إذن، فقد عملوها فعلا على أنفسهم ونفذوا عملية سطو مسلح يظنونها تمكِّنهم من اختلاس ونشل مصر مجتمعا ودولة، وأنهوا طبختهم الدستورية المشمومة المسمومة فى الليل وتحت جنح ظلام يشبه فى السواد لون قلوبهم وحال عقولهم. وبهذه المناسبة التعيسة، وحتى نتسلى -ولو بالهمّ والغمّ- ونفهم معا دلالة ارتكاب هذه الفعلة النكراء خلف ستر عتمة الليل البهيم، أستأذنكم أن أستدعى لحضراتكم من مخزن ذكريات العمر نَصّ حوار قديم دار بينى وبين صديقى النشال الغلبان الأستاذ «سعيد بُقُّو» الذى تشرفت بمعرفته ونسجنا معا علاقة ود ومحبة خالصة خلال شهور رائعة أمضيناها معا فى سجن مزرعة طرة قبل سنوات.. كان الأستاذ سعيد (هو متعدد المواهب وبارع فى كل فنون السرقة، ابتداء من اختلاس الطيور والمواشى، والعبث فى الجيوب، وحتى كسر المحلات والشقق وفك شفرات أعقد الخِزَن وأكثرها منعة وتطورا) يقضى عقوبة ارتكابه بضع حوادث سرقة و«نشل» بسيطة يعتبرها نوعًا من التكافل الاجتماعى القسرى بينه وبين ضحاياه ركاب المواصلات العامة الذين يشاركونه الفقر والغُلب أنفسهما، أما العبد لله فقد كان آنذاك متمتعا بضيافة نظام الأستاذ المخلوع أفندى وولده بتهمة ارتكاب حوادث «نشر» متكررة لآراء ومقالات ناقدة ومعارضة. المهم، فى عصر أحد أيام الحبس الطويلة كنت والصديق «سعيد بُقُّو» نجلس فى بُلَهْنِيَة حلوة نحتسى شايا ملهلبا فى «كوزين» من الصفيح الفاخر، وبينما سعيد منهمك فى سرد تفاصل مغامراته وحكاياته الشائقة الممتعة التى كنت أحرِّضه بإلحاح وأدفعه دفعا ليحكيها طمعا فى تبديد الملل وإضاعة وقت ثقيل لزج يسحق نفوس المساجين، فجأة قطعت تدفقه واستوقفته متسائلًا: ألاحظ يا سعيد من كل حكاياتك وغزواتك أن عمليات «نشل» الرزق (كان يسمى سرقاته الصغيرة «رزقًا») تتم كلها بالنهار! - أمال سيادتك عايزنى أنشل الناس بالليل والدنيا ضلمة وعندما تهجع المواصلات والأوتوبيسات فى جراجاتها؟! هكذا قال سعيد مستخفًّا، فقلت له: لا يا أستاذ، أنا لا أقصد عمليات النشل، فهذه طبعا لا بد أن تتم فى قلب ساعات النهار، ولكن سؤالى عن عمليات سرقة الشقق والمحلات، فأنت دائما تتحدث عن إتمامها بالنهار أيضا، مع أن الشائع أن هذا النوع من السرقات والهجمات يحدث فى الليل البهيم وتحت جنح الظلام.. على الأقل، هذا ما يقوله الزملاء فى صفحات الحوادث! اعترض «بُقُّو» بشدة وبدا غاضبا جدا مما اعتبره جهلًا من جنابى وانعدام لياقة تَجسَّد فى استخدامى تعبير «سرقة» لوصف عمليات «التكافل الاجتماعى» التى ينفذها مع زملائه، وكان على وشك أن يخاصمنى وينهض مبتعدا لولا أننى تداركتُ الأمر بسرعة واعتذرت إليه عن سوء الأدب غير المقصود.. ولأنه طيِّب فقد قَبل اعتذارى، وتَفهَّم حسن نيَّتى وجاوبنى على السؤال قائلا، وهو يبتسم: أستاذ فلان، ماذا لو كنتَ عائدا ذات ليلة إلى بيتك ووجدت أمام باب شقة جارك أشخاصا غرباء غلابة مثلى؟ ماذا بحق الله ستظنّ فيهم؟ هل ممكن أن تقول مثلا، إنهم ناس «دكاترة» زمايل الست مراة الباشمهندس جارك؟! أدركت قصد سعيد، لكنى لم أنطق، فجاوب هو بصوت هادئ ونبرات لا تخلو من حكمة وذكاء: طبعا حضرتك حتفهم إن المقاطيع اللى واقفين قدام الشقة بالليل حرامية.. مش كده؟! - فعلا يا سعيد، عندك حق. - عشان كده يا أستاذ، الحرامى المُحدَث الحمار هو فقط اللى بيشتغل بالليل، وبيتقفش بالليل برضه، لكن الأذكياء المحترفين بيسعوا لرزقهم فى الضوء والشمس فى كبد النهار! هكذا تَحدَّث «سعيد بُقُّو»...