ماذا أكتب؟ والوطن لم يأخذ كفايته، من العدل، والأرغفة، وحق الشهداء. ماذا أكتب؟ فى عصر الكوبونات، وفتاوى هدم التماثيل، ونكاح النساء الأموات. ماذا أكتب؟ وأنا لم آخذ كفايتى، من النوم، ومن الحلم، ومن القهوة. ماذا أكتب؟ وأنا فى اشتياق لا يرتوى إلى البحر. علمنى البحر، أبجدية المطر، وكيف أكتب بِلُغة الماء. علمنى كيف أسبح، وأغنى، وأرقص، مع الكلمات، وكيف أقفز فوق الأمواج، لألتقط الإلهام. هذا العام محرومة أنا من البحر. اختفى، وسط تصحُّر القلوب، والعواطف الرملية. تعبت من الكتابة، بعيدا عن حكمة المد والجزر. تعبت من الكتابة، فى وطن لا يزال يتحسس طريقا إلى البديهيات. تعبت من اختطاف الأمنيات الثائرة، من السطو المسلح على الأحلام، وقطع الطريق على لحظة هدوء، منزوعة الميكرفونات. تعبت من أخطبوط السياسة، الملتف حول عنقى. أينما ألتفت، فى كل اتجاه، لا شىء إلا الصراعات السياسية، والأكاذيب السياسية، والتحالفات السياسية. كلام السياسة، يختلط بالهواء، فأختنق. لا أريد أن أسمع شيئا، عن السياسة. لا أريد أن أقرأ شيئا عن السياسة. لا أريد أن أرى وجها من وجوه السياسة. أريد أن أسمع صوت أسمهان، فى سكون الليل. أريد أن أقرأ القصائد المحرمة، والأفكار الممنوعة. وفى المساء، أرى وجه الشمس، المتأهب للرحيل، على صفحة النيل. أعيش فى وطن، فيه تتعرى الحدود، وتتغطى النساء. محاصرة برائحة القمامة، ورائحة الدم. وطن متخم بالأوهام، والميول العنصرية. ماذا أكتب، بعد سقوط الأقنعة؟ ماذا أكتب، وأنا أتخيل الوطن، غارقا فى دروب الظلام. ليس لانقطاع الكهرباء، ولكن لانقطاع الحريات؟ أعتقد أننى أكتب، لأنها وسيلتى للمقاومة. البعض ينظم المظاهرات. وأنا أنظم الكلمات. أكتب، لأننى لم أجد طريقة أخرى، أجمل للموت. أحافظ على لياقتى الأدبية، لأنها تمتعنى، فى زمن يحرِّم المتع النبيلة، ويسمح بالمتع الرخيصة. أكتب، حتى لا أنسى، كيف يشدو الكروان، وهو فى ذروة البكاء. وحتى أظل على صداقتى الحميمة، بالأشجار، وبالنصف المعتم للقمر. أواصل الكتابة، لأن احتياجى إلى أحزان الشعر، لا يرتوى. أعرف أن المرأة الكاتبة، تمشى على أرض وعرة. هى ليست، من النساء المفهومات، أو المرغوبات. أكتب لأتوج القلم، مصيرا للمرأة، وليس أحمر الشفاة، والكعب العالى. رغم إدراكى العلاقة الوثيقة بين الكتابة، والانتحار.. الكتابة، والجنون، إلا أننى لا أتوقف عن الكتابة. أكتب، لأن اغترابى، وآلامى،، أكبر من أن تعاش فقط. لا بد أن يسجلها أحد. وفى هذا العالم، لا يسجلون، إلا القتال على كرسى الحكم، وتواريخ الحروب، وأسماء عاشقات الحكام. أين أذهب أنا، وسط هذا الحشد؟ وأنا أكره القتال، وأكره الحروب، وأكره الحكام. أكتب، حتى لا أدفن مرتان. مرة فى التراب، ومرة فى طرقات التاريخ المزور. أتشبث بالكتابة، حتى أظل قادرة، على التحليق، بعد أن تكسرت أجنحتى. وكيف لا أكتب، والكلمات هى الوحيدة فى هذا العالم، التى تحبنى، وتسأل عنى، وتهتم بحالى؟ قال الشاعر الروسى يوفتتشينكو: «أقول كلمتى وأمضى». وأنا أقول: «أقول كلمتى ولا أمضى». الكلمة، هى سر بقائى. هى السر، الملقى على المشاع، مثل الورود فى الحدائق. سر من شدة بساطته، معقد، وغامض، ومحير. الكلمة، سر بقاء الآلهة. لم نسمع عن إله، ليس له كتاب. أتساءل، ماذا تجدى الكلمات، فى حضارة الدم؟ هل تنفع الأشعار، والأشياء فى انهيار؟ أتامل الوجوه من حولى. أرى الإحباط، وخيبة الأمل، وأسمع تنويعات على لحن اليأس. إن الكتابة، فى مثل هذا المناخ الحزين، تصبح انتحارا يوميا. وتشبه الدخول إلى أرض مفروشة بالألغام. لكنها تصبح أكثر ضرورة، لأن الكتابة فى جوهرها فعل ضد ثقافة الهزيمة. الكلمة الواعية، الثائرة، تطلق سراحنا من سجون اليأس. الأمل، قوة. والكلمة المناسبة، فى الوقت المناسب، تشحن طاقتنا بالأمل من جديد، تكسر الإحباط، وتفتح النوافذ، على نصف الكوب الممتلئ، دون خوف من الفشل، أو الجولات الخاسرة. «عايزين رئيس دكر».. هذا ما يردده البعض. لست أدرى ما هى العلاقة، بين النصف الأسفل، للإنسان، وتولى الحكم السياسى؟ ما هى العلاقة، بين هرمون «الدكورة»، والمهارات التى يتطلبها منصب رئيس الدولة؟ لست أدرى، ما هى العلاقة، بين نزول الطمث الشهرى، ورئاسة بلد؟ ما هى العلاقة، بين القدرة على الإنجاب، والقدرة على إدارة دولة؟ وهل توجد علاقة، بين نمو الشوارب، وقيادة وطن؟ «عايزين دكر»؟ ما هذا اللفظ المتدنى، إنسانيا، ولغويا، وثقافيا؟. «عايزين دكر».. ما هذه العقلية، التى تمجد «الدكورة»، وتهين الأنوثة؟ هل وصلنا إلى هذا المستوى الفكرى، ليصبح «الدكر هو الحل»، وليصبح الاختلاف البيولجى، أساسا، لتوزيع الأدوار الاجتماعية؟ نعم هناك «دكر بط»، وهناك «اللبان الدكر». وهناك «البخت الدكر»، ويقصد به «البخت النحس»! أخشى أن يكون الموت، أيضا بالكوبون. رغيف الحرية.. رغيف الكرامة.. رغيف العدالة.. فقط، بهذا المعنى، تكفى الثلاثة أرغفة. من واحة أشعارى قالوا لى : البقية فى حياتك قلت لا تسمعونى كلمات العزاء فالصمت أصدق وللميت كبرياء