المصدر الأول لشرعية الحكم هو احترام إرادة وسيادة الشعب والاستجابة لمطالبه، ولكن السلطة المَفسدة والمُفسدة تُنسِى كل شىء! ولا حل ولا تهدئة لغضب أبناء بورسعيد الذى أنذرتُ وحذرتُ منه فى مقال الأسبوع الماضى إلا بالاستجابة الفورية لمطالبهم المشروعة والعادلة وإدراك أن المماطلة والتسويف والاستجابة القطاعى ستضاعف الغضب والمرارة وترفع سقف المطالب، وكلها تفجرت بعد سنوات طويلة من الصبر والاحتمال.. العصيان المدنى لأبناء بورسعيد ليس إلا إعلانًا متأخرًا عن حجم الظلم والانهيار والإهمال واللا مبالاة والإفقار والإهدار للثروات التى تنتجها المدينة، سواء فى البشر أو فى الموقع والإمكانات، وسواء مع النظام القديم أو بعد الثورة، وكان أبناء بورسعيد ومدن القناة عموما من أوائل من أطلقوا شرارتها، ولاستكمال المذابح وحلقات الدم التى دُبرت للقضاء على الثورة والثوار فى ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء استُغل ما عُرف عن البورسعيدية من دماء ساخنة وسرعة الغضب للكرامة لإدارة المذبحة القذرة التى دُبرت ومُوِّلت ونُفذت فى فبراير 2012 فى استادهم الرياضى، وأُسقِطَ فيها 74 شهيدًا من أبناء النادى الأهلى، وبدلا من القصاص من الرؤوس الكبيرة وحدَّدَتها بالأسماء تقارير تقصى الحقائق الأولية أرادوا تعليق الجريمة والمذبحة فى رقبة المدينة وأبنائها، واختير يوم إصدار الأحكام المبدئية فى يناير 2013 لإدارة مذبحة جديدة أو تُركت المدينة بلا تأمين أو إجراءات أمنية توفر الحماية لأبنائها ليسقط منهم 43 شهيدا وأكثر من 1000 مصاب، وتحولت المدينة إلى مدينة من المدن التى كنا نشاهدها من زمن فى أفلام الرعب والغرب الأمريكى لمدن الصحراء التى تحكمها عصابات غريبة تطلق الرصاص فى كل مكان فى غيبة دولة أو نظام.. ولولا تدخل قوات من الجيش الثانى لتضاعفت أعداد الشهداء والمصابين. لن ينسى أبناء بورسعيد أيام الرعب التى عاشوها وعصابات مسلحة غريبة تطلق الرصاص فى جميع أنحاء المدينة.. من فوق أسطح العمارات ومن فوق سيارات ودرجات نارية تستخدم أسلحة آلية ومدفع جرينوف.. تزايدت مشاعر الاغتراب وغياب المسؤولية والمسؤولين والإصرار على الظلم واللا مبالاة والإهمال والسكوت على التطاول والبذاءات والسفالات التى طالت وسخرت من التاريخ النضالى والبطولى للمدينة.. بدا المشهد والموقف السياسى كأنه مع سبق الإصرار هناك إهمال لحقوق المدينة ولمطالب أبنائها وتحدٍّ واستعلاء على كرامتهم وصلابتهم التى هزمت القوات البرية والبحرية والجوية لثلاثة جيوش، وبدا الصمت والاستهانة بما تتعرض له المدينة كأنه مقصود ومستهدَف وجزء من مخطط يجهَّز للقناة ومدنها ويقتضى كسر إرادة واستسلام أبنائها! بدا المشهد السياسى كأنه لا أحد فى رئاسة أو وزارة يرى أو يسمع أو يهتم بما يحدث فى المدينة فيبادر ويسارع إلى تخفيف أسباب الغضب والتئام جراح أهالى شهدائهم ومصابيهم بالاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها واحتساب شهدائهم من شهداء الثورة والمطالبة بسرعة كشف الحقائق بتشكيل لجان التحقيق القضائية المستقلة، التى كانت المطلب الأول للمدينة فى 28 يناير 2013، والتى لم يتم الاستجابة الفورية لها، كأن هناك إصرارًا على الإهمال والانتهاك والظلم والإدانة. وتوالت تصريحات تعمِّق وتؤكد الغضب، وصدرت على أعلى مستوى فى الدولة، مثل التصريحات التى أصابت العالم بالدهشة وأجهزت على ما تبقى من السياحة وأدلى بها رئيس الجمهورية فى برلين عما حدث فى مذبحة بورسعيد الثانية يناير 2013 ومحاولات إسقاط الطائرات العسكرية التى حلقت فى سماء المدينة لتصوير الأحداث بإطلاق الرصاص عليها.. مَن هؤلاء؟ ومَن فى مصر يملك أسلحة يهدد بها طائرات جيش مصر؟ هل هم أبناء بورسعيد الذين يجمعهم بجيشهم تاريخ وطنى طويل التحموا فيه فى مقاومة قوات الاحتلال؟! ومَن الغرباء الذين تدفقوا على بورسعيد قبل أيام من التاريخ المعلن والمعروف لصدور الأحكام المبدئية للقضاء فى مذبحة الاستاد؟ هؤلاء الغرباء الذين أشار إليهم أبناء بورسعيد وبالتحديد للهجتهم الغريبة عن اللهجة المصرية! لماذا لم تُصدِر الرئاسة أو أى مسؤول فى مصر ردا على ما نشرته صحف عربية ومحلية يمسّ أمن وسيادة مصر، تصريحات تعلن إذا صدقت تأكيد ما ينتشر فى مصر الآن عن وجود قوى خارجية تخترق الأمن والسيادة المصرية وكرامة الجيش المصرى وتتولى حماية النظام؟! ووسط تصريحات خطيرة للدكتور سمير غطاس مدير مركز الشرق الأوسط فى معرض إشارته إلى دورٍ لحماس فى سيناء وتهريب السلاح والتدريب هناك، وأنه بعد ثورة 25 يناير لعبت حماس دورا كبيرا فى مهاجمة وفتح السجون وإطلاق الرئيس مرسى وبعض القيادات، وهناك صور وفيديوهات تؤكد ذلك، وأضاف فى تصريحاته أن هناك وثائق تشير إلى استعدادات كبيرة داخل حماس لمساندة النظام فى مصر، وهناك من تسللوا بخاصة إلى مدن القناة التى وقع بها إصابات عن طريق إطلاق الرصاص مباشرة على المواطنين فى بورسعيد وقتل 40 مواطنا، مما يؤكد استخدامًا مكثفًا للأسلحة من عناصر محترفة فى الوقت الذى نفى فيه الجيش والشرطة إطلاق النار. انتهت السطور المقتطَعة من تصريحات د.سمير غطاس ونشرَتها «الدستور» فى 6/2/2013، وتحمل اتهامات مباشرة وصريحة بانتهاك الأمن القومى المصرى تقتضى تحقيقات عاجلة والمطالبة بالكشف عن الوثائق والأشرطة لتكذيب أى تواطؤ أو مخططات وتأكيد احترام سيادة واستقلال مصر وكرامة وإرداة ثورتها وشعبها وجيشها.. التزام الصمت على مثل هذه الاتهامات الخطيرة هل يعنى إلا الخوف من تكذيبها حتى لا تنكشف وقائع يراد إخفاؤها؟! أذكِّر بالتصريح الذى لا يقل خطورة لقائد الجيش الثانى الذى فردت قواته مظلة الأمان على المدينة بعد أن تخلى النظام وسمح بوقوع المأساة وسقوط الشهداء والمصابين والشهيد الثالث بعد الأربعين نُقل جثمانه من مستشفى القوات المسلحة بالمعادى إلى بورسعيد الأسبوع الماضى، وما زال هناك أكثر من ألف مصاب. فى تصريحه أكد اللواء أحمد وصفى أنه خلال ثلاثة أيام سيكون الوضع تحت السيطرة فى بورسعيد وأنه تم رصد عناصر إجرامية تستقل سيارة جيب وأخرى «بى إم دبليو» وتروسكل يقومون بتوزيع أسلحة على بعض الخارجين على القانون والقادمين من بحيرة المنزلة، وأكد القائد الكبير أنهم ليسوا من أبناء بورسعيد، وأن الأيام والسنوات القادمة ستُظهِر حقائق جديدة كما ستوضح أشياء ستبهر الجميع. يشير قائد الجيش الثانى فى تصريحه الذى نشرته صحيفة «التحرير» 30/1 إلى أن الأوضاع فى بورسعيد ستكون تحت السيطرة خلال ثلاثة أيام، من المؤكد أنه كان يتوقع من السلطة أن تصحح أخطاءها ومواقفها وتبادر إلى الاستجابة لمطالب أبناء بورسعيد وتسارع إلى لجان التحقيق المستقلة التى تكشف مَن وما وراء المجزرة التى أسقطت منهم هذه الأعداد من الشهداء والمصابين.. لا شىء من كل هذا حدث، لا شىء إلا مزيد من الاستهانة واللا مبالاة والإهمال وحظر التجوال والطوارئ، فكان رد المدينة بإسقاط الحظر وإعلان العصيان، وتحت ضغوط انفجار الغضب والعصيان أعلنوا أخيرا فقط عن تشكيل لجنة قضائية للتحقيق، ولم يستكملوا الإعلان باعتراف واعتذار رئاسى عن خطاياهم التى أسقطت 43 شهيدا وأكثر من ألف مصاب، وأول هذه الخطايا إهمال تأمين المدينة، أيضا لم يستكملوا تشكيل لجنة التحقيق القضائية عن إعلان ضم شهداء ومصابى بورسعيد إلى شهداء ومصابى الثورة. احذروا المزيد من الغضب بعد أن نفدت جميع أرصدة الصبر.. ومارس يقترب حيث الأحكام النهائية فى مذبحة الاستاد.. بورسعيد تريد القصاص العادل دون تفرقة بين الدماء والحقوق العادلة لجميع أبناء المصريين، وفى مذبحة فبراير 2013 أرجو أن لا يتصور أو يتوهم أحد أنه بالإمكان أن ينسب قتل 43 من أبنائهم وإصابة أكثر من 1000 إلى عناصر مجهولة كما حاول كثير من التصريحات الرسمية، أو أن على بورسعيد أن تنتظر سنوات حتى تنجلى الحقائق، كما توقع اللواء أحمد وصفى، أثق أن بورسعيد لن تسمح ولن تهادن فى حقوق أبنائها وفى الإصرار على القصاص لدماء شهدائها وكشف أبعاد وأسماء المتورطين والمسؤولين سواء فى مذبحة فبراير 2012 أو يناير 2013. محاولات إرضاء وامتصاص غضب البورسعيدية بالتلويح بمكاسب مادية تؤكّد عدم فهم طبيعتهم والدواعى الحقيقية لقضية أبناء بورسعيد، فرغم سوء الأحوال الاقتصادية وما يعيش تحته أبناؤها من إفقار وظروف بالغة الصعوبة وبطالة.. لا حلول تسبق مطالبهم للقصاص لدماء شهدائهم.. ولا قبول لمساومات فى حق الدم ولا على كرامة وحقوق المدينة التى تبدأ باستجابة جميع المسؤولين، ابتداءً من رئيس الجمهورية ووزير الداخلية، بالمثول أمام قاضى التحقيق بشأن البلاغات المقدمة ضدهم، لإثبات أنه لا أحد فوق القانون وفوق المساءلة وفوق حق الشعب فى المحاسبة.. وفوق مطالب أولياء الدم. القصاص هو المطلب الأول والوحيد الآن لأبناء بورسعيد ثم تأتى بعده تلبية جميع الحقوق المادية والأدبية والاجتماعية، على أن تقدَّم للمدينة دفعة واحدة وأن تتوقف محاولات الالتفاف وتفريغ شحنات الغضب بالتلويح بإغراءات اقتصادية، وإلا فسيمتد العصيان، درس بورسعيد الأول، إلى جميع محافظات مصر إذا لم تدرك السلطة أن المصريين بعد ثورتهم لن يقبلوا بهزائم وكسر لإرادتهم أو تمكين وانفراد أى جماعة بالسيطرة عليهم أو تنفيذ مخططات ترويع وتعذيب شبابهم من الجنسين وإعادتهم إلى السجون أو فتح معتقلات جديدة لتعذيبهم وقتلهم بقوة قوانين استبدادية جديدة ترفع شعارات الدفاع عن الحريات أو القبول بانتخابات برلمانية لا تتوفر لها شروط وضمانات الشفافية ورقابة دولية وحكومة مستقلة تقوم بإدارتها. واهمون إذا صدقتم أنفسكم.. وتعدكم بورسعيد أن تقود نصرا جديدا وموجة جديدة للثورة تجدد انتصارات 1956.