها بعد أن نسى رجالها مع الزمن الطويل حرفيات التحقيق والعمل الشرطى واستبدلوا بالاستدلال الاستسهالَ، وفى النهاية انهارت الدولة نفسها فى يناير بعد أن وجد المصريون أنفسهم فى وضع لا يطاق ولا يمكن الحياة فى ظله إلى الأبد. لقد اكتوت إسبانيا بنار منظمة إيتا الإرهابية المنادية بانفصال إقليم الباسك، واكتوت ألمانيا بنار منظمة بادر ماينهوف الإرهابية، واكتوت بريطانيا بنار الجيش الجمهورى الأيرلندى المنادى بانفصال أيرلندا، واكتوت إيطاليا بنار منظمة الألوية الحمراء التى وصل إجرامها فى السبعينيات إلى حد اختطاف رئيس وزرائها ألدو مورو ثم قتله، وبنار مافيا المخدرات التى اغتالت من القضاة هناك أعدادا كبيرة، ولكن كل هذه الدول انتصرت فى التحدى وحفظت كيانها ومؤسساتها، وكان جزء كبير من انتصارها مرده وأساسه تمسكها الأصيل بالقيم الإنسانية واحترام البشر حقوقهم وحرياتهم، فخسر كل هؤلاء الإرهابيون معركتهم أخلاقيا قبل أن يخسروها على الأرض بعد أن وجدوا أنفسهم كالجُزر المنعزلة الخارجة على القيم الإنسانية السائدة فزالت كل هذه الكيانات جميعا وسقطت كأوراق الخريف وأصبح مكانها المتحف، ليس بكفاءة المواجهة الأمنية وحدها ولكن بالفشل الأخلاقى لتلك المنظمات أيضا. ولكننا لا نفعل ذلك، بل نفعل عكسه تماما، من هدر للضمانات وتقييد الحريات والتخويف ومزيد من القوانين التى هى فى حقيقتها لا تحارب الإرهاب، بل تحارب الحريات، فماذا يتبقى لمصر من شكل الدولة؟ أين هو مجلس الشعب؟ كيف تعيش دولة كل هذا الوقت بغير سلطة تشريعية ثم نصفها بأنها دولة وإحدى سلطاتها الثلاث غائبة كل هذا الوقت؟ لا أريد أن يأتى يوم يجد المواطن الصالح نفسه محشورا مهددا خائفا من الإرهابيين ومن الدولة كليهما معا. أسباب كثيرة دفعت اسكتلندا التاريخية لأن ترفض الاستقلال عن التاج البريطانى فى استفتاء كبير أنقذ بريطانيا من التقسيم، وفى المقابل أدعو الله مخلصا ألا يأتى يوم أغبر أجد فيه مصريا يطالب باستقلال المنوفية!