فى مثل اليوم الذى تسلم فيه السيسى الرئاسة، وأقسم اليمين الدستورية، وقبل خمس سنوات من الآن، كان الحديث رائجًا عن خالد سعيد، قبلها بأيام قليلة كان الشاب السكندرى قد لفظ أنفاسه على يد رجال شرطة، وحاولت «الداخلية» فى ذلك الوقت حماية رجالها، بصنع سجل إجرامى لخالد، وتلفيق واقعة اختناقه، مستفيدةً من فساد فى «الطب الشرعى». لا تمثل واقعة مقتل خالد سعيد مجرد محطة غضب كبرت ككرة ثلج، وتدحرجت ودهست نظام مبارك، حاشدة خلفها كل عوامل الغضب منه، لكنها فى حد ذاتها نموذج لكثير من أمراض هذا العصر التى تمنينا أن لا تعود. خالد ليس حشاشا، خالد قتلته الشرطة.. لم يعد هذا كلامى أو كلام غيرى، هذا هو حكم القضاء. ومن قتل خالد نوع من العمل الشرطى، الذى اعتقد طويلا أنه فوق الحساب والمساءلة، وأن المواطنين ملك يمينه، يعبث بكرامتهم وأرواحهم وأعراضهم كما يشاء، ولم يكن مجرد خطأ فردى، فحتى إن كان القتل كواقعة مجردة يمكن اعتباره خطأ فرديا لمنفذى الجريمة، فأداء المؤسسة الأمنية عقب انكشاف الجريمة أثبت أن الخطأ الفردى يجد تبريرًا منهجيا مؤسسيا، ومحاولات كبرى لحماية الجناة بكل أشكال الحماية والتواطؤ، من توزيع السجلات الإجرامية الملفقة، وتأليف سيرة ذاتية للضحية، تتماشى مع أقوال الجناة، والإصرار الرسمى على هذه الرواية بكل مكابرة، وترويجها عبر الأذرع الأمنية إعلاميا. لم تتعامل الداخلية مع رجالها باعتبارهم «متهمين» يستحقون الخضوع لتحقيق نزيه يثبت إدانتهم من عدمها، لكنها تعاملت معهم باعتبارهم مجنيا عليهم يستحقون الدعم، وشاركت فى اغتيال معنوى ممنهج للقتيل، وكأن هيبتها أو اعتبارها سيتأثران بالإعلان أن هناك فردا أخطأ وأجرم. مكابرة عصر مبارك كلها واستهزاؤه بالقانون وحقوق الإنسان ومنهجته للتعذيب، وحمايته للخارجين عن القانون من داخل نظامه، والمتجاوزين على حقوق الناس من داخل منظومة حكمه تجلت فى هذه القضية، كما تجلى فساد عصره كله فى فساد تقارير الطب الشرعى الأولى عن الحادثة، والتى انحازت أو جرى تفصيلها على مقاس الرواية الأمنية، حتى سقطت فى مراحل لاحقة بفعل دأب من آمنوا بحق خالد، وألحوا عليه، وواجهوا فى سبيله كل إيذاء وتضييق. عندما يتدبر السيسى فى وقائع هذه القضية سيعرف كيف سقط مبارك، وما الأمراض التى تستحق أن يواجهها داخل أجهزة الدولة، وإلى أى مدى كانت مؤسسة الفساد متوغلة، لم تكتف فقط بتزوير عقود الأراضى ولا بيع الشركات ولا سرقة الموازنات، لكنها امتدت إلى تزوير تواريخ البشر وسمعتهم وأسباب موتهم، وسيجد لفعله ما هو أكثر من الاعتذار والتوجيه لوزير الداخلية بتحسين معاملة المواطنين، وكأنه اعتراف منه بهذه التجاوزات. جاء وزير الداخلية الحالى بروح جديدة، قيل إنها بسبب قدومه من خارج الوزارة، وتمت إحالة عدد من الضباط والأفراد للمحاكمات فى أخطاء مختلفة، لكن الأمر يحتاج إلى الكثير ليتحول هذا الاتجاه إلى ثقافة جديدة، ولتعرف الداخلية كمؤسسة أن حماية اعتبارها وهيبتها ليس فى حماية الجناة من داخلها، إنما بحماية القانون من تجاوز رجالها قبل غيرهم، ومن هنا لا أتصور أن يمضى العام الأول من حكم السيسى، دون رد واحد على ما رصده تقرير المجلس القومى لحقوق الإنسان عن حالات تعذيب واستعمال قسوة، فى أقسام شرطة وأماكن احتجاز بعينها تكررت فيها حوادث موت المحتجزين وتعذيبهم، حسب التقرير، واستمرار الصمت على ما ينشر عن حالات الاختفاء القسرى لعدد من الشباب وصل فى تقديرات إلى 16 حالة هذا الشهر فقط. فى ذكرى خالد سعيد وبداية عام جديد من حكم السيسى، لا بد أن تتذكر صورة بضعة شباب يعدون على أصابع اليدين يتظاهرون فى أواخر عام 2010 أمام مقر الداخلية من أجل حق خالد، وتحوطهم كتائب الأمن المركزى أضعافًا مضاعفة، هذه المظاهرة الصغيرة جدا كانت دائرة الغضب التى توسعت كدوامة، وانتهت إلى ملايين فى الميادين تطالب بسقوط النظام. والرسائل من ورائها واضحة، لا يوجد قمع يمكن أن يصمد أمام إرادة مؤمنة بحقها مهما ظهرت ضعيفة، ولا يوجد نظام يمكن أن يستمر دون قطيعة واضحة مع تراث القمع والتعذيب وآلياته الموروثة من دولة مبارك. اليوم السيسى رئيس لديه شجاعة الاعتذار والإقرار بالمسؤولية عن كل خطأ، وخالد سعيد فى قبره وفى المحكمة صك براءته من إفك دولة مبارك، وفى السجن قاتلوه، لكن فى السجن أيضًا الشباب الذين ناضلوا لانتزاع حقه، والتجاوزات مستمرة، والأمور تحتاج إلى أكثر من مجرد اعتذار شفهى.