فى مثل هذا اليوم الذى تسلم فيه السيسى الرئاسة وأقسم اليمين الدستورية، وقبل 4 سنوات من الآن، كان الحديث رائجا عن خالد سعيد، قبلها بأيام قليلة كان الشاب السكندرى قد لفظ أنفاسه على يد رجال شرطة، وحاولت الداخلية فى ذلك الوقت حماية رجالها، بصنع سجل إجرامى لخالد، وتلفيق واقعة اختناقه مستفيدة من فساد فى «الطب الشرعى». هل أحاول أن أفسد الفرح بالسيسى؟ بالعكس.. أتمنى أن يدوم هذا الفرح طوال مدة حكمه. لكن كيف يدوم دون أن نفهم لماذا لم تدم للسابقين؟ لا تمثل واقعة مقتل خالد سعيد مجرد محطة غضب كبرت ككرة ثلج وانفجرت فى وجه نظام مبارك، حاشدة خلفها كل عوامل الغضب منه، لكنها فى حد ذاتها نموذجا لكثير من أمراض هذا العصر التى لا يجب أن تعود. خالد ليس حشاشا، خالد قتلته الشرطة.. لم يعد هذا كلامى أو كلام غيرى، هذا هو حكم القضاء. قتل خالد نموذجا من العمل الشرطى، الذى اعتقد طويلا أنه فوق الحساب والمساءلة، وأن المواطنين ملك يمينه، يعبث بكرامتهم وأرواحهم وأعراضهم كما يشاء، ولم يكن مجرد خطأ فردى، فحتى إن كان القتل كواقعة مجردة يمكن اعتباره خطأ فرديا لمنفذى الجريمة، فأداء المؤسسة الأمنية عقب انكشاف الجريمة أثبت أن الخطأ الفردى، يجد تبريرا منهجيا مؤسسيا، ومحاولات كبرى لحماية الجناة بكل أشكال الحماية والتواطؤ، من توزيع السجلات الإجرامية الملفقة، وتأليف سيرة ذاتية للضحية، تتماشى مع أقوال الجناة، والإصرار الرسمى على هذه الرواية بكل مكابرة، وترويجها عبر الأذرع الأمنية إعلاميا. لم تتعامل الداخلية مع رجالها باعتبارهم «متهمين» يستحقون الخضوع لتحقيق نزيه يثبت إدانتهم من عدمها، لكنها تعاملت معهم باعتبارهم مجنيًّا عليهم يستحقون الدعم، وشاركت فى اغتيال معنوى ممنهج للقتيل، وكأن هيبتها أو اعتبارها سيتأثر بالإعلان أن هناك فردًا أخطأ وأجرم. مكابرة عصر مبارك كلها واستهزاؤه بالقانون وحقوق الإنسان ومنهجته للتعذيب، وحمايته للخارجين على القانون من داخل نظامه، والمتجاوزين فى حقوق الناس من داخل منظومة حكمه تجلت فى هذه القضية، كما تجلى فساد عصره كله فى فساد تقارير الطب الشرعى الأولى عن الحادثة، والتى انحازت أو جرى تفصيلها على مقاس الرواية الأمنية، حتى سقطت فى مراحل لاحقة بفعل دأب من آمنوا بحق خالد وألحوا عليه وواجهوا فى سبيله كل إيذاء وتضييق. عندما يتدبر السيسى فى وقائع هذه القضية سيعرف كيف سقط مبارك، وما الأمراض التى تستحق أن يواجهها داخل أجهزة الدولة، وإلى أى مدى كانت مؤسسة الفساد متوغلة لم تكتف فقط بتزوير عقود الأراضى ولا بيع الشركات ولا إصلاح القصور الرئاسية، لكنها امتدت إلى تزوير تواريخ البشر وسمعتهم وأسباب موتهم. عندما تحدث نائب رئيس المحكمة الدستورية عن ثورة يناير المجيدة، وعن نظام مبارك الذى تداعى بفساده بعد هذه الثورة، تذكرت صورة بضع شباب يعدون على أصابع اليدين يتظاهرون من أجل حق خالد، بينما تحوطهم كتائب الأمن المركزى أضعافا مضاعفة، هذه المظاهرة كانت كرة الثلج التى انتهت إلى ملايين فى ميادين مصر تطالب بسقوط النظام. والرسائل من ورائها واضحة، لا يوجد قمع يمكن أن يصمد أمام إرادة مؤمنة بحقها مهما ظهرت ضعيفة، ولا يوجد نظام يمكن أن يرتكز على الظلم والفساد والاستبداد والتعذيب وانتهاك الكرامة ويستمر. اليوم السيسى رئيسا منتخبا، وخالد سعيد فى قبره وفى المحكمة صك براءته من إفك دولة مبارك، وفى السجن قاتلوه، لكن فى السجن أيضا الشباب الذين تظاهروا من أجله، وناضلوا لانتزاع حقه.. لذلك مرت ذكراه هذا العام دون إحياء، لأن قاتليه والمدافعين عنه كلاهما فى السجن. لا أمل للسيسى إلا بتحويل كلامه «أنْ لا عودةَ إلى ما قبل 25 يناير» إلى واقع تنتظره الأفعال.. من هنا يبدأ، ولا بداية أخرى مناسبة.