على الرغم من تباين المصالح للدول الست التى أجرت المفاوضات مع إيران حول ملف الأخيرة النووى، إضافة إلى إيران نفسها، رحبت جميع الأطراف بالاتفاق شبه النهائى الذى يجب البدء بتنفيذه خلال 90 يوما بعد صدور قرار أممى من مجلس الأمن الدولى يدعمه. علمًا بأن سريان بعض البنود سيستغرق 15 عاما، بينما ستبقى بنود أخرى سارية المفعول لمدة 25 عاما. فى صياغات سياسية مرنة، طرح الرئيس الإيرانى عددا من البنود التى يرى أنها الأهم من وجهة نظره لإقناع الناخب الإيرانى بأن طهران قد ربحت كثيرا من هذا الاتفاق، وبالتالى، فسوف تعود العلاقات مع الولاياتالمتحدة (الشيطان الأكبر) والدول الأوروبية (المعادية). بينما أكدت فرنسا موقفها المتشدد خلال تلك المفاوضات، تحسبا لتغييرات ما فى المستقبل. وطالبت إيران بالتدخل لتسوية الأزمة السورية. ومن الواضح أن فرنسا تريد تسوية معينة للأزمة السورية غير تلك التى تريدها إيران من جهة، وغير تلك التى يريدها النظام السورى فى دمشق من جهة أخرى. علما بأن الرئيس السورى بشار الأسد أعلن عن ترحيبه بالتوصل إلى اتفاق نهائى للأزمة النووية الإيرانية. الصين كالعادة تلتزم المواقف «الوسطية» للحفاظ على أكبر قدر من مصالحها من جهة، ومن أجل امتلاك علاقات مرنة مع جميع الأطراف المتناقضة من جهة أخرى، وعدم التضحية بالحليف الروسى الذى يضحّى بكثير من أجل الحصول على الدعم الصينى، وإن كان هذا الدعم يأتى دومًا فى حده الأدنى. ووفقا للمصادر القريبة من المفاوضات، فقد كان المشارك الصينى يتوخَّى دومًا طرح حلول وسط، وفترات زمنية وسطية بين السرعة التى تريدها إيران والتمهل الذى يريده الغرب. وهذا الموقف تحديدا يخدم المعادلة الروسية التى صاغها الدكتور مصطفى اللباد فى إحدى مقالاته، مشيرا إلى أن مصلحة روسيا الاستراتيجية تكمن بين حدّين متناقضين: - الحد الأول يتمثل فى الحيلولة دون تدهور التوتر بين واشنطنوطهران إلى درجة المواجهة العسكرية، لأن إيران هى حليف روسيا الأساسى فى الخليج والمشرق العربى. - الحيلولة دون تحسن العلاقات «الإيرانية- الأمريكية» إلى حد التحالف الاستراتيجى بين واشنطنوطهران، كما كان الحال فى عصر الشاه المخلوع، فتخسر روسيا مصالحها فى إيران لمصلحة واشنطن. والمعروف، حسب رؤية مصطفى اللباد، أن قيام تحالف «أمريكى - إيرانى» سيغلق طريق روسيا إلى المياه الدافئة عبر الخليج. وبين هذين الحدين الأقصيين تفضّل روسيا استمرار التوتر «الإيرانى -الأمريكى»، لكن من دون الوصول إلى أى من هذين الحدين. لقد تم التوصل إلى ما يشبه اتفاق نهائى، قد يتعرض بعض بنوده لاحقا لفهم مختلف وتفسيرات مختلفة، يتضمن النقاط التالية: - رفع العقوبات المفروضة من قبل أوروبا والولاياتالمتحدة عن إيران. - فرض قيود على البرنامج النووى الإيرانى طويلة المدى مع استمرار تخصيب اليورانيوم بنسبة حُددت ب3.67٪. - خفض عدد أجهزة الطرد المركزى بمقدار الثلثين إلى 5060 جهاز طرد. - التخلص من 98% من اليورانيوم الإيرانى المخصب. - عدم تصدير الوقود الذرى خلال السنوات المقبلة، وعدم بناء مفاعلات تعمل بالمياه الثقيلة، وعدم نقل المعدات من منشأة نووية إلى أخرى لمدة 15 عاما. - السماح بدخول مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية لكل المواقع المشتبه بها، ومنها المواقع العسكرية لكن بعد التشاور مع طهران. - الإبقاء على حظر استيراد الأسلحة 5 سنوات إضافية، و8 سنوات للصواريخ الباليستية. - الإفراج عن أرصدة إيران المجمَّدة والمقدَّرة بمليارات الدولارات. - رفع الحظر عن الطيران الإيرانى وأيضا عن البنك المركزى والشركات النفطية وعديد من المؤسسات والشخصيات. - إلغاء الحظر على المواد مزدوجة الاستخدام، وتأمين احتياجات إيران فى هذا المجال عبر لجنة مشتركة بين إيران ومجموعة «5+1» لتسهيل ذلك. - التعاون فى مجالات الطاقة والتكنولوجيا. وفى نفس الوقت تقريبا وقَّعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإيران، قبيل إبرام الاتفاقية الشاملة، على «خطة طريق» تخص قضايا فنية، إضافة إلى الجانب العسكرى المحتمَل فى الأنشطة النووية الإيرانية فى السابق أهم نقاطها: - الإبقاء على القيود المفروضة على الأبحاث الإيرانية فى المجال النووى لمدة 8 سنوات. - امتناع إيران عن إجراء بحوث علمية بشأن معالجة الوقود النووى لمدة 15 عاما. - لا تدخل مركبات الوقود الروسية المخصصة لمحطات الطاقة النووية الإيرانية فى الكمية المحددة لطهران حسب الصفقة مع السداسية. - يجب أن لا يزيد احتياطى اليورانيوم منخفض التخصيب فى إيران خلال 15 سنة على 300 كيلوجرام. - تلتزم إيران حتى 15 أكتوبر بتوضيح القضايا ذات التوجه العسكرى المحتمل فى الحوار مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وليس من الصعب استشراف النقاط الأساسية لمثل هذا التقرير، الذى سيتم تقديمه فى كل الأحوال وسيكون على درجة عالية من السرية. فمحور الأمر هنا، هو روسيا، وبذل كل الجهود لحصارها، أو فى أضعف الأحوال، تحييد بعض حلفائها، وإغراء «صقور الكونجرس» بمواصلة عزل روسيا، وتوسُّع «الناتو» شرقًا نحو حدودها، ونشر الدرع الصاروخية فى أوروبا. أما ردود الفعل الروسية، فقد جاءت فضفاضة ومرنة وتحتمل كثيرا من التأويلات، إذ رحب الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بالاتفاق النووى الذى توصلت إليه «السداسية» وإيران فى فيينا، مؤكدا أن بلاده ستبذل كل ما فى وسعها لتفعيل طاقات هذا الاتفاق، وذلك حسب بيان «الكرملين».. ولكن هذا البيان تحدث أيضا عن مصطلحات مثل «خطة الأعمال الشاملة التى وافقت عليها (السداسية) وإيران»، وهو ما يعنى من وجهة النظر الروسية، أن الاتفاق غير مكتمل، ولكن هناك خطة عمل «شاملة» على شكل «حزمة» سيتم التعامل معها زمنيًّا. الاتفاق النووى بين «السداسية» وإيران، يشير إلى الدور الروسى فى مشروعين تراهما موسكو مهمين بالنسبة إليها على الرغم من الخلافات التى قد تنشأ حولهما، وهى خلافات قديمة منذ عام 2006 بين روسياوإيران ولم يتم الاتفاق حولها إلى الآن. الأول، يتعلق بنقل اليورانيوم منخفض التخصيب من إيران إلى الأراضى الروسية، مقابل توريدات اليورانيوم الطبيعى. والثانى، يتعلق بإعادة تأهيل منشأة تخصيب اليورانيوم فى «فوردو» وتحويلها إلى منشأة لإنتاج النظائر المستقرة للأغراض الطبية والصناعية. لقد نجحت روسيا فى تنفيذ معادلتها المذكورة أعلاه، وإن كانت قد خسرت فى الاحتفاظ بإيران كحليف لفترة طويلة. وتبقى فقط القضايا الخلافية الحادة العالقة بين موسكووطهران، سواء بشأن تقسيم قاع بحر قزوين، أو بخصوص القضية المرفوعة من إيران ضد روسيا بشأن مخالفتها شروط توريد منظومات (إس- 300) التى لم تتم إلى الآن على الرغم من أنها لم تكن ضمن عقوبات مجلس الأمن الدولى. من الواضح أن موسكووواشنطن تفضلان استخدام «اللاعب الإيرانى المرن الجديد» فى أجندة مكافحة الإرهاب، ولكن كلٌّ حسب سيناريوهاته ونظرته إلى تقسيم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج. ومن الواضح أيضا أنه لا موسكو ولا واشنطن تهمهما إمكانية اندلاع حرب مذهبية بامتياز ووضوح فى حال تدخل «اللاعب الإيرانى» فى تفاصيل المنطقة، كما يدعو كلٌّ من الطرفين الروسى والأمريكى، فالملف السورى سيبقى مشتعلا لفترة طويلة، لأن روسيا مع إحساسها بعدم تحقيق طموحاتها، خصوصا فى الاتفاق النووى الإيرانى، ستصبح أكثر تشددا فى الملف السورى. والاستثناء الوحيد هو أن يمنحها الغرب مساحة محددة لكى تبدأ بالضغط على النظام السورى فى دمشق فى اتجاه السيناريوهات الغربية، أو التخلى عنه فى نهاية المطاف. هناك أيضا الملف الأوكرانى الذى يجرى التحضير له بقوة من جانب الغرب وروسيا. وسيكون موقف الأخيرة أكثر تشددا فيه لنفس سبب تشددها فى الملف السورى، خصوصا بعد أن فشل مشروع «خط أنابيب الغاز التركى»، والرفض الواضح من الدول المطلة على البحر الأسود التعاون مع روسيا فى مجال نقل الغاز، وكذلك بعد نجاح الاتحاد الأوروبى فى الإبقاء على اليونان داخل صفوفه.